في بعض الدول تجد خارج المحاكم مجموعة من الرجال ، لا عمل لهم سوى الشهادة بأجر ؛ أي أن يشهدوا زورا وهم يتقنون وظيفتهم هذه اتقانا كاملا بحيث يستطيعون الادلاء بشهادتهم هذه حول اي موضوع او واقعة معروضة أمام القضاء مدنية كانت ام جنائية ام شرعية ، ومن خلال خبرتهم الطويلة ترسخت لديهم القدرة على توقع اسئلة المحامين الدقيقة والصعبة ، مع امكانية الالتفاف والزوغان السريع في حالة تورطهم في سؤال صعب ، يحصل الشاهد على أجره بحسب قيمة الدعوى ، ويعود الى زوايا المحكمة لينتظر عميلا جديدا . طبعا القضاة نادرا ما يتذكرون اشكال الشهود واسمائهم نتيجة لضغط العمل وفي الواقع لا يوجد في القانون ما يمنع الانسان من تكرار شهادته في قضايا مختلفة . وتترتب على هذه الشهادات أحكام قضائية بالطبع . اشكاليات اخرى في عملية التقاضي مثل كون الشخص الدائن لا يملك دليلا على الدين ، وفي القضايا الجنائية قد لا تتوفر أمام القاضي البينات والقرائن الكافية لادانة المتهم فلا يجد بدا من الحكم عليه بالبراءة ، حتى ولو تيقن في ضميره بأن المتهم مذنب لأي سبب كان ، فالقاضي لا يستطيع أن يحكم بدون ادلة يعترف بها القانون ، وقد يحدث العكس ، فمثلا كان القضاء الأمريكي لا يعترف ببينة الحمض النووي ولذلك أدين الكثير من المتهمين ، وبعد اعتراف القضاء الأمريكي أخيرا بالحمض النووي كدليل مقبول قضاءا تمت اعادة فحص مدانين وتبين -من خلال الحمض النووي- أنهم أبرياء ولم يقترفوا الجريمة وكان الكثير منهم قد قضى سنوات خلف القضبان وهم أبرياء فتم تعويضهم . كل هذه الأمثلة من شهادة الزور وانعدام الادلة والبينات غير المقبولة قضاء وغير ذلك الكثير ، أثارت اشكالية هامة جدا وهي اشكالية اختلاف الحقيقة القانونية عن الحقيقة الواقعية. فالحقيقة القانونية قد تكون ادانة متهم بريء او تبرأة متهم حقيقي... أو خسارة دائن لحقه المالي ، لكن القانون في الواقع لا يكترث للحقيقة الواقعية بل للحقيقة القانونية فقط ، أي تلك الحقيقة المستمدة من البينات والقرائن التي اقرها القانون أمام القضاء ليصل الى الحكم. وأغلب المحامين الناجحين في الغرب هم من يفهمون هذا الاختلاف بين الحقيقة الواقعية التي لا شأن للقضاء بها والحقيقة القانونية التي هي الحقيقة التي تم استكشافها عبر الوسائل التي رسمها القانون. قرأت سابقا في مجلة قضائية بريطانية بحثا عن كيفية اقناع المحلفين ، فالمحلفون نظام يحاول أن يقرب بين الحقيقة الواقعية والحقيقة القانونية ، ومع ذلك فهناك ضوابط تحكم هذا النظام نفسه وتقلل من فاعليته فالقاضي يقوم بتوجيه المحلفين للالتفات او عدم الالتفات لدليل ما ، كما أن القاضي يرفض التعرض للأدلة غير المقبولة قانونا كما هوالحال في دليل مصل كشف الكذب او الحمض النووي سابقا ، وبالتالي فإن الحقيقة الواقعية قد تظل بعيدة تماما عن الحقيقة القانونية ، بل أن نظام المحلفين قد أثار اشكاليات أخرى مهمة ففي الدعاوى التي يكون أحد الخصمين فيها مليء ماليا كالشركات الكبيرة والمليارديرات والخصم الآخر فقيرا فإن شعورا نفسيا لدى المحلفين بالتحيز للفقير ينمو ويزداد هذا الشعور كلما قام محامي الخصم الفقير بتشويه صورة الخصم الغني وتصويره ككائن يفترس الضعفاء ، إذن فالعوامل النفسية تلعب دورا كبيرا في تشويه الحقيقة القانونية بدلا من أن تقربها من الحقيقة الواقعية في نظام المحلفين. ويبلغ اهتمام القانون بالحقيقة القانونية مبلغه عندما يرفض حتى ان يحكم القاضي بعلمه الشخصي ، فلو رأي القاضي بأم عينيه شخصا يقترف جريمة فلا يستطيع أن يدينه بناء على هذا العلم وليس أمامه من حل سوى التنحي عن جلسة الحكم في الدعوى ليكون شاهدا فيها . لم تتناول الأبحاث القانونية بكثرة هذه الاشكالية ، أي اشكالية تباعد المسافة بين الحقيقة القانونية والحقيقة الواقعية ، والحال أن تقليل هذه المسافة يحتاج الى تطوير ليس العمل القضائي بل الى تطوير الوعي القانوني لدى المجتمع بحيث يكون لكل مواطن محاميه الخاص الذي يوكل له القيام بكافة التصرفات القانونية نيابة عنه ، كما يحتاج الى نظام أمني محكم وتدريب عالي لرجال الضبط الجنائي أو القضائي من الشرطة لأنهم هم المختصون قبل كل شيء بالبحث عن مرتكبي الجرائم والأدلة . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.