هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    "نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    التراخي والتماهي مع الخونة والعملاء شجّع عدداً منهم للعبور الآمن حتي عمق غرب ولاية كردفان وشاركوا في استباحة مدينة النهود    وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    المرة الثالثة.. نصف النهائي الآسيوي يعاند النصر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في أربعينيّة المقدوم/ أحمد عبدالرحمن آدم رجال... آخر عظماء الإدارة الأهليّة بدارفور .. بقلم: دكتور حسين آدم الحاج
نشر في سودانيل يوم 05 - 11 - 2017

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
(1)
تلقت جماهير دارفور خاصة، والإدارة الأهليّة في السودان عامةً، بالحزن والأسى نبأ رحيل هرم من أهرامات الإدارة الأهليّة بدارفور هو الأمير أحمد عبدالرحمن آدم رجال مقدوم عموم الفور الذى وافته المنيّة يوم الجمعة 22 سبتمبر 2017، الفقيد كان من المثقفين الأبكار من أبناء دارفور الذين تلقوا التعليم النظامى باكراً ومن جيل المخضرمين الأوائل في الأدارة المدنيّة على مستوى السودان، إضافةً إلى أنّه كان من رجالات الأدارة الأهليّة الأكفاء على مستوى الوطن، مشهود له بالتفاني والإخلاص والحكمة ورجاحة العقل، ولعب أدواراً متعاظمة في إدارة إقليم دارفور وتضميد جراحه، بل كان يمثل قائداً أصيلاً فى منظومة القادة العظام، كما أسلافه، الذين جاهدوا وثابروا وصابروا ورابطوا على تجويد وفعاليّة أداء الإدارة الأهليّة، وحمل رسالتها في تنظيم حياة الناس وحفظ السلام والأمن والتعايش السلمى والوئام الإجتماعى والإستقرار قبل أن تتعرض هذه الإدارة التاريخيّة الفريدة فى نوعها لهجمة السياسات الجائرة والممنهجة كانت نتيجتها هذا الخراب الذى عصف بإقليم دارفور. لقد عُرف الفقيد بالحكمة، والمعرفة العميقة بالمجتمع السودانى العريض، إذ عمل بعد تخرجه فى كليّة غردون في قطاع الإدارة كضابط مجلس طاف خلالها أرجاء وأركان البلاد شمالا وجنوبا كما عمل في جوبا ورمبيك بجنوب السودان. لقد كان في النيّة كتابة هذه المرثيّة عقب رحيله مباشرة لكنّى كنت على سفر ضمن أخريات فقررت إرجائها لتتزامن مع أربعينيّته أتمنى أن أوفى الرجل حقّه فهو جدير بما هو أكثر من ذلك وذلك حق علينا.
(2)
المقدوم أحمد رجال، وهذ إسمه إختصاراً، من مواليد مدينة تلس عام 1928، من أسرة توارثت المقدوميّة في جنوب دارفور (دار أبا أوما في النظام الإدارى القديم لسلطنة الفور)، وهو إبن المغفور له المقدوم عبدالرحمن آدم رجال الذى إنتقل لجوار ربّه في العام 1957، وشقيق خلفه المقدوم الزين عبدالرحمن آدم رجال الذى رحل عام 1985، وحفيد المقدوم آدم رجال وزير السلطان على دينار وإبن خالته، وسَلَكَ مراحل التعليم النظامى بعد أن حفظ القرآن في صغره كدأب أطفال الفور منذ الزمان القديم، وهو دفعة الراحل الدكتور حسن الترابى في حنتوب، وزامل النميرى ومنصور خالد، وإلتحق بكليّة غردون التذكاريّة عام 1951 وتخرج عام 1956، وبينما إلتحق الترابى بكليّة القانون إختار الفقيد الإلتحاق بكليّة الآداب (كانت الآداب والإقتصاد كليّة واحدة ذلك الزمان) وحصل علي درجة الماجستير فى إدارة الأعمال من المملكة المتحدة ثمّ إلتحق بالسلم الإدارى بعد تخرجه وعمل في بقاع كثيرة بالسودان منها القضارف والشماليّة، ثمّ عمل مساعداً لمحافظ شمال دارفور في منطقة أم كدادة في عهد طيّب الذكر المغفور له المحافظ الطيّب المرضى، كما عمل مسؤولاً عن مكتب متابعة شؤون دارفور بالخرطوم مطلع الثمانينات بعد تطبيق الحكم الإقليمى فى عهد الرئيس جعفر النميرى، وتقاعد عام 1984، لكنّه تولى منصب مقدوم الفور عام 1985 بعد وفاة شقيقه المقدوم الزين، وقد كان صارما في تنفيذ مهامه في أىّ موقع تسنّمه ودقيقاً في إدارته للمجالس والوظائف التي تولّى مسؤوليّاتها، وناجحاً في كسب رضاء المواطنين الأمر الذى أدخله في مشاكسات كثيرة مع الذين كانوا لا يرغبون في ذلك، وربّما كانت لسيكلوجيّته السلطانيّة وإحساسه بالمسؤوليّة الإجتماعيّة ونشأته كإبن لمقدوم الفور أثراً في تكوينه الفلسفى وتقديراته الإداريّة، ولذلك لم يطق المسؤولون في الشمال تلك النزعة والإعتداد بالرأى أثناء عمله كضابط مجلس، حتى وإن كان ذلك في مصلحة الوطن والمواطن، فتمّ نقله إلى رمبيك في جنوب السودان فإلتحق بالعمل هناك تحت إدارة مدير مديريّة بحر الغزال كما عمل بجوبا عاصمة المديريّة الإستوائيّة لفترة قصيرة، فوجد الترحاب والحب من الجنوبيين والتعاون المخلص معه، خاصة مع طلاقة لغته الإنجليزيّة وأرومته القبليّة السامقة، الأمر الذى خلق له علاقات قويّة معهم ظلّت حيّة حتى أخريات حياته العامرة، ولقد أشار القائد ياسر عرمان الأمين العام للحركة الشعبيّة إلى ذلك في مرثيّته للراحل والمبذولة في الوسائط الإلكترونيّة بأنّه قد إلتقى به مرات عديدة وسعد بلقائه في نيالا والخرطوم وفي جوبا أيضا حينما شارك في المؤتمر العام الثاني للحركة الشعبيّة وتحدث في ذاك المؤتمر عن الأوضاع في دارفور، وإلتقى بقادة الحركة وبالمشاركين في المؤتمر من خارج السودان، بمن فيهم نجوم الفن من هوليوود من الممثلين الأمريكيين، وحدّثهم عن الأوضاع في السودان ودارفور، وهو الذي يتقن الحديث باللغة الإنجليزيّة أيّما إتقان، وقد ختم عرمان مرثيّته بعبارة "كم تحتاج بلادنا اليوم لحكمة وبعد نظر نساء ورجال من أمثال المقدوم أحمد عبدالرحمن رجال".
(3)
حينما نترحم على، ونتذكر المقدوم أحمد رجال، فإنّنا نتحدث بالخصوص عن الإدارة الأهليّة بدارفور: تاريخها ونشأتها وتنظيمها وتطورها خلال المراحل السلطانيّة والحقب السياسيّة المختلفة التي مرّ بها الإقليم والسودان عامةً، والحكمة في ذلك، كما تعلمناها من أسلوب أستاذنا الكاتب المخضرم الطيب صالح في أدب المراثى، هو تناول الشخص في إطاره العام الذى عاش فيه والأحداث التي صاحبت تجربته بجانب إنعكاسات كل ذلك على محيطه الإجتماعى والثقافى، وهذا الأسلوب يضيف معلومات مهمّة عن شخصيّة المرثى تتعدى دائرته إلى مجالات أوسع حول حياته ونشاطاته، ولعلّ من إطّلع على مرثيّة الطيب صالح لصديقه وزميله أكرم صالح المحلل الرياضى الأسبق في هيئة الإذاعة البريطانيّة عبر سلسلة من ثلاثة مقالات نشرها في مجلة المجلة منتصف ثمانينات القرن الماضى بعنوان "العالم المفتوح.. في تذكر أكرم صالح" لا يجد الحديث عن أكرم صالح فقط بل عن تاريخ القسم العربى بهيئة الإذاعة البريطانيّة ورؤى من داخل العمل اليومى في دهاليزه وإستديوهاته مع كثير من الأحداث المختلفة والمواقف الطريفة التي تعكس أو ترتبط بشخصيّة أكرم أعطت المرثيّة معلومات ثرّة عنه وجسدته على حقيقته وكأنّه حضور على مسرح الحياة. ولذلك فإنّنا عندما نرثى العم أحمد رجال فإنّنا نفعل ذلك من خلال تاريخ دارفور بصورة عامة، وتاريخ المقدوميّة على وجه الخصوص، بالنظر إلى الأحداث التي صاحبت تجربتها والمحاولات الدؤوبة التي قصدت تدميرها وإزالتها وصلت ذروتها بإقالته شخصياً من المقدوميّة بالقرارات السلطويّة الجائرة وإستبداله بآخر في سابقة لم تحدث حتى في عصور السلاطين وقد كان الهدف الأساسى ليس المقدوميّة كرمز بل قبيلة الفور نفسها كما إتضح من مجمل ما أصاب هذه القبيلة الصامدة خاصة في العقود الخمسة الأخيرة وإلى اليوم من ظُلُمات وظلامات. لقد بدأتُ قبل سنوات كتابة سلسلة مقالات عن تاريخ دارفور بعنوان "دارفور.. ألف عام من التاريخ" نصحنى أحد الأصدقاء بتعديلها إلى "دارفور.. ألف عام من الحضارة" لكنّى لم أتمكن من الإستمرار فيها لمشغوليات العمل والسفر المستمر التي لا تترك لك زمناً حتى للنوم وراحة الجسد أسأل الله أن يعيننى في إكمالها ويبارك في الوقت ويجرى سِنّة القلم، وقد أعطيتُ الإدارة الأهليّة قسطاً وافراً في تلك المقالات بإعتبارها (المِرِك) التي حملت وإستند عليها كل تاريخ دارفور الإدارى والسياسى كما مثّلت الحاضنة الإجتماعيّة التى أعطت الإقليم نكهته وعلاقاته المتميّزة.
(4)
أورد المؤرخ البريطانى ر. س. أوفاهى المتخصص في تاريخ دارفور في كتابه "الدولة والمجتمع في دارفور" (الترجمة العربيّة، 2000) أنّه عندما أخضع البريطانيون دارفور عام 1916 وأزالوا السلطان على دينار (1898-1916) أبقوا على كل أنظمته الإداريّة والضرائبيّة دون تغيير كما ظلّ الهيكل الإدارى والمكوّن أساساً من الشرتايات (حكام المقاطعات) يشكل النظام الإدارى في دارفور والتي إستمرت بعد ذلك حتى تغييرات الحكم المحلى التي جرت في عهد جعفر النميرى أوائل السبعينات. غير أنّه تمّ إدخال تعديلات عديدة في العهود الماضيّة قبل السلطان على دينار فقد تمَّ تعديل النظام الإدارى لسلطنة دارفور الإسلاميّة والتي كانت تتكون من خمس دارات كبيرة (مقاطعات) فى عهد السلطان محمد الفضل (1803-1838) فصارت بعض المقاطعات تسمى مقدوميات، مفردها مقدوميّة، يتولاها مقدوم عن طريق التعيين المباشر من السلطان، لا عن طريق الإقطاع كما كان معمولاً به فى السابق بشأن الشراتى، وأفاد أوفاهى أنّ لقب مقدوم ظهر لأول مرة في حوالى عام 1800 كموّظف جديد يعمل خارج التراتب الهرمى القديم ذي الألقاب في السلطنة، فهو مفوّض أو نائب للسلطان يُعيّن لمدة محددة ليحكم منطقة معيّنة أو ليقود حملة عسكريّة، فإنّ المقدوم يمثل لحد ما شخص السلطان، ويُرمز إليه بمنحه عند التعيين الشارة السلطانيّة، مصحف القرآن، سجادة، ككر ورماح، ولكن ليس النحاس إذ أنّ ذلك وقف على السلطان، ويضيف الدكتور يوسف تكنة فى كتابه "دارفور.. صراع السلطة والموارد" (2013) أنَّه عندما تعقدت إدارة السلطنة وترهلت بعض الشيئ إستحدث السلطان وظيفة المقدوم على مستوى المقاطعات لمعاونة الحكام فى تنظيم مهام الإدارة، وأشار إلى أنَّ المقدوم كان وفى بدايته وظيفة ذات طابع شخصى وخاص جداً فهو يعيّنه السلطان ويفوّضه سلطاته الشخصيّة ليقوم وفى فترات زمنيّة محددة لا تتعدى الثلاث سنوات بضبط الإدارة فى المقاطعة التى يُرسل إليها، كمفتش بلغة الإدارة اليوم، ومن هنا جاءت كلمة المقدوم، أى القادم أو المقدَّم أو المفوّض من السلطان، وقد لعبت هذه الوظيفة دوراً مؤثراً فى إدارة حكم البلاد، خاصة فى نهايات السلطنة، بحيث هيمنت حتى على مهام الحكام أنفسهم مما نتج عنها ما يعرف بالنظام المزدوج (المقدوم والشراتى)، ثم تمددت هذه الوظيفة تدريجياً لتحل محل الشراتى أنفسهم فى ولايتين من تلك المقاطعات الخمسة، صارت كل منها تعرف بالمقدوميّة، هما دار أبا أوما (الجنوب الشرقى) حيث صار حاكمها يعرف بمقدوم الصعيد (الجنوب)، أي جنوب دارفور، وحاضرتها مدينة نيالا، بعد أن إنتقلت إليها من بلدة "دارا" المركز التاريخى لتلك المنطقة، والمقدوميّة الثانيّة هي التكيناوى (دار الشمال)، أي شمال دارفور، حيث صار حاكمها يعرف بمقدوم الريح (الشمال) وحاضرتها مدينة كتم، كما أضحى منصب المقدوميّة وراثياً بمرور الزمن، وتطور نفوذ المقدوم وإختصاصاته ليشمل كل إختصاصات الوالى الإقطاعى فى السابق. وقد كان مقدوم الصعيد يحكم كل مقاطعة جنوب دارفور بما فيها القبائل العربيّة إلى أن قام الإنجليز بإعادة تنظيم المقدوميّة عام 1930 وفصل القبائل العربيّة في إدارات منفصلة على مستوى السودان وأطلقوا لقب "ناظر" على رأس القبيلة بدلاً عن لقب "شيخ"، وقد أورد الدكتور يوسف تكنة في كتابه سابق الذكر أسماء عدد من المقاديم الذين توالوا على مقدوميّة الصعيد من حاضرتها القديمة "دارا" منهم المقدوم عبدالعزيز الكمارى 1809، خلفه المقدوم عبدالسيد عبدالمولى، ثمّ المقدوم آدم بوش من الميدوب، خلفه إبنه بخيت آدم بوش ثمّ المقدوم آدم شطة ثمّ المقدوم عبدالله رونقا الذى أستشهد في موقعة الزبير باشا ثمّ المقدوم رحمة قومو الذى بايع جيش الأمام المهدى في عهد الخليفة عبداالله وخلفه إبنه إمام جاروت جد الشرتايّة كرم الدين، لكن تمّ إلغاء مقدوميّة "دارا" مع بدايّة غزو دارفور وحوّلت الرئاسة إلى مركز وحاميّة عسكريّة جديدة بمدينة نيالا لقلة وجود الماء في الأولى، ثمّ بدأ الإنجليز في إعادة الإدارة الأهليّة بمنطقة المقدوميّة بنيالا عام 1920 لكن لم تكتمل حتى عام 1930 حين توفى الملك تبن سعد النور فخلفه نائبه الشرتايّة عبدالرحمن آدم رجال وأخيراً في عام 1935 إكتمل تكوين المقدوميّة بجنوب دارفور برئاسة المقدوم عبدالرحمن آدم رجال وقد شملت كل من إدارات البرقد بشرتاويّة كجر وشرتاويّة دالى وشرتاويّة الداجو ونظارة المسيريّة وسلطنة البيقو وعموديّة الترجم وذلك بإنشاء محكمة المقدوميّة بموجب قانون الإدارة الأهليّة سنة 1932 كمحكمة إستئاف لكل المحاكم الفرعيّة التابعة للمقدوميّة. بهذا تمّ بناء الجهاز الإدارى والأهلى والقضائى بمركز جنوب دارفور عدا قبائل البقارة الذين تم تنظيم إدارتهم عام 1941 بإنشاء محكمة البقارة ذات السلطة العليا على قبائل البقارة الخمسة وهى الرزيقات الهبانيّة والفلاتة وبنى هلبة والتعايشة بجانب القبائل الصغيرة التي تجاورها وإختير الناظر إبراهيم موسى مادبو بالإجماع رئيساً للمحكمة بمثابة إعتراف لمكانة هذه القبيلة ونظارتها وسط جيرانها.
(5)
لقد كان المقدوم أحمد رجال مهموماً بما يحدث لأهله ورعيّته الفور من تقتيل وحرق القرى ودهم المزارع والبساتين وتدمير المدارس والمساجد والتي إندلعت منذ بدايّة الثمانينات وقد كان وقتها يتابع ذلك، وهو إبن المقدوم، من وظائفه بالفاشر أو أم كدادة أو الخرطوم بينما كان شقيقه الزين يتولى المقدوميّة بنيالا، وقد واجه هذه الكارثة المصيريّة بنفسه حينما تولى المقدوميّة عام 1985 بعد رحيل شقيقه فقد تصاعدت الإعتداءات بوتيرة غير مسبوقة وطال الخراب كل مظاهر الحياة دون القدرة من جانبه على صده أمنياً فصار الأمر لديه وكإنّه معركة وجود ومصير، لقد ظلّ الفقيد يذود عن هلاك قومه بكل السبل ويناشد السلطات المحليّة والقوميّة لفرض الأمن وهيبة الدولة، وبالرغم من ضعف حكومة الصادق المهدى في معالجة تلك الأوضاع إلاّ أنّ التجانى سيسى حاكم دارفور وقتها تمكن من عقد مؤتمر للإدارة الأهليّة مطلع 1989 بالفاشر لتدارك الأزمة، وبالرغم من خروج المؤتمر بتوصيات جيّدة كانت بإمكانها وقف أنهار الدم إلا أنّه لم يتمكن من تنفيذها نسبة لإنقلاب الإنقاذ نهاية يونيو 1989، لكن ذاك المؤتمر شهد ظاهرة غريبة لم تجد الإنتباه من السلطات المسؤولة وهى أنّ بعض قيادات المجموعات المعتديّة ظلّت تردد في نقاشاتها داخل المؤتمر أنّ تلك الأراضى التي إستولوا عليها هي هبة من الله ويستشهدون بجزء من الآيّة "إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين" (128 الأعراف) يفسرونها بأنّ ملكيّة الأرض لله تعالى دون غيره، وهو يورِّث الأرض لمن يشاء من خلقه، المؤمن والكافر، بغض النظر عن طرق أو كيفيّة الحصول عليها !! وبالرغم من أنّ حكومة الإنقاذ حاولت تنفيذ نفس مخرجات مؤتمر التجانى سيسى إلاّ أنّ الأوضاع زادت حدة وتوسع الدمار بصورة ممنهجة خاصة بعد دحر حملة داؤود يحيى بولاد في نهاية 1991 فتحول الأمر وكأنّه إستباحة كاملة لديار الفور وإستمر الدمار بلا هوادة أعقبها نزوح هائل للأهالى طلباً للأمن والحمايّة، ونسبة لإخلاء مناطق شاسعة من حواكير وقرى الفور في جنوب دارفور أطلّت كارثة أخرى بمطالبة المجموعات المسلحة الحصول على نظارات ودارات في تلك الأراضى في سابقة لم تحدث أبداً خلال تاريخ الإقليم. لقد أدرك المقدوم أحمد رجال أنّ الأمور تمضى نحو الأسوأ خاصة مع وجود مؤشرات أنّ قبائل بعينها ليس لها نظارات بدأت تضغط على السلطات لتمليكها تلك الأراضى مقابل وقوفها مع الحكومة في مكافحة التمرد، لقد فلت الأمر إذاً كما توقع زعماء الإدارة الأهليّة ولخطورة هذه الخطوة فقد سارع أولئك الزعماء لتحذير والى جنوب دارفور من المساس بأعراف الإدارة الأهليّة خاصة فى مسألة الدارات والحواكير لأنّها مقننة منذ مئات السنين وحافظت على الأمن وإستقرار الأهالى لكنّ الوالى أصرّ على رأيّه وأسبغ النظارة والإدارة بالفعل لإحدى القبائل في أراضى الفور عام 1992 معللاً قراره بأنّه قد منح النظارة "على البشر"، وقد أخبرنى أحد نظار القبائل بأنّهم قد إستنكروا ذلك على الوالى وأخبروه بأنّه لا يوجد في الأعراف شيئ إسمه نظارة على البشر، فالنظارة على الأرض، ونبهوه بأنّ ما فعله سيجر إلى فتنة وقد كان، فقد بدأت قبائل أخرى تطالب بذات المطلب بينما نشب صراعات بين قبائل أخرى للإستيلاء على الأراضى وإعلان نظارات عليها، وحينما شعر الوالى بخطورة ذلك إستدعى زعماء الإدارة الأهليّة وإعتذر لهم عمّا فعل لكن الآن ليس في يده شيئ ليفعل،، وبالرغم من إعفاء الوالى عقب ذلك إلا أنّه أعيد في منصبه بعد مدة قصيرة في منتصف 2004، وبذلك يكون الحاج عطا المنان يمثل الأطول فترة للعمل كمسؤول بالولايّة فقد عمل محافظاً لمحافظة نيالا في مطلع التسعينات ومنها أصبح والياً لولايّة جنوب دارفور لدورتين ثمّ تمّ تكليفه لاحقاً بملف دارفور ليتفاوض مع بعض قيادات الحركات المسلّحة، لكن عودته الثانيّة لم تكن بأفضل من الأولى، بل الأسوأ، خاصة مع إندلاع الأزمة الراهنة والأعنف منذ شهر مارس 2004 مع توسع الحرب والدمار كل أرجاء الإقليم، وتصميم القبائل المعتديّة للإستيلاء على أراضى الفور الذين صاروا ليس لهم نصير سوى الله والمقدوم بعد أن تخلّى الجميع عنهم، وقد كان من غير الممكن للسلطات أن تعطى الأراضى لتلك القبائل في وجود معارضة المقدوم الشرسة مما فرض ضرورة إزاحته، وعليه فقد أصدر الحاج عطا المنان والي جنوب دارفور قراراً سياسياً في 30 سبتمبر 2005 قضي بموجبه إعفاء المقدوم أحمد عبدالرحمن رجال من مقدوميّة نيالا وتعيين صلاح الدين الفضل سلطان الفور المكلّف خلفاً له في خطوة خطيرة ومنافيّة تماماً مع تقاليد وأعراف الإدارات الأهليّة للقبائل، لكن ظلّ ذاك العزل شأنا حكومياً صرفاً بالنسبة للأهالى لم ينتقص من مكانته الإعتباريّة كمقدوم ومحل إحترام كل الإدارات الأهليّة بالمقدوميّة واليوم لا يجيئ ذكر المقدوميّة إلا وإسم أحمد رجال قريناً له. لقد إلتزم الراحل بيته منذ ذلك الوقت لكنّه ظلّ مشاركاً برأيّه فى شؤون أهله وإقليمه وملتزماً بمساعدتهم ما أمكنه لتضميد جراحهم.
(6)
لقد قطع الدكتور حسن مكى في ندوة بالخرطوم قبل أسبوعين من تاريخ كتابة هذه المرثيّة "بأنّ دارفور بشكلها القديم لم تعد موجودة لإنتقال السلاح لأيدي القبائل العربيّة ... بجانب سقوط نظام الحواكير"! (الجريدة 16 أكتوبر 2017)، أهذا هو إذاً هدف تدمير دارفور أم هي خطة مرسومة بذاتها تتكشف على ضؤ مسيرة المقدوم أحمد رجال كمثال؟ مع ملاحظة أنّ الدمار قد شمل كل دارات القبائل المستقرة، أوليس هذه هي الفتنة التي تنبأ بها زعماء الإدارة الأهليّة وسعوا لدرء الوالى من المساس بثوابت تاريخيّة لأهل دارفور؟ لكن إذا قرأ الدكتور تاريخ دارفور فسيعلم إنّ هذه النكبة الحاليّة ليست هي الأولى التي عصفت بها بل الثالثة لكن في كل مرة تنتفض دارفور من تحت الرماد وتقف أقوى وأنضر مما كانت عليه مثل أسطورة طائر الفينيق الإغريقيّة، فدارفور دمرها الزبير باشا حينما أسقط سلطنتها الإسلاميّة عام 1874، فقد هبّ سلطانها إبراهيم قرض ضد حملة الزبير دفاعاً عن شرف إحدى القبائل وسقط شهيداً برصاصة طائشة في معركة منواشى، ويا لسخريّة القدر، ولقد طالعت مؤخراً قصيدة جزلة عن هذه المعركة نظمها الأستاذ عبدالحميد عباس عبدالحميد حفيد السلطان إبراهيم قرض، لكنّ الأتراك لم يلبثوا فيها غير عشر سنوات مضطربة كانوا كما الجالس على صفيح ساخن، لم يسيطروا خلالها مطلقاً على الإقليم بفعل مقاومة سلاطين الظل من ناحيّة، كما أسماهم العميد أحمد عبدالقادر أرباب في كتابه "تاريخ دارفور عبر العصور" (1998)، وقيام الثورة المهديّة من ناحيّة أخرى، وجاء الدمار الثانى سريعاً بحروبات عثمان جانو عامل المهديّة لتهجير القبائل فأراق الدماء في كل إنحاء دارفور وفرّت قبائل بأكمها من ديارها ضاربين عرض الصحراء ومستنقعات الجنوب أو لاجئين فى دول الجوار، لكن السلطان على دينار أعاد السلطنة ليلة سقوط الخليفة عبدالله، والآن نشهد دمارها الثالث، والغير مسبوق، لكنّها سوف تنهض كما فعلت في السابقتين، فدارفور منصورة بإذن الله يا دكتور حسن مكى، وستكون نهضتها هذه المرّة نهضة نوعيّة محمولة على أجنحة "الوعى" الذى يتشكل الآن حثيثاً على وقع هذه المآسى، إنّها بريق الوعى وبرق الإرادة التي إنتظمت مجتمعات دارفور، زرقتهم وعربهم، ومن يستمع للنازحين يعبرون عن قضاياهم في راديو دبنقا أو يُشاهَدون في معسكراتهم وأسواقهم ينشطون للكسب مثل جحافل النمل سيدرك أنّ هؤلاء قوم جدد بعقليّة متجددة فليس هم أولئك (القوّازة) كما كان أهل المدن ينعتونهم، لقد كتب أحد الكتاب عبارة بليغة بهذا المعنى يعكس تصاعد درجات الوعى بين كل فئات المجتمع الدارفورى فقد قال: إنّ تجربة دارفور الحاليّة قد عتقت أهلها من الطائفيّة والإسلام السياسى!! فإذا كانت هذه الأخيرة لم تكن موجودة يوماً في رادار الأفق البرلمانى لجماهير دارفور في العهود الديمقراطيّة، وهذه أهمّ أسباب تدميرها، فما هي الأسباب التي تدفع الصادق المهدى لزيارة الإقليم في الأسابيع القادمة كما أشيع في وسائل الإعلام وماذا يريد أن يقول للناس؟ لقد إنكسر المِرِك وإندلق اللبن وإنفشقت البيضة!، إنّ الحراك الطلابى لطلاب دارفور بالجامعات يشكل وجه آخر من وجوه الوعى فهؤلاء الطلاب ليسوا حركات مسلّحة وإنّما هم أبناء النار خرجوا من بين فرث الدخاخين ودماء الرماد، فقد رأوا وشاهدوا وسمعوا وهم أطفال ما حدث لأهاليهم فما بالهم لا يعبرون عن ذواتهم وهم في مرحلة الصبا وفورة الشباب، ثمّ أعجبنى عندما علمت أنّ أعداداً كبيرة من المائة الأوائل في إمتحانات الأساس بولايّة شمال دارفور هم من أبناء النازحين في مدارسهم الرثة بالمعسكرات تحت ظلال الأشجار ولهيب الشمس وهم جلوس على الأرض، بل إنّ المركز الأول في إمتحانات العام 2015 كان من أبناء "الملم" تلك البلدة الحنينة على السفوح الشرقيّة لجبل مرّة والتي نالت حظّها من الدمار أسوة بغيرها. بمثل هذا التغيير النوعى والوعى الجمعى والتميّز المفاهيمى للأهالى ستشق دارفور طريقها نحو نهضتها الثالثة وهى لا ترنو لتتموقع على ذاتها بل لتحتل مكانتها التاريخيّة وطنياً وإقليمياً ودولياً بعد أن توهط إسمها في ذاكرة السيّاسة العالميّة حتى صارت كعلم في رأسه نار، وعطفاً على ذلك فسيعى الجميع أنّ السلاح والعنف والتآمر لا يبنى مستقبلاً فمن عاش بالسيف مات به، ولذلك أطلب من الدكتور حسن مكى أن يتأمل هذه المعانى وأنّ التغيير سنة الحياة وإذا ظلّت دارفور على حالتها القديمة فلا فائدة من هذا الحراك إنّما يجب يتغير نحو الأفضل والجديد وأن يتم ذلك بالعدل وإحترام كرامة الإنسان وضمان مستقبل الأجيال القادمة، لقد تمت دعوتى للمشاركة في مؤتمر كنانة لسلام دارفور والتي إنعقدت في أكتوبر 2008 لم أتمكن من المشاركة لكنّى أرسلت إليهم مقالاً مكتوباً ركزت فيه على مسألة الأرض وضرورة التعامل معها بحذر علمت بأنّه قد تم تسليمه لمقرر لجنة خيارات الحلول في ذلك المؤتمر،، ولكن.
(7)
في مرثيتى السابقة للراحل الملك رحمة الله محمود الدادنقاوى، ملك الفاشر، إقترحت إنشاء متحف بإسمه للإدارة الأهليّة بدارفور يكون ملحقاً بمتحف السلطان على دينار بالفاشر، وذاك مكانه الطبيعى، إذ أنّه من المستحيل فصل سلطنات دارفور المختلفة وتاريخها عن الإدارات الأهليّة التي صاحبتها لأنّها مثلت آليّة الحكم والإدارة منذ أن نشأت تلك السلطنات في الإقليم قبل ألف عام، وقد إتصلت بالأخ الملك محمد الحافظ إبن الملك رحمة الله بخصوص هذا الموضوع فرحب بالمقترح وأكدّ لى بأنهم في الأسرة سيقومون بجمع كل تراث ومتعلقات والده وحفظه في حيّز أمين، وسيتصل بمسؤولى المتاحف في السودان لمعرفة أفضل الطرق المضمونة للحفاظ على تلك المقتنيات إلى حين إنشاء المتحف. وحتى لا نضيّق واسعاً فإنّنى أعيد صياغة مقترحى ذاك إلى ضرورة إنشاء "متحف الإدارة الأهليّة بدارفور" يكون جزءً أساسيّاً من متحف السلطان على دينار ومكملاً لتاريخ السلطنات والسلاطين الذين حكموا دارفور على مرّ الحقب التاريخيّة، ولا شكّ في أنّ ذلك سيعكس أدوار رجال الإدارة الأهليّة التاريخيين في دارفور وسيخلد ذكراهم بجانب السلاطين والمقاديم والملوك والنظّار والشراتى والعلماء العظام الذين أثروا حياة الإقليم، يضاف إلى ذلك الآثار التي ظلّت مهملة في أرجاء الإقليم ومن الضرورى حمايتها ودراستها لكشف المخبؤ تحتها، وقد بدأ عمّنا البروفسور إبراهيم موسى محمد ذلك عبر أطروحته لنيل الدكتوراة في الآثار من جامعة كمبريدج والتي حلل فيها آثار قبيلة البرتى في جبل تقابو في وسط شمال دارفور. لقد ذكر أوفاهى في كتابه سابق الذكر أنّ هناك غموض في التاريخ المبكر لدارفور لغياب وثائق مكتوبة لكنّه إقترح، وركّز على ذلك مراراً في كتابات أخرى له، دراسة الآثار الموجودة فإنّ ذلك قد يكشف الكثير من المعلومات المهمة والغير معروفة من قبل، كما إنّ الروايات الشفاهيّة التي تختزنها ذاكرة القبائل عن أصولها وهجراتها وثقافاتها تحتاج لتوثيق إذ بإمكانها إضافة الكثير وقد تناول صديقنا الروائى إبراهيم إسحق إبراهيم جزئيّة في ذلك عبر دراسته عن هجرات الهلاليين من جزيرة العرب إلى شمال أفريقيا وبلاد السودان (دارفور تحديداً) وقد كانت أطروحة لنيل درجة الماجستير في جامعة الخرطوم، والحمد لله فقد بدأ الأتراك ترميم قصر السلطان بالفاشر وبإمكانهم رفد متحفه بالوثائق والآثار التاريخيّة التي تقبع في متاحفهم وهم سيكونون مرحبين بذلك طالما أنّها تعكس علاقاتهم التاريخيّة بدارفور، كما إنّه من المهم الإشادة بولايّة غرب دارفور لقرب إكتمال بناء وإفتتاح متحف قصر السلطان بحرالدين بالجُنينة لتضم تاريخ قبيلة المساليت وتاريخ وتراث غرب دارفور عموماً بجانب تاريخ العلاقات السودانيّة التشاديّة مع قرب إكتمال متحف الشاعر الفيتورى في الجُنينة أيضاً والتي ستعكس الأبعاد الثقافيّة بين دارفور والشمال الأفريقى.
(8)
إنّ هناك الكثير من الملاحظات والعبر التي يمكن إستخلاصها من تجربة العم المقدوم أحمد رجال وأوّلها إنّه ليس من الحكمة والحصافة التلاعب بالموروثات الإجتماعيّة والثقافيّة لأىّ مجموعة من شعوب الدولة، خاصة إذا كانت تلك المجموعة ترتكز على وحدة عرقيّة واحدة، لأنّ أىّ تغول في تلك الموروثات ستعطى المجموعة إنطباع بإستهداف الدولة لوجودها وحياتها وسيتجاوز مثل هذا الفهم حدود الدولة ذاتها إلى آفاق دوليّة هي في غنى عنها، كما إنّ مهمة أي دولة تتمثل في حمايّة شعبها من كل أذى وتهتم برعايتهم وتوفير السلام والإستقرار بين ربوعهم والسهر على رفاهيتهم، فالدولة بهذا الفهم لن تسعى لإشعال الحروب الداخليّة والفرقة بين فئات شعبها وتثير بعضهم ضد بعض لأنّ ذلك سيمثل هزيمة لوجودها ومشروعيّة حكمها، إنّ إضافة بند "الهويّة" كإحدى المحاور في مؤتمر الحوار الوطنى كان من الممكن أن تخرج برؤى واضحة عن كيفيّة التعامل مع هذه المعضلة لكن للأسف ما خرج لا يعدو مجرد طبطبات إنشائيّة.
الأمر الثانى يتمثل في مراعاة العدالة والقسط خاصة في النزاعات الجهويّة والقبليّة فمسألة طرد مجموعات لمجموعات أخرى وإحتلال أراضيها التي ورثوها كابراً عن كابر ثمّ المطالبة بتقنين تلك الأراضى لهم بينما الأطراف المطرودة تتكدس في معسكرات النزوح واللجؤ لهى تصرف همجى عفى عليها التاريخ، ولا تقبلها كل الشرائع الدينيّة والقانونيّة ولا العرف المجتمعى، إنّ %70 من سكان معسكرات النزوح واللجؤ هم من قبيلة الفور متفرقين في 118 معسكر داخل الإقليم ودول الجوار فكيف يمكن السكوت على ذلك؟، وعليه كان يجب على حكومة السودان عدم السماح بهكذا تصرف وأن تقف بحزم ضد من يحاولون جرّها والوطن إلى مثل هذا المستنقع الآسن، فمنذ مطلع التسعينات إنتزعت ثلاثة قبائل دارات ونظارات لها تحت سمع الحكومة وبصرها بينما أعلنت رابعها عن قيام نظارتها في الحزام جنوبي الفاشر بل وزعت رقاع الدعوة خلال الشهور الماضيّة للإحتفال بتنصيب نظارتها على مرآى ومشهد من الناس لولا تدخل جهات نافذة لتعطيلها، لكن ذلك لا يغيّر من الواقع شيئا طالما هم قد وضعوا أيديهم على الأرض والقرى الخاويّة التي طُرد سكانها منها.
ثالثاً، إنّ الحصول على الدارات وحتى النظارات لا تستدعى القتل والدمار بهذه الطريقة البشعة فالعُرف الدارفورى فيما يختص بمثل هذه القضايا مرنة بل يمكن تكييفها لتتماشى مع المفاهيم الحديثة فيما يختص بحقوق الإنسان والمواطنة وتأصيلها دينيّا على مبدأ إستخلاف الإنسان فى الأرض، لكن ضيق أفق القائمين على الأمر وجهلهم بمثل هذه الموروثات جعلهم يسارعون بقطع رأس العقدة بدلاً عن محاولة حلّها. لقد أورد الدكتور يوسف تكنة فى دراسة أعدّها بعنوان "تقرير عن الصراع القبلى بدارفور" (1997م) أنّ السلطان محمد الحسين (1838-1872) قد أعطى قبيلة المهادى أرضاً بالقرب من السريف ليكون داراً لهم بل إنّ السلطان عبدالرحمن الرشيد (1787-1803) عندما قرر تأسيس مدينة الفاشر كعاصمة له عام 1792 لم يقبل هبّة الأهالى للأرض الذين كانوا يسكنون حولها بل فداها منهم وأقطعهم أرضاً كدار لهم، ولقد نزحت مجموعة من قبيلة الجوامعة من كردفان إلى دارفور في عهد السلطان عبدالرحمن الرشيد فأقطعهم حاكورة في منطقة جديد السيل شمال غربى الفاشر، وعلى ذلك أقول إنّ إشكاليّة توطين القبائل التي ليست لها دارات من الممكن حلها بإجراءات إداريّة مرنة نابعة من موروثات الإدارة الأهليّة تقوم على التراضى والتوافق والتعويض والفداء، تتبعها تطبيق تنميّة إقتصاديّة وإجتماعيّة جادة على هدى ما يعرف اليوم "بالتنمية المستدامة"، فكل ذلك ممكن إذا صدقت وصفت النيات بدلاً عن إزهاق الأرواح وتشريد الأهالى بسبب ضيق الأفق وإفلاس المنطق.
رابعا، إنّ قبيلة الفور قبيلة عريقة وحضاريّة وأصحاب سلطنة جرى التاريخ بذكرها أقلّها هداياهم ومحملهم للكعبة ووقوفهم مع الخلافة الإسلاميّة، كل ذلك زكّى شعورهم بمسؤوليتهم التاريخيّة تجاه شعب دارفور ولذلك فسوف لن يمتنعوا من التوصل لحلول للمجموعات التي ليس لها أراضى فقد أنصف أجدادهم القبائل منذ قديم الزمان، إمّا أن يتعرضوا، وما زالوا، لمثل هذه المظالم والظلامات فذاك شيئ غير مقبول بل أدانته العالم قاطبة وصارت سبّة أخلاقيّة في جبين من تولوا كبرها سوف لن تنتهى آثارها قريباً، أذكر ونحن صغار في مدينة الفاشر أنّ المرحوم الأمير سليمان على دينار كان على إستعداد ليشهد لأى شخص لا يعرفه في المحاكم، خاصة في شؤون الميلاد والجنسيّة، طالما عرف قبيلته وهو يبرر ذلك إنّه كإبن للسلطان فإنّ كل أهل دارفور في مقام رعيّته ومسؤوليته الإجتماعيّة.
خمساً، ستظل نظام الإدارة الأهليّة صمام أمان للتعايش السلمى في دارفور بالرغم من التشويه التي إرتكبته نظام النميرى والنظام الحالي، وبالرغم من إنتقاد الكثيرون لها وأنّها متخلفة عن الحاضر ألاّ أنّنى أعتبر ذلك قصور نظر لسبب بسيط هو أنّها نظام للإدارة ظلّت تدير مجتمع دارفور عبر حضاراتها المتعاقبة لأكثر من ألف سنة فكيف يتم إلغاؤها بجرة قلم دون إيجاد بديل فاعل، لقد أورد أوفاهى أنّ نظام الإدارة الأهليّة في سلطنة الفور هي إمتداد لنظام حضارة التنجر وقبلها سلطنة الداجو بل ربّما تكون مأخوذة من سلطنة كانم والبرنو حول بحيرة تشاد، والمطلوب في هذه الحالة هو تطوير نظام هذه الإدارة لا إلغائها مع رفدها بأفكار فاعلة تعيد الهيبة لزعمائها وتسمح لهم بدور "إستشارى" في إدارة شؤون القبائل، وأقترح هنا إنشاء "المجلس الإستشارى للإدارة الأهليّة في دارفور" تضم كل زعمائها على مستوى الإقليم من سلاطين ونظار وشراتى وملوك مع تفويض لتقديم الرأي للحكومة فيما يختص بشؤون القبائل خاصة مسائل الدارات والمسارات والتعدى والحروبات القبلية فغالبيّة موظفي الدواوين والنافذين في سودان اليوم لا يعرفون هذه القيم الإداريّة فيتخبطون ويدخلون الناس والدولة في كوارث وورطات دوليّة هي في غنى عنها.
سادساً وأخيراً، تظل مسألة "المستوطنون الجدد" حقيقيّة وورم سرطانى إن لم يتم التعامل معها بحسم، ليس بالوسائل العسكرية، بل بالآليات الإداريّة الناعمة، فهؤلاء الناس معروفون على نطاق الإقليم بالمظهر ولحن القول ولن ترض دولة على ظهر البسيطة أن يأتي غرباء ليثيروا العنف في ديار المجتمع المسالم، ونحن هنا لا نقصد القبائل الأصيلة بدارفور بل أولئك الذين وجدوا التشجيع لينزحوا من دول الجوار وينشئوا لهم دارات في القرى المهجورة، لقد هتف أحدهم وهو يهز الكلاشنكوف فوق رأسه "بسلاحنا دى جمالنا توا بسرح فوق راس الجبل"! يقصد جبل مرّة، إنّ أفضل من بإمكانه التعامل مع هذه الكارثة هم زعماء الإدارة الأهليّة فالحكومة ليس بإمكانها فعل شيئ.
رحم الله المقدوم أحمد عبدالرحمن آدم رجال فقد حاولنا أن نقرأ شعوره وهو بين يدى الله سبحانه وتعالى في جنات النعيم، فقد عاش هذه المآسى وحاول جهده مداراة قومه من الأذى لكنّ الله وحده يعلم بما حصل وما هو حاصل وما سيحصل، فقد كان كبير قومه أراد فعل الكثير لأهله في جنوب دارفور لكنّه أجبر على الإنزواء، لم ينال خيراً من أهل السلطان ولم يعجبهم صدعه بالحق فيما يحيق بأهله، لكنّه ظلّ حياً في ذاكرة الأهالى ونبراساً يضيئ طريق المستقبل للأجيال القادمة، لقد كنت آخر عظماء الإدارة الأهليّة بدارفور يا أبونا، يرحمك الله.
هونك كونك، الصين
1 نوفمبر 2017
تنويه:
أهنئ أهلى بمدينة الجُنينة عاصمة ولايّة غرب دارفور على إنجاز المشاريع التاليّة ضمن فعاليّات "الجُنينة عاصمة الثقافة السودانيّة" (2011-2017): المجمع الثقافي، المكتبة المركزيّة، متحف قصر السلطان بحرالدين، مسرح دار أندوكا، مشروع منتزه السلام العائلي، مسرح متحرك، ومجمع الفيتوري الثقافي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.