مقدمة: أحداث الجنوب 1955 أصبحت نسيا منسيا الا في زفرات الطيب مصطفي للتحريض علي الكراعية بالحق والباطل، وأذكر أن العقيد ركن سلام الحاج عبدالله باب الله نشر مقالات بأجراس الحرية بعنوان موجز تاريخ السودان جاء فيها ان تمرد القيادة الجنوبية كان بسبب ارسال حنود منها الي الخرطوم، ولا يجوز اختزال تلك الأحداث اتاريخية بالفصل بين الفعل ورد الفعل وعزلها عن خلفياتها ومقدماتها ولا تزال تبعاتها وتردداتها وارتداداتها قائمة حتي يومنا هذا، فقد كان التمرد رد فعل لسلسلة من الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها أول حكومة وطنية برئاسة اسماعيل الأزهرى ولا يتساوى الفعل مع رد الفعل ولكل فعل رد فعل مواز له ومعاكس في الاتجاه، وكان الأزهرى في باندوق قزما في زمن العمالقة الذين قادوا شعوبهم الي بر الأمان والذين كان آخرهم مانديلا عندما قال علينا نحن السود أن نتفهم مخاوف البيض، وكان أدعياء العروبة والاسلام كالبيض في جنوب أفريقيا أقلية مسيطرة، وكان الجنوبيون يقولون ان الاستقلال سيكون بالنسبة لهم استبدال سيد بسيد واستعمار باستعمار، وأثبتت الأحداث ان مخاوفهم وهي مخاوف مشروعة كان لها ما يبررها، وسأحاول في هذه الحلقات وضع النقاط علي الحروف لفائدة أجيال تعاقبت يستغل الطيب مصطفي جهلها بتفاصيل تللك الأحداث، وكان الأزهرى أول من نادى بهوية السودان العربية والاسلامية في وطن تعددى، وتواصلت مواقفه المخزية في مؤامرة حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، فقد تنكر الأزهرى لكتابه الطريق الي الديموقراطية الذى كان انجيلا للأندية الاجتماعية والتنظيمات المهنية والطلابية وكان الطلاب يتذاكرونه كأى كتاب مدرسي، فقد كان الأزهرى كتلميذه الصادق المهدى بهلوانا سياسيا اذا الريح مالت مال حيث تميل، وكانت لجنة التحقيق لجنة قضائية برئاسة القاضي مطران وهو قاض فلسطيني من القضاة المصريين والشوام الذين كانت تستعين بهم الادارة البريطانية. قانون المناطق المقفولة: صدر القانون في سنة 1910 لمحاصرة عصابات اصطياد العبيد التي كانت تنشط في بحر الغزال وأعالي النيل وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق لقرب هذه المناطق من أسواق النخاسة في بربر وشندى وسواكن واسنا بمصر وليس لمحاربة انتشار الاسلام واللغة العربية كما يزعمون بدليل ان القانون ألغي في سنة 1936 بعد أن استنفد أغراضه باستئصال الرق وتحرير العبيد، وكان القانون يتضمن انشاء منظومة من الوحدات القبلية تقوم علي العادات والأعراف القبلية برئاسة زعماء العشائر وصدر في نفس الوقت قانون محاكم الزعماء، ولم يكن ذلك يختلف عن مشروع الادارة البريطانية الذ نخلت عنه والذى كان يرمي الي تحويل الشمال الي أمارات قبلية يحكمها زعماء العشائر لتخفيض تكاليف الادارة واضعاف نشاط الحركة الزطنية التي بدأت تتبلور في الثلاثينيات من القرن الماضي، ولا يختلف قانون المنطق المقفولة في مضمونه عن مشروع الترابي وحيرانه الذى يقوم علي العزل الديني والفصل العنصرى والسير في خطين متوازيين لا يلتقيان علي حساب القومية السودانية التي استطاعت أن تكسر حاجز اللغة في زمن وجيز بحساب التاريخ، فقد أصبحت اللغة العربية لغة الحياة اليومية من حلفا الي نمولي ومن جبال البحر الأحمر الي جبال مرة، وكان متوقعا منها أن تكون لغة الحياة اليومية من ساحل المحيط الأطلنطي عبر جنوب السودان الي ساحل المحيط الهندى واللغة المشتركة لدى القبائل الحدودية شرقا وغربا بفضل التداخل القبلي، ويفهم من المنشورات الادارية التي اطلعت عليها بمجلس ريفي كادقلي ان الغاء القانون واجه معارضة من المبشرين وبعض الاداريين البريطانيين الذين تعاطفوا معهم وقد يكون ذلك لتدينهم وتعصبهم الديني، ويمكن الرجوع الي هذه المنشورات لدى دار الوثائق المركزية، وكان الاسلام يتمدد بالحوار الصامت بين الناس قي معترك الحياة الي أن أصبحت قوانين سبتمبر 1983 حاجزا مخيفا أمام الاسلام، ولا تزال أليس ترى العجائب في بلاد السودان فقد التقي الطيب مصطفي مع المبشرين والاداريين البريطانيين الذين عارضوا الغاء قانون المناطق المقفولة، وربما اكتشفت الادارة البريطانية ان القانون ساعد علي تكريس التخلف في الجنوب، والتخلف حالة من الطفولة والأمية الحضارية لا يمكن الخروج منها بالتلقين ولا بد من التقليد والمحاكاة، ولا ينعلم الطفل اللغة من أبويه بقدر ما يتعلم من أقرانه وأترابه، والسودان في الشمال والجنوب مجتمعات قبلية تلتقي في منظومة العادات والتقاليد والأعراف التي تحكم العلاقات الداخلية والخارجية، وتلتقي المجتمعات الحضرية في علاقات العمل والجوار، وكانت صفوف الدراسة وداخليات المدارس بوتقة تنصهر فيها الشعوب والقبائل السوانية، فأصبح التعليم طائقيا بعد أن قوميا وصفويا بعد أن كان حقا ديموقراطيا واستثمارا تتولاه الدولة لأن الانسان أداة التنمية ووسيلتها قبل أن يكون هدفها وغايتها، والمجتمع نظام للعلاقات بين الأفراد والفرد هو الأصل ومصدر الفعل الحقيقي في المجمع، والانسان بطبيعته يكره القيود والانتماءات القبلية والطائفية ويتوق الي الانفتاح علي المجتمع العريض وتبادل الصداقات والمنافع، ويعترف بعض أدعياء الاسلام ومنهم حسن مكي ان تجربتهم الاسلامية في السودان فشلت والفشل يعني محاولة النجاح لكنها كانت فسادا سياسيا والفساد السياسي الأب الطبيعي لكل أشكال الفساد والانحطاك والتردى الأخلاقي كالحية لا تلد الا حية، وكان موقف عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يوم التحكيم فسادا سياسيا بدليل أن الخلافة تحولت بعد ذلك الي كسروية وقيصرية وملك عضوض مثلما تحول مشروع الترابي وخيرانه الي بئر معطلة وقصر مشيد وحرمان الاسلام واللغة العربية من أهم المجالات الحيوية في السودان وأفريقيا كلها، وقال سلاطين في السيف والنار لايمكن فهم الأحداث في السودان الا بفهم العلاقة بين الجعليين والدناقلة وقال ان الدناقلة في نظر الجعليين عبيد لكن الحجعليين لا يختلفون عن الدناقلة في ملامحهم ولون بشرتهم، وأى صراع سياسي خلفه مصالح اقتصادية فقد كان الدناقلة والجعليون بقيادة الزبير باشا الجعلي يتنافسون في تجارة الرقيق في بحر الغزال، ولا يمكننا فهم ماحدث ويحدث في السودان منذ سبتمبر 1983 الا بالرجوع الي قطار المرحوم ابراهيم شمس الدين عندما قال ان قطار الشريعة قد انطلق لمن شاء أن يركب فقد كان القطار بدون كمسارى فركبه شياطين الانس أما الطيبون الأخيار فقد غادروا القطار في أول محطة هربا بدينهم بعد أن اكتشفوا أنها للسلطة والمال والجاه والنفوذ وليست لله كما يزعمون السودان في سنة 1953 : تحاول الفاشية الدينية والعرقية في شمال السودان التنصل من غياب المسئولية الوطنية والأخلاقية وتحميل الاستعمار البريطاني مسئولية أحطائها وحطاياها في حق السودان والسودانيين، فقد تخلت الادارة البريطانية بمحض اختيارها عن قانون المناطق المقفولة ومشرعها الذى كان يرمي الي تحويل الشمال الي أمارات قبلية وذلك لصالح السودان الواحد، وفي مؤتمر جوبا في سنة 1947 الذى ترأسه السكرتير الادارى الرجل الثاني في الادارة البريطانية كان الجنوبيون أمام خيارين لا ثالث لهما اما أن يكون لهم مجلسا استشاريا خاصا بهم واما الانضمام الي المجلس الاستشارى لشمال السودان الذى تحول الي جمعية تشريعية وقد اختار الجنوبيون الوحدة مع الشمال، وترتب علي ذلك طفرة حضارية كبرى خاصة في المديرية الاستوائية، وأصبحت جوبا عاصمة اقليمية كبرى كمدني والأبيض والدامر وكسلا والفاشر وجوبا مالك عليا شلتي نوم غينيا، وعادت الحياة الي مشروع الزاندى بعودة الجلابة والموظفين والعمال الشماليين وتفوق علي المشروعات الاعاشية في الزيداب والقاش وطوكر، وتوسع وأصبح له مناشير في كترى وقيلي ولوكا تصدر الأخشاب الي الشمال وجمعيات تعاونية ونشاطات اجتماعية، وتوحدت المناهج التعليمية وصدر قانون المدارس غير الحكومية وأصبحت الحكومة تشرف اشرافا تاما علي مدارس الارساليات، وصدر أيضا قانون الحكومة المحلية لكل السودان، وجاء العمال الشماليون معهم بتطلعات الطبقة العاملة وكانت الادارة البريطانية قد اعترفت باتحاد عمال السودان وتفاوضت معه وتم الاتفاق علي انتداب خبير من من منظمة العمل الدولية كوسيط فيما يتعلق بالحد الأدني للأجور، وكان من الطبيعي أن يحاول الاتحاد ايجاد موطيء قدم له في الجنوب، وكذلك الحزب الشيوعي الذى كان يتخفي في عباءة الجبهة المعادية للاستعمارومن قياداته جوزيف قرنق الذى أعدمه نميرى مع عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وآخرين، والناس في المجتمعات المتخلفة كالأطفال في الفضول والتعلق بالمعرفة والأرض الجرداء عندما يجودها القيث سرعان ما تنبت وتخضر، فقد كان السودان عند توقيع اتفاقية الحكم الذاتي في سنة 1953 أقرب الي الوحدة القومية مما هو عليه الآن بعد ستين عاما من الاستقلال، وكان أول مسمار في نعش مقررات مؤتمر جوبا انقسام مؤتمر الخريجين الي أحزاب طائفية تتصارع علي السلطة كتركة خلفها الاستعمار، وكان من الطبيعي أن تتجاهل الادارة البريطانية اعتراضات المبشرين علي الغاء قانون المناطق المقفولة لأن الديموقراطية البريطانية تقوم علي المواطنة والفصل بين الدين والدولة وما لقيصر لقيصر وما لله لله. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.