بسم الله الرحمن الرحيم في ظهيرة الإثنين التاسع عشر من يونيو الماضي الموافق الرابع والعشرين من رمضان توقف قلب آسيا مسمار عن الخفقان، رحلت آسيا إلى دار الخلود بكل سماحة روحها وطيبت نفسها بعد صراع مع المرض، ولم يكن غريباً أن ترحل في يوم الإثنين وفي العشرة الأواخر من رمضان فهي الطيبة النقية الطاهرة، رحلت وهي محاطة بكل الذين أحبوها وأحبتهم ولو كانت النفوس تفدى لتسابق هؤلاء جميعاً لأجل فداها، وقديماً قال الشاعر العربي: وإذا المنية أنشبت أظفارها*** الفيت كل تميمة لا تنفع وقال جيلي عبدالرحمن عن المنايا: "ما المنايا؟ إنها أقدارنا وإمتداد البحر... أحضان السواحل لا ألوم الدمع إن هامت به وحشة النخل وأحلام البلال لا ألوم الليل، والنجم هوى يعتلي الفجر المتاريس، الجنادل" ووقع قضاء الله وتصدع بنيان قوم وإنطوت صفحة من الأريحية والكرم والسماحة وقد ظلت الراحلة لأكثر من أربعة عقود تفتح بيتها بل وقلبها الكبير الذي إتسع الجميع، وفي كل جمعة كنا نتسابق لننعم بأريحيتها وكرمها وشهية طعامها، أكثر من أربعين عاماً وهي لا تكل وتتفانى في خدمتنا وتسعد بكل هذا كأننا نحن الذين نكرمها بحضورنا وبالحيوية التي تضج في منزلها العامر بعد صلاة الجمعة بالضحك والحبور والأنس، وكانت تصحو باكراً وهي لا تعرف السهر إطلاقاً وظلت وفية لنصيحة الشيخ فرح ود تكتوك الذي يقول مخاطباً إبنته : " قومي بدري وأزرعي بدري وأقلعي بدري حشي بدري شوفي كان تنقدري ". وليس مثل آسيا في التفاني في إدارة المنزل والكدح والعطاء وظل المنزل قلعتها التي لا تساوم في الذود عنها وكان حصيلة كل ذلك البيت النظيف وحوشه الواسع والأكل الطيب، ليت لي شاعرية محجوب شريف لأصف مائدة الراحلة العامرة بأشهى أنواع الطعام، وقد وصف محجوب صينية الشاي في منزل عبدالكريم ميرغني قائلاً: يا تلك الترامس وينو الصوت هامس كالمترار يساسق يمشي كما الحفيف كم في الذهن عالق ثرثرة المعالق والشاي اللطيف تصطف الكبابي أجمل من صبايا بينات الروابي والضل الوريف أحمر زاهي باهي يلفت إنتباهي هل سكر زيادة أم سكر خفيف وفي قصيدة أخرى يرثي محجوب شريف علي المك ويصف مرة أخرى صينية الشاي: والنار الدغش والريكة جمب الصاج والشاي باللبن برادو لابس تاج صينيتو الدهب ترقش كبابي زجاج والسكسك المنضوم حول الجبينة نجوم والفنجرية تقوم تقهوج الحجاج طق طرق يا (بن) القهوة كيف ومزاج خلي النعدل الراس ونحصل الترماج وحقاً إن مائدة آسيا الحافلة بالطعام الشهي جديرة بالشعر ليس لأستمراريتها لأكثر من أربعين عاماً ولكن لتفاني الراحلة وهي تعدها لتسعد غيرها وكان هذا دأبها، وظلت الراحلة في ذهني دائماً الوجه الأخر من عملة تظهر فيها صورة الراحلة في وجه وصورة الوالدة سكينة عالم في الوجه الأخر وكلاهما ظلمهما الدهر - وإن كانت الراحلة سكينة بدرجة أقل- لكنهما واصلا الحياة برأس مرفوعة وكبرياء بل وبتضحية ونكران ذات وتفاني لأجل الأخرين وكأن أي منهما لا يعاني من مرارات وإحباطات وهما بإرادتهما وشجاعتهما تجاوزا الواقع وأعطيا بأريحية وتجرد، وسيظل مقعد الراحلة آسيا شاغراً بالنسبة لنا نحن جماعة الجمعة، سنظل نحس بالفقد الكبير وبرأسنا الذي إنقطع وبالمرق أو الرصاص الذي إنكسر بفقد ورحيل آسيا الفاجع، وهذه الجماعة نفسها ما كان لها أن تواصل وتحافظ على تماسكها والروح الطيب الذي يربط بين أفرادها لولا أريحية وبشاشة الراحلة التي ظلت تصر على حضورنا مهما كانت الظروف حتى في أيام مرضها الذي نال من صحتها وعافيتها ولكنه لم ينل من روحها الشفيفة، حتى في هذه الأيام كانت أحرص ما تكون على الوفاء لنا وتعتبر راحتنا وإكرامنا واجباً مقدس، لكن بطبيعة الحال هي أحرص على فتح البيت الذي لم يغلق أصلاً وظل مضافة خصبة عامرة بالضيوف من الأهل والأحباب، وقد عرف والدها الأمين عبدالرحمن الملقب بمسمار، عرف بالكرم والأريحية، وكان على درجة من الثراء حيث جمع مالاً حلالاً من التعامل مع الجيش الإنجليزي، وليس أدل على هذا الثراء مخلفات الطائرة التي إشتراها من الإنجليز وظلت قابعة أمام المنزل لسنوات خلت، أما بالنسبة لجماعتنا فقد درجنا على اللقاء ظهيرة كل جمعة لأكثر من أربعة عقود وظلت الجماعة تفقد رموزها واحداً بعد الآخر، خاصة بالرحيل للدار الأخرة، فقد سبقنا لتلك الدار الخال إبراهيم عالم والخال جعفر ميرغني والخال محمد عمر عباسي وكمال حامد (كمال حنوني) عليهم جميعاً رحمة الله. وكانت الجماعة تتشرف من حين لأخر ببعض الضيوف الأفاضل مثل الراحل الطيب محمد الطيب الذي كان يضيف الكثير بروحه الآسرة ومعرفته الموسوعية وكذلك كان يغشى الجماعة في مرات عبدالله علي إبراهيم ويضيف كذلك بقفشاته وعمق ثقافته، لكن رحيل آسيا كان ضربة قاسية وفقداً كبيراً لكنها إرادة الله وسنظل على العهد لآسيا ما إستطعنا، فهو الموت الذي يصطفي الأخيار الموطئين أكنافاً فالمنية حامت حول الحمى وأصطفت خيارنا، كما قال صلاح في ملحمته (نحن والردى ) : يا منايا حوّمي حول الحمى واستعرضينا واصَطفي كلّ سمح النفس، بسّامِ العشياتِ الوفي الحليمَ، العفّ ، كالأنسامِ روحاً وسجايا أريحيِّ الوجه والكفّ افتراراً وعطايا فإذا لاقاكِ بالبابِ بشوشاً وحفي بضميرٍ ككتابّ اللهِ طاهرْ أنشُبي الاظفارَ في اكتافِه واختطفي وأمانُ الله مِنّا يا منايا كلّما اشتقتِ لميمونِ المُحيّا ذي البشائْر شرّفي تجدينا مثلاً في الناس سائرْ نقهر الموتَ حياةً ومصائرْ إن فقد آسيا فقد أمة في إمرأة وأعزي نفسي وأعزي الأهل والأحباب وأخص منهم أشقاءها وشقيقاتها وصديقاتها وشلة الجمعة.. ألا رحم الله آسيا وسقى قبرها بالشآبيب. محمد المهدي بشرى عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.