السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    عيساوي: حركة الأفعى    أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السباق إلى الخلف .. بقلم: كوكو موسى
نشر في سودانيل يوم 24 - 08 - 2017

قد يبدو العنوان غريباً وغير متسق في معناه مع ما نود أن نطرحه في السطور التالية ، ولكن العنوان نفسه جاء كخاطرة وليدة اللحظة والخواطر كالوحي إن تم تعديلها فسدت فيصبح الكتاب محرفاً لمن يؤمنون بأن هناك كتاب.
أما الموضوع نفسه فقد تطرقنا إليه عدة مرات كنقطة من ضمن نقاط عدة في مقالات سابقة ورأينا أن نتوسع فيها في هذا المقال ، وفي نفس سياق المقالات السابقة وهو سياق ما يسمى في السياسة السودانية بنضال الهامش أو كما أسميناه ب (حركة الهامش) فقد يبدو أننا قد تحاملنا وحملنا كل الأخطاء للنخب المثقفة من الوسط والمركز الثقافي السوداني ، ولا ندعي هنا أننا سوف نقوم بتخفيف العبء عليهم فسيكون هذا من باب الكذب الضار ككذب الأب على إبنه ليخفف عنه حقائق الحياة القاسية بقصد الحماية فتكون العواقب أكثر وخامة عليه عندما يتعرف على هذه الحقائق عن طريق الصدمات التي ربما تزيحه عن الحياة نفسها. ونحن بالتأكيد نقصد هنا المثقف التقدمي العلماني اللبرالي واليساري ، فهم يشكلون طليعة عليها عبء ثقيل ربما يكون أحد أثقل الأعباء لنخبة مثقفة في دولة ما ، والمعركة داخل هذه النخبة لتشذيب أدواتها ومفاهيمها التي تحارب بها لتصبح فاعلة في محيطها الحيوي لتؤدي دورها المنوط بها إنسانياً في هذه المنطقة لاتقل أهمية عن معركتها الرئيسية لنشر الوعي تجاه جمهورها وقيادته.
كلنا يعلم أن النزاع السوداني قد بدأ في العام 1955م حتى قبل أن يكتمل إستقلال السودان في العام الذي يليه مُلقياً بظلاله الثقيلة على المشهد السياسي لما بعد الإستقلال إلى اليوم مُشَكلاً بتداعياته جل الأحداث السياسية الهامة لفترة الحكم الوطني. ومن المعلوم أن الحرب بدأت بحمل الجنوبيين للسلاح بسبب مظالم معلومة وتطورت مطالبهم إلى الحكم الذاتي ثم المطالبة بالإستقلال التام حتى ظهور د. جون قرنق على المسرح والذي إلتف على الجميع في ظاهرة فريدة تمكن من خلالها من تحويل المطالبة بإستقلال الجنوب إلى مطالبة بإستقلال جميع السودان من النظام الإجتماعي ولإقتصادي والسياسي القديم للسودان مُظهراً إلى السطح ما عرف لأول مرة بمشروع السودان الجديد والذي مدد النزاع جغرافياً من عمق الجنوب ليتجه شمالاً حتى جبال النوبة وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق حتى تاخم لما يعرف الآن بولاية النيل الأبيض ثم صانعاً قوساً ممتداً شرقاً حتى البحر الأحمر وغرباً حتى دارفور متاخماً حدود ليبيا كما مدده إثنياً ليضم تقريباً كل الإثنيات السودانية بما فيها قطاع من العناصر التقدمية للوسط والمركز ، في تجربة في تقديري لم يتأمل فيها ويتناولها بالنقد المعنيون من السياسيين والباحثين السودانيين والمؤرخين بما يكفي ، كما لم تجد التوثيق الذي تستحقه.
رغم أن قرنق نفسه لم يأتي بشيء جديد أيدلوجياً ، فدعوة السودان الجديد ليست سوى العلمانية والديمقراطية الغير فئوية (غير المرتكزة على طوائف، عوائل، مذاهب دينية، .. إلخ.) والتي يتفق أغلب الفكر الإنساني المعاصر أنها أنجع وسيلة للم شمل مجموعة من البشر في رقعة من الأرض ورثوها أو وجدوا أنفسهم فيها معاً بطريقة ما حتى لو كانت بينهم تناقضات عرقية ، إثنية ، دينية ، طبقية .. إلخ وتضييق هذه التناقضات والتي غالباً سينتج عنها إثنية ثقافية واحدة بالتراضي (السودانوية) ما يمثل حالة ما يسمى بالقومية الثقافية Cultural nationalism والتي تتعدد داخلها العرقيات والأديان (أمريكا ، كندا ، أستراليا) في عملية إنتخاب طبيعي ستقود في النهاية إلى أن يتحدثوا على الأقل رسمياً - بالتراضي أيضاً - لغة واحدة أو إثنتان بالكثير مما سيؤدي في النهاية بأفراد هذه الإثنية للتفرغ لتضييق الفروقات الطبقية كما يحدث في أوربا ومحاولات أمريكا أن تحذو حذوها كما شاهدنا في سباق الإنتخابات الأمريكية الأخيرة وأطروحات بيرني ساندرز في مواجهة هيلاري كلينتون للفوز بترشيح الحزب الديموقراطي والذي يجزم معظم المحللين بأنه لوكان قد فاز بالترشيح لكان من شبه المؤكد أنه سيهزم دونالد ترامب والذي يمثل نكسة كبرى للتقدمية في الولايات المتحدة. وهذا ليس مشروعاً ، هذه مسيرة بشرية سوف تصل غاياتها عاجلاً أم آجلاً وسوف لن يجدي معها التحوير والهروب الفكري كجعل السودان عريضاً مثلاً كما ينظر الطائفيون أو مثلثاً كما ينظر الإسلاميون أو حتى طويلاً. فكل الذي فعله قرنق في دعوته أنه أراد أن يفتح أعين التقدميين والعلمانيين من الجهتين هامشاً ومركزاً بأن هذا الكفاح يمكن أن يخاض قومياً ليصنع في النهاية دولة كبيرة سياسياً وإقتصادياً قد لايقل حجم إقتصادها عن أستراليا أو كندا. ففي الحقيقة إن الغالبية تعتقد أن الصراع كان يخاض لا قومياً من قبل الجنوبيين فقط ولكن بنفس الكيفية إن لم يكن أسوأ كان يخاض لا قومياً من الشمال بطريقة شعورية ولا شعورية كانت تهدف للم الجنوب بجنوبييه أو بدونهم كممتلكات موروثة - لا يجب التفريط فيها - من الفترتين الإستعماريتين التركية والثنائية كفهم عام لدي اليمين واليسار.
ولا يخفى على أحد بأن الخسائر والأضرار التي تمخضت عن هذا الصراع فادحة وكارثية على جميع أطراف النزاع وإن كان الوقع الأكبر بوضوح من نصيب الهامش فحرب الجنوب وحدها قد حصدت من الطرفين - مع غالبية من الجنوب ومناطق النزاع الأخرى - أكثر من مليونين من الأرواح السودانية النفيسة سواء بالقتال المباشر أو تداعياته من الجوع والمرض ونزوح الملايين داخل وخارج السودان هذا غير الخسائر في القوى الناعمة من التعليم والصحة والقيم والأخلاق ناهيك عن تبدد الثروات الغابية والحيوانية والزراعية والمعدنية والتدهور البيئي وخلق أجواء ساهمت ومكنت لزمرة من اللصوص الآيدلوجيين شديدي التنظيم من نهب الأمة الموروثة بإسم السودان كما لم يتم نهب أمة من قبل في التاريخ المعاصر بالنسبة لحجم الثروة المتوفرة لها. الأمر الذي حدى بالبعض بأن يتسائل متعاطفاً بأن هل الأهداف التي نشب بسببها هذا النزاع ترقى بأن يتم تقديم كل هذا الكم الهائل من القرابين البشرية والمادية والذي مازال مستمراً إلى يومنا هذا ، وهذا سؤال فلسفي أزلي نُحيل من يتسائلون به إلى التاريخ الإنساني والذي يقدم إضائات كافية عن كيف تمت المسيرة البشرية حتى الآن ، وليست الحركة التقدمية للإنسانية سوى ''محاولةʽʽ القضاء على أن لا تكون الرحلة التقدمية للبشر بهذه البشاعة وهو الأمر الذي ظاهرياً نجح فيه نسبياً ، نظرياً وعملياً إلى حد ما الغرب بعد تضحيات مذهلة تفوق الخيال - ولكن هل الغرب نفسه الآن نجح في أن لايستخدم العنف؟ - فمن باب أولى إذاً ونَحنُ نَحن أن نعرف كيف سيكون نصيبنا من أشكال معالجة النزاعات وهو الشكل القبيح الذي نحن فيه الآن وهو واقع إجباري ليس فيه مكان لإختيار شكل النزاع كأنك تتسوق في سوق راقي للنزاعات آخر موديل ، فكل مجتمع حسب مكانه في التقدم البشري سيكون له موديل معين يناسبه من النزاعات ستفرضه عليه الطبيعة البشرية عموماً ، وهذا واقع يجب التعامل معه كما هو حتى نرى إلى ماذا سيتوصل البشر فيه - بما فيهم نحن. وسوف لن يُخفي هذا أنه من المعروف إجتماعياً بأن هناك أحياناً قيادة إنتهازية (ليس دائماً) تقوم بإستغلال الأوضاع بإشعال الحروب ولكن يجب أن نفرق بأن هذا الإنتهازي ليس سبب الحرب فهو يؤدي دور إجتماعي أقرب لعود الثقاب وهو دور يبدو أنه حتمي لافكاك منه إلا بالقضاء على الأسباب الحقيقية للحرب فالمذنب الحقيقي من يهيئ الوضع ويعطي الأسباب لها وهي المنظومة المجتمعية ، والإنتهازي هنا يؤدي دور مكنيكي مكمل ليس إلا ، بل وأحياناً يكون دوره مهماً حيث قد ينقذ شعبه من الإبادة إذا ثار دون تنظيم ، فيقوم بتنظيمه وقيادته .. وقد يقوم بتخليصه سواء بوضعه في مكانه الصحيح في مجتمعه القديم أو فصله تماماً .. ثم يشعر ''بالقداسةʽʽ فهو المخلص ، فيتعاطى الدكتاتورية ، وبعد حين يخلعه شعبه أو زمرة من العسكر وقد يتم سحله في الشوارع .. إلى أن تأتي قيادة رشيدة. وهنا غالباً لافرق إذا كانت القيادة إنتهازية من البداية أم لا فهذا سيناريو شهدناه جميعاً مع إستثناءات قليلة لقيادات واعية منذ البداية أو إكتسبت الوعي في الطريق ولم تتورط في هذا المشهد فخرجت بصورة البطل الذي يسبح الجميع بحمده حتى لو لم يحقق شعبه إنجاز كبير.
لذا فإن من يحلمون (الحلم ليس عيباً ولكن الإفراط في أحلام اليقظة للهروب من الواقع مضر) بأنه يجب أن يتم التعاطي بين طرفي الصراع بوضع الزهور في ثنايا الجسم مع حمل وردة بطرفي الأصابع وتقديمها للطرف الآخر والعيون تترقرق من الحب ثم يتم بعدها التحاضن والعناق الشديد مع البكاء والتجعير وعض السبابة مع النهنهة ندماً على الكراهية السابقة المتبادلة .. أعتقد أن هذه صورة غير واقعية. هذا الموضوع ليس موضوع كراهية وحب ولكن إعمال القليل من الحسابات المجتمعية المنطقية ستوضح أو تعطي فكرة على الأقل بإن التفاعل الإجتماعي في مجتمعنا المأزوم هذا سوف لن يؤدي سوى للصورة التي نحن عليها الآن ، فنحن بشر عاديين سوف تسري علينا نظريات علم الإجتماع كأي بشر آخرين في هذا الكوكب. وبعيداً عن السخرية فالبعض يعتقد أنه يجب التخلي عن السلاح لصالح الكفاح المدني وهي دعوة كريمة ولكن ندعوا أصحابها قبل أن يطلقوها بتيقن أن يضعوا أنفسهم مكان الآخرين من الهامش الذي يراد له أن يلقي السلاح ويتبع أساليب مدنية أخرى في النزاع .. فإذا كان أفراد المركز أنفسهم بعد أن خذلهم قادتهم - هبة سبتمبر 2013م نموزجاً - قد تم حصدهم بالرصاص بلا هوادة (بما فيهم أطفال وقصر) وهم عزل حتى من العصي (جمع عصاة) وكانت هناك دعاية وشائعة فقط بأن للهامش ومطالبه السياسية أصابع في الموضوع ، وهذا شرف لايمكن أن تدعيه حركة الهامش وأزرعها من الحركات المسلحة إلا من باب الدعاية السياسية فقط ، فالهبة نفسها كانت هبة شعبية عامة عفوية ومشاركة أفراد الهامش فيها كانت كأي قطاع آخر من الشعب ، والنظام نفسه كاذب ويعلم ذلك جيداً فقد كان يريد مبرراً يرتكب به المجازر ضد حاضنته الإجتماعية التي أرادت الإنتفاض عليه وما كانت جعبته لتخلو من المبررات ولكن كان هذا أقربها وأخبثها فقط ففي كلا الحالات كان النظام سوف يجزر المتظاهرين. أما إذا كان الأمر حقيقياً وكانت تلك هبة للهامش إنتشرت عدواها لباقي الشعب فمن المؤكد أنه كان سيتم حصد كل شخص من الهامش يسير في الشارع بالرصاص فوراً وينتقل الأمر إلى تجمعات الهامش السكنية لإرتكاب مجزرة تأديبية سريعة (لردع كل من تسول له نفسه التلاعب بمقدرات وحياض الوطن).
أفراد الهامش (بما فيهم من هم داخل الحكومة - حتى الجنود) في مخيلة الحكومات السودانية كلها منذ بدء الحكم الوطني مخونون (مشروع خائن) ومعسكرون (إحتياطي عسكري للعدو) (حتى في المخيلة الشعبية) ولهذا فإنهم في أقرب محك يسقط عنهم الحق المدني فوراً في قانون مجتمعي صامت يعرفه الكل لافرق فيه بين حكومة وشعب - وسيشارك في تنفيذه بحماسة أفراد من الهامش نفسه لتسقط عنهم العقوبة.
ولهذا فإن من يقدمون الدعوات للهامش لإعتماد النضال السلمي المدني فقط فإن هذا قد يقود مع بقية القوى الأخرى لإسقاط حكومات المركز ولكن سوف لن يضمن حل مشكلة الهامش ، وفي رأيي وهذا رأي شخصي قد يكون غير موضوعياً أتحمل مسؤليته فإن أصحاب هذه الدعوات من المثقفين الحداثويين الصادقين سليمي النوايا إما أنهم بعيدون عن ثقافة الشعب السوداني أو أن مشاعرهم الرقيقة والتي هذبتها الثقافة الإنسانوية لا تتحمل الواقع. أما من يقدمونها من الطائفية فبالتأكيد أن هدفهم جمع صغار الشياه (جمع شاة) في أحضان الذئب.
ودعونا نعرج إلى سؤال فرعي إفتراضي وهو هل كان الأمر سيشكل فارقاً من ناحية الحرب إذا كانت الدولة يقودها يمينيون أو يساريون تقليديون؟ ونعتقد أن مايو قد قدمت بروفة لا بأس بها!! فرغم إحلالها للسلام لفترة طويلة نسبياً إلا أنه لم يكن سلاماً حقيقيا بالمعنى المعروف مما أدى لتفجر الأوضاع بعد ذلك في حرب ثانية كانت الأولى بالنسبة لها كالروضة بالنسبة للثانوي العالي. كما أن الديموقراطية الحزبية والتي سيطرت عليها الطائفية على ثلاثة فترات لايمكن أن تدعي أنها كانت ستحدث فارقاً كبيراً. فالكل كان يعمل بنظرية الترويض للهامش والفارق الوحيد كان في درجة الحنان السياسي لفرقاء السياسة في المركز حيث يمكن لليساريين أن يدعوا أن صدرهم نسبياً أكثر دفئاً ، أما الطائفية فصدرها كصدر السيد لأملاكه والعاملين فيها من الكادحين والمحرومين ، أما الأسلاميين فتعاملوا بالكرش فكانت كرشهم أكبر للأملاك والعاملين فيها حيث يتم الهضم التام وإمتصاص الغذاء بكفائة عالية تنتج برازاً خشبياً ليس فيه أي بقايا من العناصر الغذائية (مع المعذرة ولكن البراز تكون به عناصر غذائية لأن الجسم غالباً لايقوم بإمتصاص كامل الغذاء). وبما أن الإسلاميين قد تعاملوا مع الهامش كسرطان فقد كانوا كالكيماوي لم يفرقوا بين الخلايا المريضة والسليمة فقد ضربوا الهامش مع إلحاق أضرار كبيرة بالمركز.
حسب الصورة التي رسمناها في الفقرات السابقة يبدو أن هناك ممارسة وإعتقاد سائد لدي المثقفين العضويين هامشاً ومركزاً الذين يعملون وسط المجتمعات السودانية لنشر الوعي والمساهمة في التحرر ، فهم يعملون في الإتجاه العكسي - الهامش - لإعتقادهم بأنه لازالت هناك فجوة في هذا الإتجاه وقد غفلوا عن فجوة ضخمة أمامهم مباشرة فالعمل تجاه الهامش سوف لن ينتج إلا الحرب لأسباب موضوعية ذكرناها ، أما العمل تجاه المركز سيوقف الحرب نهائياً. قد يكون سبب التركيز على الهامش الإعتقاد أن هذا سيتمخض في النهاية عاجلاً أو آجلاً عن إنهيار المركز بالقوة ودعونا نفترض جدلاً أن العمل تجاه الهامش بلغ قمته المرجوة وقادت تداعياته إلى إنتصار عسكري حاسم ، فغالباً سيتم الإلتفاف حول هذا الإنتصار بنعومة وسيتم إجهاض أو تعديل أهدافه النهائية بعد حين عن طريق قوى المركز المهزومة نفسها ، فالمركز ليس أشخاص يتم إعدامهم أو نفيهم ، المركز مجموعة قيم ثقافية ومؤسسات رسمية وغير رسمية يعتنقها الهامش نفسه خصوصاً الهامش المتبقي بعد ذهاب الجنوب وسيتم إختراقه عن طريق هذه المؤسسات والقيم ، فالهامش المتبقي هو الهامش الذي قطع شوطا في إعادة إنتاجه Acculturation من المركز ووضعه ليس كالجنوب. وإذا لم تتحقق هذه الفرضية ففي أفضل الحالات سيتم تفريخ بؤر جديدة للنزاع في الشمال على شاكلة بوكو حرام والمسلحين الإسلاميين في شمالي نيجريا ومالي. ولهذا حان وقت توجيه الجهود في الإتجاه الصحيح مع المواصلة في الإتجاه القديم - الهامش - فالهامش تم تثويره وإنتهى .. وقطع خطوة في مشوار الوعي رغم تفشي الأمية. فالمعركة الحقيقية ذات التضحيات الضخمة الآن هي معركة الوعي تجاه الوسط وفي صفوف المثقفين أنفسهم ورغم أنه ليس فيها رصاص ومعارك حربية إلا أن فيها الموت أيضاً ولاتقل خطورة ويجب أن لاتترك لمثقفي الوسط فقط ، فهذا واجب إجباري تحت جميع السيناريوهات وهو واجب مرهق شاق يجب أن لا تتهرب منه النخب المثقفة من الجهتين مركزاً وهامشاً وبما أنه قد يبدو إجبارياً فقط لمثقفي المركز إلا أنه لايقل إجبارية لمثقفي الهامش الذين يريدون أن يعطوا فرصة للوحدة أو حتى تقرير المصير. لقد كان من أخطاء مثقفي الهامش نفسه وفاعليه التماشي لحد كبير مع مفهوم أن هذا الواجب فرض كفاية وتركهم المعركة لمثقفي الوسط فقط بإعتبار أن هذه مهمتهم وقد كان هذا قصوراً قومياً من الطرفين. أما كيفية التوعية فهذا موضوع كبير يجب فيه التخلي عن العصبيات السياسية والمنهجية لصالح تكتيكات وإستراتيجيات جديدة تكون نتاج بحث علمي حقيقي في كيفية توعية هذه الحاضنة الإجتماعية العصية على الإختراق ، فالغوغائية والعقائديات والتكلس الفكري سيزيد الأمر سوءاً فقد حان فعلياً وقت إستخدام العلم ولا بد أن تتفق على هذا جميع التيارات العلمانية وتوحد جهودها لتخرج برؤية شبه موحدة في هذا الإتجاه ففي تقديري إن وجود تيارات وأحزاب علمانية متعددة وفوق هذا كله متصارعة يبدو كالفلاحين الذين يختلفون ويتنافسون على أرض صخرية بطحاء لفلاحتها.
المركز قابض نعم وهناك إعتقاد راسخ لدي البعض بأن الخسائر التي ألحقتها الإنقاذ بالمجتمع غير قابلة للإصلاح ، لكن وكما يقول الأمريكيون You never lose everything فعصف ذهني من النخب الجبارة المتوفرة للتيار التقدمي اللبرالي واليساري السوداني مركزاً وهامشاً مع الإرادة وإخلاص النوايا قد تسفر عن حل موطن يصلح للمعضلة السودانية. وكما ينسب لإنشتاين تعريفه للغباء بأنه تكرار نفس الحل مع توقع نتائج جديدة ، فهناك أمل أن لا تكون هي نفس الحلول المطروحة على الساحة منذ الستينات (بالطبع بعضها يصلح) فالستينات هذه بالذات قد توقفت حياة السودانيين عندها تماماً ، فحتى الآن لازالت الرياضة والكرة التي نلعبها والفن والدراما والغناء والموسيقى التي نؤديها ونحترمها وطريقة التعليم ومعظم الرؤى السياسية .. إلخ من حقبة الستينيات وما قبلها أو بعدها قليلاً بل حتى الذكريات تم توريثها للأجيال التالية من تلك الحقبة (عندما يقول لك أباك أو جدك: نحن في الستينات! ، ياخي في الستينات! ، الحكاية دي في الستينات كانت مافي! ، في الستينات!) ورغم أن جيل الإستقلال والبطولات (ماكان في بطولات ولا حاجة ما يغشوكم ساي لو قريتو مذكرات تشرشل أو عن السياسية البريطانية في الزمن داك بتعرفو - سياسة إزالة الأحمر عن الخريطة - المقصود خريطة العالم والأحمر هو الإستعمار البريطاني) زرع المرض في جسد السودان قبل توريثه لجيل الستينات إياه - مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية - إلا أن جيل الستينات هذا هو الذي توفي السودان بين يديه فلم يورث حتى جثماناً بعد أن رعى هذا المرض بإخلاص وتفاني يستحق الإشادة ، فكونك مخلصاً ومتفانياً حتى في التدمير فهذه قيمة أيضاً.
ومع إعتذارنا لهذه الإجيال لقيمة الإعتذار فقط وليس لأنهم يستحقون الإعتذار إلا أن بينهم أيقونات أنارت الدرب ولكن قدرنا أراد أن يطلع علينا أسوأهم ونأمل أن أفضلهم ما زال باقياً بيننا وسيساهم مع غيره من الأجيال في رحلة الخلاص.
وفي الحقيقة يجب أن لا نغفل عن دور المستعمر في المعضلة السودانية والمشاكل الشبيهة في القارة ، فتقسيم المستعمر للدول الأفريقية حسب مصالحه وما إتيح له من نصيب في القسمة في ظل الصراع الإستعماري في القارة قد يكون سبباً مباشراً للنزاعات عن طريق إدخاله في كثير من الأحيان لقوميات مختلفة بطريقة إعتباطية في دولة واحدة. ففي حالة السودان مثلاً إذا إفترضنا أن المستعمر لم يتجه جنوباً وإتجه بالحدود غرباً بإتجاه تشاد وتوغل في عمق ما يعرف بالحزام السوداني والذي لا يختلف سكانه عن معظم سكان الشمال السوداني في أي شيء غير أن إستعمارهم كان فرنسياً ، فهل كانت هذه ستكون النهاية السعيدة؟ .. ربما ، فقط يجب أن لا ننسى الصراع الذي نشب بين أولاد الغرب وأولاد البحر في فترة الدولة المهدية (فكرة المهدية نفسها ثقافة في هذا الحزام قبل مهدية السودان) الصراع الذي خلف مرارات أدت إلى أن يفتح أولاد البحر أزرعهم بكل سرور للفتح الثنائي الذي أتى بعد لأي ومضض (لم يكن الإنجليز راغبين في فتح السودان كما يتصور البعض). دعونا نعود إلى الواقع ، ففي الحقيقة فإن رؤية القارة الأفريقية بعد الإستعمار أن لا يتم تقسيم وتعديل دول القارة من جديد لتضم إثنيات متجانسة وأن يتم الحفاظ على الحدود الموروثة من المستعمر كما هي مع إعلاء قيمة التعايش بين هذه الإثنيات في إطار الدولة الواحدة على أن تقوم بعد ذلك وحدة تدريجية بين دول القارة عن طريق كيانات كبيرة كتجمعات شرق أفريقيا أو غربها أو جنوبها تقوم بدورها بالإلتقاء في تجمع أكبر يشكل الوحدة الأفريقية والتي قد تنتهي في النهاية إلى شكل يشبه الإتحاد الأوربي وفي الحقيقة رغم النكبات الكبيرة إلا أنه أخيراً بدأت القارة تأخذ طريقها في الإتجاه الصحيح. إذاً ما هي العلة التي حاقت بالسودان وجعلته أحد أسوأ النمازج في أفريقيا والعالم ، هذه العلة رغم أنها منتشرة في القارة والعالم إلا أنها تمظهرت بشكل بديع في السودان وهي القومية الإثنية المؤدلجة Ethno-nationalism كنقيض للقومية المدنية Civic nationalism والتي إستلمت مفاتيح الدولة من الإستعمار وصعوبة تعايشها مع الآخرين الذين وجدتهم معها في هذه الدولة كمواطنين على قدم المساواة وليس كأملاك أو أتباع بما يناقض الثقافة الأصلية الموروثة لهذه الإثنية والتي لم يستطع الإستعمار تغييرها جزرياً فقد إستطاع فقط أن يهذبها ويعدلها ظاهرياً لتتماشى مع العصر الحديث مما أفضى كرد فعل من نفس النوع لبروز قوميات إثنية أخرى عبرت عن سخطها وقدمت حلول مقترحة للتعايش فتم قمعها هي وحلولها فحملت السلاح ، ويجب أن لايشعر المثقف السوداني من هذه الإثنية بالوصمة ال Stigma والتي تؤدي أحياناً إلى إنكار هذه الحقائق وأدلجة الصراع بطريقة تجعله يبدو أكثر رقياً فنحن لسنا وحدنا في هذه المشكلة ، فقط حظنا السيئ أوقعنا في منطقة تمثل قمة هذا النوع من المشاكل في القارة الأفريقية ، والسودان ربما يمثل قمته في القارة فنحن جزء من الحزام السودني ولا داعي أن نتوسع في العناصر التي أنتجت بؤس هذا الحزام فالكل يمكن أن يدبج رسالة دكتوراة في هذا الموضوع ولكنها نفس العناصر التي أنتجت بوكو حرام في شمال نيجريا والمسلحين الإسلاميين في مالي والترابي في السودان وشباب المجاهدين في الصومال .. في محاولة حماية ونشر هوية مؤدلجة تسود هذا الحزام تتوهم أنها بوابة الثقافة الإسلاموعروبية إلى أفريقيا جنوب الصحراء في رسالة إستعلائية تثير الشفقة والرثاء على أصحابها حيث أن الفروقات الحضارية والتنموية بين أفريقيا هذا الحزام وأفريقيا جنوب الصحراء رغم أنه يتبع لها لا مجال فيها للمقارنة لصالح جنوب الصحراء مع إستثناءات بالطبع (السودان أُقحم بطريقة ما مع شمال أفريقيا في خارطة الأمم المتحدة إلا أنه يتبع شرق أفريقيا في خارطة الإتحاد الأفريقي). كما أنه يجب أن يكون معلوما أن القومية الإثنية مسئولة عن معظم النزاعات التي نشبت بعد الحرب العالمية الثانية وخصوصاً بعد إنتهاء الحرب الباردة بإنهيار الكتلة الشرقية. وبهذا فإن الدور المنوط بالمثقف التقدمي في ما يلينا في السودان هو أن يقودنا بإتجاه حالة القومية المدنية والتي تسمى أيضا بالقومية التقدمية progressive nationalism كأقصى نموزج نسمو إليه. لهذا فإن القضية ليست قضية وطنية أو الحفاظ على الأوطان وغيره من هذ الإكليشيهات الشوفينية فالمثقف الإنساني في أقصى تجلياته الآن لاتحركه ما يسمى بالوطنية أو العصبيات القومية ولكن يحركه ما يسمى بال Sense of duty أو حس الواجب تجاه مجتمعاته التي يتواجد فيها وبعضهم يتخطى مجتمعاته ليساهم في تشكيل الضمير الإنساني العالمي. ونكران الذات وتسليم النفس للإنسانية يلعب دوراً كبيراً في تكوين المثقف العضوي القادر على التغير.
وحتى لا نركن إلى الطوباوية فإن بعض محاولات الباحثين المعاصرين لتفسير كيفية حدوث التغيير كدوجلاس نورث وآخرين Douglass North تعزو ذلك لرواد سياسيين يرون فرصة شخصية في التغيير ويقومون بعمل حسابات ربح وخسارة للفرص القادمة مع التغيير عن طريق تعديل المؤسسات الرسمية والغير رسمية القائمة والإطار المنظم لها ، ورغم أن نورث يرى أن التغيير عملية شديدة التدرج إلا أن إقراره في الأوقات المفصلية الحرجة يشكل مساراً تتكون فيه مؤسسات تعزز نفسها في إتجاه هذا التغيير. وبمجرد إختيار نوع التغيير المنشود (في حالتنا: تقدمي ، رجعي) في تلك اللحظات الحرجة ، يصبح تدريجياً من الصعب الرجوع للنقطة التي تم فيها إختيار هذا التغيير. أتذكرون متى حدث هذا؟ حدث مرتين ، عند إستقلال السودان والوقت المفصلي الذي أتت فيه الإنقاذ. ولا نعتقد أن هناك وقت مفصلي آخر في تاريخ السودان كالوقت الذي نحن فيه الآن للتغيير في الإتجاه المعاكس الذي أقرته نخبة الإستقلال والإنقاذ. ونورث يصف عاملين آخرين يمكن بهما تعديل المسار نحو التغيير المنشود رغم عناد ومقاومة المؤسسات الموجودة ، أحدهما عندما تقوم قوى خارجية بإضعاف سلطة وقوة التنظيم الموجود بما يسمح للرواد السياسيين بالتأثيير على الإطار المؤسسي المنظم للمجتمع ، أما العامل الثاني فهو إنسداد مسارات الحركة بين القوى السياسية لتلتقي في حد أدنى لعدم وجود مؤسسات وسيطة تقوم بتنظيم ذلك ، وعدم القدرة على الوصول لصفقة سياسية. العامل الثاني يصف تماماً الحالة التي نحن عليها الآن أما العامل الأول فقد توفر عدة مرات ومازال متوفراً إلا أن ضعف القوى السياسية التقدمية لم يمكن من الإستفادة منه. إذاً فشروط البدء في التغيير كلها متوفرة ينقصها فقط أن يطلع علينا هؤلاء الرواد لِيُكو ِّنوا تيم من قيادات أو تنظيمات واعية لها أهداف محددة بعيدة وقريبة المدى تعمل بتناسق وتآزر تام نحو هدفها وتعد المسرح لمن يخلفها في حالة عدم بلوغها هي نفسها الهدف.
ورغم أن الكثير من الباحثين توصلوا إلى أن عدد من الصراعات ذات المكون الإثني لم يكن سببها الأساسي الإختلاف الإثني وإنما إستغلال القادة الإنتهازيين للإثنية للحصول على المزيد من السلطة والثروة وفي هذه الحالة يكون الصراع مُصطنعاً في المجتمعات التي بها نوع من التوازن والتعايش الإثني ، إلا أن هذا لايدعو لإنكار أن هناك نوع من المجتمعات يكون فيها العامل الإثني والعرقي لتقسيم العمل والوضعية الإجتماعية هي طريقة حياة يعرفها الصغير قبل الكبير. ولا يمكن أن نسمي هذا تعايشاً يدعو لسكوت القادة والنخب من جميع أطراف المجتمع سواء كانو متضررين أو غير متضررين. وهذا ربما يدعونا لأن نتأمل العلة في النظرة الشيوعية للتقسيم الإجتماعي الطبقي Social stratification لمن يعتقدون أن الحل في حكم شيوعي - الغريبة أن الأخوة الشيوعيين يمقتون التقسيم العرقي والإثني رغم أن معظم الباحثين المهنيين يعتبرونه مع الجندر (الجنس - ذكر / أنثى -) وعلى نطاق واسع من أهم المُفسرات السببية لكيف يحدث التقسيم الطبقي الإقتصادي في معظم مناطق العالم ويعتبر الجندر السبب الأول ولهذا ففي الحقيقة فإن المهمش الأول عالمياً هو المرأة. كما أنه في حالة السودان مثلاً ليس الفارق الإقتصادي دائماً هو سبب التوتر ، فقد تكون ميسوراً وبعد مهمشاً بسبب العرق أو الدين (إنظر ماكس ويبر - Max Weber - ومثله عن اليهود) ، فيكون الإحساس بأن هناك سقوفات أو حواجز حتى لو كانت نظرية أو متوهمة سبباً كافياً للخروج عن الدولة. لهذا فإن الكثير من الآراء إنتهت إلى الرأي الذي نجمله في ما عبرت عنه سالفينكا دراكوليك - Slavenka Drakulic - وهي صحفية كرواتية وناشطة حركة نسائية نجت من الحكم الشيوعي في يوغسلافيا السابقة لها سلسلة مقالات نشرتها في كتاب في العام 1992م وصفت فيه ببراعة ودقة الحياة تحت ظل حكم شيوعي ، بأن الدولة الشيوعية لم تسمح أبداً بتطور مجتمع مدني ، فهي قد قمعت المعتقدات الإثنية والقومية والدينية سامحة فقط بالتعريف الطبقي. وأن الإنفجار أتى عندما حاول قادة شيوعيين التلاعب بهذه المعتقدات بين القوميات للبقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة. دراكوليك عبرت هنا عن ما يسميه البعض بالتجميد deep freeze حيث أن الأنظمة الشمولية للكتلة الشرقية لم تستطع أن تخمد العواطف الإثنية في تلك الدول وبأنها قامت فقط بتجميدها لتظهر على السطح بذلك الشكل التراجيدي بعد تفكك البنية السلطوية التي فرضت تجانساً مصطنعاً.
ورغم أن الحالة الشيوعية قد تمثل أنبل ماتصبوا إليه الإنسانية إلا أن الطريق الشيوعي لهذه الحالة هو سبب الإختلاف ولهذا فإن أي دورة من حكم شيوعي بحت ستؤخر نضوج المجتمع المدني السوداني لتظهر نفس المشكلة على السطح بعد حين كما حدث في الكتلة الشرقية إبان إنهيار الإتحاد السوفيتي ، ويبدو أن هذا هو قدر العقائديات. ولهذا يجب أن لا يتوهم البعض أن مشروع السودان الجديد هو مشروع شيوعي آتٍ من الأطراف الغير مؤهلة لحمل هكذا مشروع لأن أفراده يحملون معه أجندة أخرى (أجندة عرقية وإثنية) قد تفسد وتشوه المشروع الشيوعي (وهذا قد يفسر سبب نفور قطاع كبير من شيوعي المركز من ثورة الهامش) فمشروع السودان الجديد في رأيي أقرب إلى نظام علماني ديموقراطي لبرالي إشتراكي على النمط الأوربي منه إلى نموزج شيوعي أو إشتراكي صارم. قد يكون من المعلوم أن البعض قد يقول أن المبادئ التي تقود إلى الشيوعية لم يتم تطبيقها بطريقة صحيحة حتى الآن .. ولكن ألا تذكرون أين سمعتم هذ القول من قبل؟!! أها .. قد عرفت السر إذاً .. إذاً إحتفظ به لنفسك لأنه قد يفتح أبواب الجحيم .. لقد أصيب السودان بالثنائية الثقافية في الحقبة الحديثة فقد دخلت الشيوعية كمضاد للإستعمار ثم تشظت بعد ذلك مكونة أجسام أخرى كونت كلها اليسار السوداني ثم دخل الفكر الإخواني كمضاد للشيوعية فتشظى كذلك مكوناً في مجمله في أقصى اليمين ما يعرف بالحركة الإسلامية ومنذ ذلك الوقت فقد شكلت هذه الثنائية معظم الأحداث الجسام في ساحة الحكم الوطني السوداني. ورغم أن هناك محاولات جادة خجولة لتنويع المشهد تطل برأسها هنا وهناك إلا أنها تجد السيوف الفكرية والحقيقية في إنتظارها من طرفي الثنائية لتحصد هذه الرؤوس التي قد أينعت.
يعتقد البعض أن الهامش يتيم في مائدة اللئام ولكن الوسط أيضاً يتيم بل وشديد اليتم! والفارق بينهما فقط أن الأول أحس باليتم مبكراً بينما إنخدع الثاني بأن النخب التي إستلمت أمرنا هي أباه! مما أدى لوعي الهامش لحقوقه وإمتلاكه سلطة عن طريق البندقية تحميه معنوياً ورمزياً على الأقل رغم معاناته الشديدة والتي هي تضحيات قدمتها معظم شعوب العالم المتحضر وغير المتحضر للتقدم وهذه طبيعة بشرية لافكاك منها على الأقل في العصر الحالي - رغم تطور الإنسان من اللقيط إلى الزراعة إلى الصناعة - إلا إنه حتى الآن فإن الطبيعة البشرية الوحشية في معالجة مسيرة تقدمها تظل لحد بعيد هي نفسها ولا يمكن تفاديها ولكن هناك محاولات جادة للبشرية لتخفيف هذه الطبيعة في الطريق إلى إستئصالها. بيد أن هذا اليتم قد نجت منه كوكبة من أفراد الوسط والمركز وهم فقط الأفراد شديدي الإستنارة من أفراد الوسط الذين يحسون بعمق أن هذه البندقية هي بندقيتهم أيضاً دون أن يكون لهم أي ميز تفضيلية لإختلافهم عرقياً عن أفراد الهامش ويمارسون نضالهم على هذا الأساس داخل وخارج المناطق المحررة سواء إنتموا لحركات الهامش المسلحة تنظيمياً أم لا دون تضخم للذات أو شعور بالعظمة لتضحيتهم أو تحولهم الفكري الكبير هذا وهؤلاء هم نواة إنجاح المشروع الإنساني في هذه المنطقة حتى لو إنتهى بتقرير جميع هذه الشعوب المضطهدة لمصيرها وسيكونون الأولى بأن يخلدهم التاريخ.
إن التداعيات الأكثر خطورة من الوضعية الحالية في حالة فشل الجميع في إيجاد طريقة أكثر نعومة للحراك الإجتماعي السوداني أو حتى عدم الإحساس بوجود تقدم جدي في هذا الإتجاه سيؤدي لتشرزم السودان في كلا الحالات وليس بالضرورة عن طريق تقرير المصير للشعوب المهمشة ، ففي حالة عدم قهر المركز أو تليين مواقفه فمن المؤكد أن السودان سيتحول إلى مناطق نفوذ يحكمها لوردات حرب بما فيه وسط السودان نفسه ، وغالباً سيكافح اللورد الذي يحكم الوسط ليحافظ على أقصى الشمال النيلي بمساعدة مصر ، حيث هناك مؤشرات قد تبدو مبكرة لتضعضع المثلث الشهير الذي يحكم السودان (جعليين ، شوايقة ، دناقلة - محس: بالتأكيد كطغمة أفراد يقومون بتغبيش وإقرار غباش وعي قواعدهم) (هذا المثلث معروف حتى في الدوائر الغربية حتى لايتهمنا البعض بالعنصرية!) بإقصاء الدناقلة والمحس عن هذا المثلث وستستغل مصر هذا الوضع بكل سرور فيصبح الوسط نفسه تابعاً لها وتتحاشى مصر ثورة نوبية في جنوبها رغم أنها ستقوم بمساعدة النوبيين السودانيين لتلوي زراع الوسط. أما الجنوب فبلاريب سيعود للصراع مباشرة وبقوة ، أما ليبيا فهي موجودة فعلياً الآن. وأعتقد أن هذا وضع ملامحه التي في طور المراهقة واضحة الآن وسوف لن يسر أحد أن يرى له شارب!. ولهذا فإن بند عدم تأجيل النزاع وإرجائه للأبناء والأحفاد ليس سارياً على الهامش فقط بل على الجميع ويجب أن لا يتوهم البعض أن الخمود النسبي الحاصل الآن يعني أن نضال الهامش يضمحل بسبب مقاومة الإنقاذ الشديدة وأن الطبيعة حسب نظرية البقاء للأصلح تأخذ مجراها وأن توقيع إتفاقيات بالطريقة التقليدية المعروفة الآن سيكون الخاتمة لهذا النضال ، فسيكون هذا خطأً إستراتيجياً ضخماً في التصورات والحسابات فلم يحدث أن تم أمر كهذا إلا وكان مقدمة لنزاع وحرب أشمل وأشنع كماً ونوعاً. ولهذا فإنه إذا تداعى كل قادة الحركات المسلحة في المناحي المختلفة للهامش ووقعوا على إتفاقيات كما يشتهي النظام فإن الأمر لن يشكل فارقاً كبيراً فقط ستكون التداعيات أكثر كارثية في المستقبل وسيفرخ المركز لنفسه في الهامش قادة مستقبليين جدد سيكون التعامل معهم صعباً وسيتشهون (من إشتهاء) كمركز أيام عبدالعزيز والمرحوم خليل ومني وجبريل وعبدالواحد.
من الملحوظ بين المثقفين أن هناك حالة إحباط وقنوط ويأس من المجتمع السوداني وهو أمر يعول عليه اليمينيون كثيراً ويجعلهم أكثر فرحاً بما لديهم ولكن إذا كانت هناك قناعة بأن مسيرة البشرية تسير إلى الأمام في خط تقدمي كجريان النهر وأن الفترة الحالية ليست سوى إحدى تعرجات هذا النهر إلى الخلف ليصنع منحنى ثم يعود لجريانه إلى الأمام فإن هذا سيعيد الثقة في النفوس وستكون فرحة اليمين تلك ليست بأكثر من فرحة وزَغ (الضب المنزلي) إبتلع حشرته الأولى ولكن آجلا أو عاجلا سيناله نعل التقدمية.
ما تم ذكره قد يكون تصورات شخصية بحتة بها أوجه قصور تحتاج لآراء ووجهات نظر من زواية أخرى قد تكون خافية على كاتب هذه السطور مما قد يؤدي إلى إثراء النقاش وإكتساب معرفة بخصوصية صراعنا قد تؤدي إلى الطريق القويم وهذا هو عين الطلب بعيداً عن الإستبداد بالرأي أو الإعتقاد بصحته القاطعة ، فتجمع الآراء وتلاقحها بدون تعصب وتشنج هو ما ينير الدرب للجميع.
*فاطمة أحمد إبراهيم* RIP
*أنرتِ الدرب للنساء ولقنتِ الدرس للرجال*
كوكو موسى
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.