في خضم تصاعد مؤشر تيرمومتر تكاليف المعيشة اليومية في السودان لا يلقي المواطن بالا لكثير من المستجدات السياسية في البلاد.. فأخبار التشكيل الوزاري أو التفاعلات السياسية داخل الحزب الحاكم - المؤتمر الوطني - أو جدال أعضاء البرلمان أمور تعتبر ترفا ليس للمواطن اللاهث نصيبا فيه. في آخر اجتماع لأعلى هيئة قيادية في الحزب الحاكم (المكتب القيادي) أجرى الحزب الأربعاء الماضي تعديلات في قطاعاته وأماناته.. وإن كان المواطن العادي زاهدا في التعاطي مع أخبار هذه التعديلات بسبب الضغوط المعيشية فإن عضوية وقواعد الحزب كذلك زاهدة بسبب انسداد أفق الإصلاح في الحزب، حيث أصبحت المواقع القيادية في الحزب دُولةً بين قلة من التنفيذيين. وزراء الحزب يشغلون أمانات وقطاعات الحزب في ذات الوقت الذي يؤدون فيه مهامهم التنفيذية في وزاراتهم.. خطورة هذه الازدواجية ليس في صعوبة إنجاز المهمتين في آن واحد، ولكن ذلك يعني أن مؤسسات وهياكل الحزب ليست مرجعية مستقلة للجهاز التنفيذي الذي يضم عضوية الحزب، بل إن مقولة "حزب الدولة ودولة الحزب" أصبحت تتجسد بشكل صارخ، وكأننا أمام نظام الحزب الواحد حيث الحزب هو الذي يسير الدولة. كما في الصين الشعبية (الحزب الشيوعي الصيني) وكوبا (الحزب الشيوعي الكوبي). بيد أن الواقع يقول أن هذه الصورة القاتمة ليست إلا ديكورا لصورة أكثر قتامة.. فلو افترضنا أن إصلاحا مرجوا في الحزب الحاكم قد تم وأن مؤسسات الحزب نشطت وعملت بفعالية قصوى وأن الرجل المناسب قد وضع في المكان المناسب، فما نصيب قرارات الحزب وخططه في إثراء العملية السياسية في ظل الوضع المتنفذ للمؤسستين العسكرية والأمنية، ضف لهما لوبي الفساد والمصالح الضيقة المنتشر في جسد الدولة والذي بالضرورة ليس حريصا على السلطة الحاكمة لأنه يستطيع أن يتلون ويتماهى مع أي سلطة بديلة قادمة؟. إن المشكلة أكبر من مجرد إصلاح مطلوب ومستحقة، لأنه من دون الإصلاح الهيكلي لبنية الدولة المدنية ومفهومها فلن تنشط المؤسسات السياسية وتقوم بدورها، لا حزب المؤتمر الوطني ولا بقية الأحزاب والقوى السياسية.. وفي ظل الأوضاع الحالية المعقدة يبدو الأمر أمنية مستحيلة التحقق وهي قيام الجيش بمهامه في حماية الوطن دون الولوغ في السياسة وكذلك جهاز الأمن والمخابرات الذي مهمته حماية أمن الدولة وأمن كافة المواطنين دون فرز بينما تقوم الأحزاب بمسؤوليتها السياسية والوطنية في ظل دولة مدنية قائمة على المؤسسية. لا يبدو أن العقل السياسي الحاكم مُتنبّه تماما لمشاهد الفقر المدقع وتضخم حجم الفئات الاجتماعية المهمشة وانتشار البطالة، كلها مظاهر تعكس الخلل البنيوي في الاقتصاد القومي بسبب السياسات التي تتضارب مع متطلبات الناس واحتياجاتهم، لأغراض سياسية في المقام الأول. في العام الماضي ذكر مسؤول كبير بديوان الزكاة – جهة حكومية - في تقرير له، إن الزكاة لا تكفي معدلات الفقر بالبلاد بعد أن فاقت نسبته 46%. وفي ذات الوقت قال مدير بنك الطعام المسؤول عن محاربة الفقر والجوع، أن هناك (6) ملايين طفل يعانون من سوء التغذية، و(35) ألف تلميذ لا يتناولون وجبة الإفطار في العاصمة الخرطوم وحدها وأن 80% من طالبات السكن الداخلي لا يتناولن وجبة العشاء، مؤكدًا أن الفقر يتصاعد بصورة محزنة. في ظل نظام الدولة الأمنية القابضة يتلاشى مفهوم الاقتصاد السياسي الذي يعنى بدراسة حالة المواطن تحليل الظروف التي يعيش فيها وتبني القوى الفعالة التي تؤدي دورها في الحياة الاجتماعية. وأينما وجد نظام قابض مع موارد مالية شحيحة، غاب هذا المفهوم، فهو يرتبط بالتناقض القائم بين الموارد النادرة من جهة، وجهد الإنسان الهادف إلى مواجهة الندرة، فهو وفقا لذلك محاولة إدارة الموارد النادرة وطرق وأساليب تحويل هذه الموارد المتاحة لما يفي الحاجات المتعددة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. //////////////