في أواخر إبريل من العام الماضي اندلعت مظاهرات وأحداث شغب قادتها المعارضة السياسية بجامعة الخرطوم إثر قرار نقل مباني الجامعة ، وعندما حاولت القوات النظامية إحتواء الأحداث ، تفجّر الموقف بين الطلاب وقوات الشرطة فأدت إلي مواجهات إستخدمت فيها الحجارة والمواد الحارقة (المولوتوف) . أدى استخدام إحدى هذه العبوات إلى إصابة جسيمة لأحد منتسبي الشرطة : الجندي حسام عيسى الرَيّح الذى توفى إثرها بعد أيام متأثراً بالحروق الناتجة . كما هو متعارف عليه في هذه المواجهات تكون دائماً مضطربة يختلط فيها الحابل بالنابل دون تمييز ومن الصعب التعرف علي مسببي الشغب ما لم يتم القبض عليهم متلبسين او يتم توثيق الأحداث بالتصوير للتعرف عليهم فيما بعد كما في الدول المتقدمة . رغم هذه الصعوبات إعتقلت القوات النظامية بعدها بأيام الطالب الجامعي : عاصم عمر حسن المعروف بنشاطه السياسي المعارض والذي تعرض قبلها للاعتقال ، الحبس والعقاب بل الفصل التعسفي ، وإتهمته بعد إجراءات مشكوك في صحتها القانونية و العدلية بالتسبب في مقتل الشرطي . بعد شهور عديدة من الإجراءات تم مؤخراً الحكم بالإدانة على المتهم ليواجه عقوبة الإعدام إن تعذر عفو أولي الدم؟ الإستنتاج المنطقي : رغم فداحة الأحداث ، يستطيع كل ذو بصر و بصيرة أن يستنتج أن الغضب العارم الذي أعقب مقتل الشرطي قد تسبب في بحث القوات النظامية عن الجاني أو الجناة فوجدت ضآلتَها في الطالب عاصم عمرحسن فهو معروف بنشاطه السياسي المعارض ، سهلُ التعرفِ عليه من سُحنتِه ومن خلفية إجتماعية بسْيطة لن تثير الكثير من اللغط والجلبة فكان كبش الفداء المثالي . رغم أن القضية جوهرية تمسُ أسس العدالة في البلاد ، إلا أنها لم تجد في بداياتها الإهتمام اللازم من الإعلام والرأي العام وضاعت ملابساتها الحقيقية والتبست تفاصيلها في التراشق في الأسافير بين المعارضة السياسية من جهة والحكومة والقوات النظامية من جهة أخرى. لكن يبقى منشأ الأحداث ومحورها الطالب البسيط ، حلم نفسه و أسرته ، الذي يود أن يغيّر حسب فهمه ما حوله ومصير وطنه إلى وطن تتوفر فيه مقومات الحرية والعدالة الحقيقية . من متابعة التفاصيل ، يتضح أن هنالك الكثير من الثقوب القانونية والعدلية التي لا يمكن إلا أن تُفسّر لصالح المتهم الذي ما فتئ دوماً من نفي ضلوعه في الأحداث ومحاولة إثبات برأته من التُهْم الموجهة إليه. الموقف الرسمي: اِتّسَمَ الموقفُ المراقبُ للجهاتِ الشرطيةِ والعدليةِ بالإزدواجية ، فهي من جهة تودُ تحقيق العدالة لمنسوبِيها بتعقب الجاني (الجناة) وتوقيع العقوبة المستحقة عليهم ، لكن في الجانب الآخر لم تستوفِ أسس العدالة المرئية للمتهم منذ القبض عليه ، توجيه الإتهام ، التحقيق ومن ثمّ التعرف عليه وتجميع كل الدلائل والإثباتات التي لا تترك مجالاً للشك أن المتهم هو الجاني الحقيقي لا سيما أنه يواجه تهمةً جسيمةً تصل عقوبتها للإعدام . ومما يزيد الطين بِلة أن اختلفت أقوال الشهود العدول في مرات عدة مما يشكك بأن الأمر فيه شبهة تلفيق الإتهام لا إثباتُ الجرمِ المشهود . نربأُ بأجهزةٍ يُضعُ على عاتقها تحقيقُ أُسْسَ العدالة لجميع الأطراف أن تُحابِي جهة ً دون أخرى ، وألا تقف متساوية ًبين أطراف النزاع المختلفة ، وأن تستغلَ غضبَها وسطوتَها في إيحافٍ بظلم الطرف الآخر مهما كانت جرائره ، فلا تزِرُ وازِرةٌ وِزْرَ أخرى ، وأن يمنعها بغضها لفداحة الحدث من مراعاة جوانب الحق و العدل التي يصبو إليها الجميع. موقف الرأى العام والمجتمع : الناظر للحدث وما حوله بتمعّن يستطيع أن يستخلص العديد من الأمراض التي تنخر في جسد السلطة و المجتمع السوداني. فالقويُ يستهدفُ الضعيفَ ، والشريفُ يعلُو بثقلهِ على كثيرٍ حشدِهم خفيف ، والعدالةُ مع القوي ضد خصمِه الضعيفِ . وسطَ هذا الزخمُ ضاعت أصواتُ المستضعفين ، وإن تساءلت عن الصحافة الحرة التي تبحث عن المبدأ لا المنفعة الآنية فلن تجدها ، ورجالُ الدين المتشدقين الذين ينشدون العدل وينقضون الباطل فهذا ليس مكانهم ، والسياسيون الذين يبحثون عن المقاعد الأمامية فهذا ليس ملعبهم ، والمثقفون وصناعُ الفكرِ والكلمِ الذين يملأون الدنيا ضجيجاً فهذا ليس محفلهم. يبقى كل الأمل في زملاءِ المتهم من الطلاب الذين يمثلون ضميرَ المجتمعِ الحىّ فما فتئوا يدُقُون طبولَ الغضبِ بلا كلْل أو ملْل لإيقاظ المجتمع الذي يغُطُ في سباتٍ عميقٍ دون أن يرجون عائداً سوى نصرة المبدأ والقضية. في الجانب الآخر أخطأت المعارضة السياسية في معالجة الأمر بتصوير الأمر وكأنه معركة سياسية بين المعارضة والحكومة قوامها سيادة القانون وبسطُ الحريات – وقد يكون موقفها مشروعاً - مما جعل الحكومة تتمترس في المربع الأول وربما التعنتُ في معالجةِ الأمر بأُسسِ العدالةِ المرئية ، للأسف الشديد ضاع في هذا الخضّمَ وقتَ وروحَ الطالبِ المتهم وربما إن لم نتدارك العواقب ، حياته ثمناً باهظاً للمشاحنات السياسية في سوداننا المكلوم. الموقف المبدئي والأخلاقي: قد يتساءل البعض : لِمَ كل هذا الزخمُ لحادثٍ عرضي فردِي وهنالك الكثير من الظلم الذي يحيق بالكثيرين غيره في الوطن ؟. الرد الشافِي على هذا التساؤل المشروع أن الموقف المبدئي و الأخلاقي يدخل في صميم الشخصية السودانية السَويّة التي تتمثلُ في الشهامةِ بنصرةِ المظلومِ ، و إغاثةِ الملهوفِ ، وإجارةِ المطرودِ ، وجبْرُ الكسرِ ودفعُ الضررِ مهما اختلف الكيان ، الزمان والمكان. كما أن الموقف الذي كان من المأمول أن يتبناه المجتمعُ المعافَى بكل أطيافه : أن تُطبقَ أُسْسُ العدالةِ السوّية حتى لا نفسح مجالاً لأن يجدَ الظلمُ مُتنفساً ، فقتلُ النفسِ التي حرّم الله إلا بالحق تماثل قتلَ الناسِ جميعاً ، ومحاولةُ إحياؤها تماثل إحياءَ الخلقِ جميعاً . هذا الموقف الأخلاقي يجب أن يتبناه كل ذو مبدأ قوَّى ، وكل ذو خلقٌ سوَّى ، وكل ذو ضميرٍ يقْظ ، وكل ذو همةٍ نشْط ، وكل ذو مسؤولية أمين ، وكل ذو دِين متين. كان يجب أن يكون هذا الموقف المبدئي موقف المجتمع والدولة ، فنحن أوْلَى به من جماعات حقوق الإنسان ، والمنظمات الأجنبية ، والسفارات الدولية والحكومات الغربية . لم نصبح المثال السئ سوى أن فَرّضنا في إرثنا وموروثاتنا ، وأصبحنا العِبْرة والقذى لا المثال الذي يحتذى. الحل العملي: بما أن الأمر يحيط به الكثير من التعقيد والتشابك من جميع الأطراف ومن المستعصى حلّه حلّا ً مثالياً يوفر العدالةَ لطرفَىَ النزاع فلا بدّ أن تتوفر في طرقِ حلِّه الحكمةُ والرأىُ السديد. لذا نهيبُ بالسيد وزير الداخلية والسيد وزير العدل أن يُشرفا على أن يكون الحل وسَطَاً يضمنُ سلامةَ المتهم ِ المظلوم عاصم عمرحسن ويعوّض أسرةَ الفقيد حسام عيسى الريّح عن فقد إبنها الذي قد يصعب تحديد الجاني الحقيقي عليه بكل حيدة ونزاهة. لن يتم ذلك في سرعة إلا بإقناع الأسرة بقبول مبدأ الديّة لتجنب العواقب المأسأوية . كما نهيب برجال المال والأعمال أن يهبُوا لنصرة الأسرتين بالمساعدة والمساندة لرد الظلم الذي حاق بهم حتى نحقق بعضاً من قيّم التكافل و الجودية التي تتطابق وقيّمنا السودانية الأصيلة. قد لا يتفق البعض مع هذا الحل الوسطي إلا أنه حلٌ عمليٌ يجنّبُ جميع الأطرافِ مغبّةَ الآثارِ السالبةِ المترتبةِ على المضي قُدّماً في الحلولِ الأخرى التي قد تقود إالى ضياع الجهدِ والوقتِ وربما الأنْفسِ إن لم نتداركها. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.