ما زال هناك سؤال حائر ومحير عن موعد انفاذ الاستحقاق الانتخابي، يبحث عن إجابة، أياً كانت هذه الإجابة موجبة أو نافية، ولكن من الصعب الحصول على إجابة شافية كافية بالإيجاب أو النفي على هذا السؤال العسير، إذ أن الهمسات تترى من كل اتجاه وفي كل ركن للإجابة اجتهاداً عن هذا السؤال الخطير، وهذا بلا أدنى ريب مناقض للقاعدة الفقهية التي تقرر أنه "لا اجتهاد مع النص"، باعتبار أن النص هو إعلان المفوضية القومية للانتخابات بموعد الاستحقاق الانتخابي في أبريل المقبل، وفقاً لجدول معلن عن مراسيم الاجراءات المفضية لذلكم التاريخ، وذلك بأنه من الممكن أن تقام انتخابات جزئية تقتصر على رئاسة الجمهورية، بالإضاقة إلى انتخاب الولاة. وتذهب همسات أخرى في اتجاه آخر يتعلق بالتأجيل والمصارحة به من قبل بعض الأحزاب والقوى السياسية، وتجهر بعضها بالمقاطعة، بينما المفوضية القومية للانتخابات تلتزم جدولها وتصر على نصها، موعداً وإجراءً، وبعد صمت تأمل لهذه الهمسات وذلك الجهر يقتحم الحلبة حزب المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) داحضاً هذه الهمسات بجهر القول بأن الانتخابات قائمة في موعدها، حسب جدول المفوضية القومية للانتخابات في هذا الخصوص. ويعلل المؤتمر الوطني إصراره على قيامها في موعدها وبمن شارك فيها، جاعلاً من الاستحقاق الانتخابي فرض كفاية إذا قام به حزب من الأحزاب سقط عن الباقين، ونافياً على لسان الدكتور نافع علي نافع نائب رئيس الحزب أحاديث الخرطوم الهامسة من أن هناك صفقة يجري التشاور حولها، تهدف إلى أن يتنازل الرئيس عمر البشير عن الترشيح لرئاسة الجمهورية في نظير معالجة قضية المحكمة الجنائية، إضافة إلى تأجيل الانتخابات وتكوين حكومة قومية لفترة انتقالية، معلناً بذلك الترشيح الرسمي للرئيس البشير لرئاسة الجمهورية. وفي الحقيقة أن المؤتمر الوطني يمكن أن يكون الأكثر جدية إن لم يكن الأوحد في الإعداد والاستعداد لخوض الاستحقاق الانتخابي في أبريل المقبل، مقارنة ببقية الأحزاب والقوى السياسة بما فيها قوى تحالف إعلان جوبا، إذ أنه بدأ يتحسب لكل الاجراءات الانتخابية منذ وقت طويل، ويتفاعل مع أحداثها لحظة بلحظة. وقد يذهب خصومه إلى اتهامه بأنه عمل جاهداً لسياسة التمكين والإعداد لهذا الاستحقاق الانتخابي من خلال سيطرته على نفوذ المال وقوة الإعلام وجبروت السلطان، وهذه حقيقة لا ينكرها عاقل، ولا يجادل فيها راشد. ولكن في الوقت نفسه لم تظهر الأحزاب والقوى السياسية المشاركة في ملتقى جوبا للحوار والإجماع الوطني قدراً من الجدية في التعاطي مع الاستحقاق الانتخابي، باستثناء المؤتمر الشعبي، بدءاً بالحركة الشعبية التي اختارت السيد ياسر سعيد عرمان مرشحاً لها لانتخابات رئاسة الجمهورية، وهي تعلم علم اليقين أن حظوظه قليلة إن لم تكن معدومة لجملة أسباب ليس من بينها أسباب عرقية أو جهوية، ولكنها أسباب يمكن إيرادها بإيجاز للوقوف على حقيقة عدم جدية الحركة في خوض هذا الاستحقاق، منها أنه شخصية خلافية، وأنه شخص مثار جدل في الشمال والجنوب معاً. كما أنه يمثل أحد رموز الحركة الشعبية في المشاكسة بين الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية)، ورموز مشاكسة الشريكين أثاروا حفيظة الشارع السوداني على اختلاف مشاربه السياسية، لأن هذه المشاكسة كانت خصماً على الوطن والمواطن في الشمال والجنوب. وأنه من دعاة إلغاء الشريعة الإسلامية في الشمال، ضمناً وصراحة، وهذا أمر استشكل من قبل على السيد الصادق الصديق المهدي، ضمن سياسة كنس آثار مايو، رغم تاريخه الوطني وإرثه الديني. وأن عرمان مشتط في يساريته. كما أنه محسوب على تيار السودان الجديد، وهذا التيار من المعلوم أنه ليس محل اتفاق بين كل السودانيين، لاسيما المتدينين منهم وهم كثر في السودان وخارجه. وما ذكرته من أسباب على سبيل الجرح والتعديل، وقصدت بذلك النصيحة لعامة الناخبين، لا طعناً في عرمان على جهة التنقيص المجرد عن المصلحة الوطنية، ولا غيبة لأعراضه فيما ليس مباحاً من هذا الجانب. والجرح والتعديل هو البحث في شؤون الرجال، ثابث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عن كثير من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، ثم من بعدهم. والجرح والتعديل قد بدأ في عصر النبوة المبارك واستمد شرعيته من حكم الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض الرجال بما يخدش في عدالتهم، فعن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة. وبئس ابن العشيرة ، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل، قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ياعائشة متى عهدتني فاحشاً، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره) رواه البخاري. وقال ابن دقيق العيد: "أعراض الناس حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها المحدثون والحكام". وعلى المستوى الشخصي ليس بيني وبين ياسر عرمان إلا كل خير فقد التقيته أكثر من مرة في لندنوالخرطوم، ولكن أمر ترشحه بالنسبة لي، مع اعتذاري للأخ ياسر، يبين أن الحركة الشعبية لم تكن جادة حيال هذا الاستحقاق الانتخابي، ولكنها كانت أكثر جدية في استحقاق انتخابي آخر ألا وهو ترشيح سلفا كير لرئاسة حكومة الجنوب. وكما قلت عندما استضافتني قناة ال بي بي سي الفضائية يوم الجمعة الماضي إنه لا يستقيم عقلاً أن ترشح الحركة الشعبية رئيسها لرئاسة حكومة الجنوب، بينما ترشح المتحدث باسمها لرئاسة الجمهورية، إلا إذا أرادت الحركة الشعبية أن ترسل رسالة قوية لأهل الشمال بأنها تسعى سعياُ حثيثاً للانفصال، فلذلك لا تولي أمر الاستحقاق الرئاسي كبير هم. والأمر الآخر أن الحركة الشعبية لم تحضر اجتماع قوى تحالف إعلان جوبا يوم الأحد الماضي، رغم علمها بأهمية هذا الاجتماع لإصدار قرار حول المشاركة في الانتخابات المقبلة. فيبدو من سياق الأحداث أن الحركة الشعبية توصلت مع المؤتمر الوطني إلى اتفاق مبادلة ترضي الطرفين ، فالمؤتمر الوطني يجاهد من أجل قيام الانتخابات في موعدها، والحركة الشعبية أكثر حرصاً على إجراء الاستفتاء في موعده. وهكذا بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ضاعت لحى قوى تحالف جوبا. وقد انفض اجتماع تحالف قوى جوبا المارثوني بقرار المواصلة في خوض الاستحقاق الانتخابي والاستمرار في ترشيح منسوبيه، وتشكيل آلية لتقويم الموقف، مهدداً بالمقاطعة إذا دعت الدواعي لذلك. أما الحزبان التقليديان فلم يبديا إلى الآن جدية تذكر في خوض هذه الانتخابات، مشاركة أو مقاطعة، ولم يسميا مرشحهما لرئاسة الجمهورية ناهيك عن الترشيحات الأخرى، حتى كتابة هذه السطور. وللإنصاف أقول إن حزب المؤتمر الشعبي كان من القلائل الذين أعدوا العدة لخوض هذا الاستحقاق الانتخابي، وأنه فاجأ الجميع باختيار جنوبي ليكون مرشحه لرئاسة الجمهورية من أجل تقديم نموذج حي لجعل الوحدة خياراً جاذباً ولإحداث تغيير حقيقي في الخالرطة السياسية السودانية، وفي الوقت نفسه هيأ قواعده لخوض هذه الانتخابات من خلال مؤسساته الحزبية. أخلص إلى أنه يتبين لمراقب الشأن السياسي السوداني داخل السودان وخارجه، من المشهد السياسي السوداني هذه الايام أن الاستحقاق الانتخابي يترنح بين مؤتمر وطني مستعد وتحالف جوبا متردد. فالأحزاب والقوى السياسية المعارضة من الضروري أن تدارك الموقف إذا كانت حريصة على المشاركة في هذا الاستحقاق الانتخابي، وإلا تغنينا مع جرير: "فأبشر بطول سلامة يامربع". والمعنى واضح كما يقول أستاذي الراحل العلامة البروفسور عبد الله الطيب – عليه شآبيب رحمة الله تعالى -. فالمعارضة إن كانت عازمة على التغيير حقيقةً وصدقاً عليها ان تعلم أن التغيير لا يحدث بالتمني والأماني، ولكن بالكسب والاجتهاد والانتخاب.. مصداقاً لقول أبي الطيب احمد بن الحسين المتنبي: إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام وكذلك فلنتأمل معاً قول أمير الشعراء أحمد بك شوقي: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا Imam Imam [[email protected]] ص الرأي – جريدة "التيار" – يوم الخميس 21/1/2010