في عام1979م انعقدت القمة الأفريقية في فندق الهلتون على ضفاف النيل الأزرق في العاصمة السودانية الخرطوم. كنا في ذلك الوقت نتحسس طريقنا في دهاليز الصحافة. وزارة الإعلام أقامت مركزاً اعلامياً في بهو الفندق ، ولم تكن هناك طريقة تواصل غير التلفون والفاكس مع مركز الصحيفة. المركز الإعلامي صمم على شكل نصف دائري وكرسى وثير على رأس الدائرة ليجلس عليه الرؤساء المشاركين في القمة ، وضم المركز ممثلين لكافة وسائل الإعلام. من التلفزيون مثله الأستاذ حسن عبدالوهاب الاعلامي الرائع متعه الله بالصحة ، ومن الاعلام الخارجي بوزارة الاعلام الأستاذ فتح الرحمن ومن مجلة (سودناو) الانجليزية الكاتب المعروف الأستاذ السر سيداحمد ومن جريدة الأيام الأستاذ عثمان عيسى الصحفي النبيل والإنسان الخلوق الذي كان فاكهة المركز الاعلامي والذي انتقل إلى رحمة الله في عز الشباب - عليه رحمة الله - وكنت أمثل جريدة الصحافة بتكليف من قبل جريدة الصحافة التي كان يرأسها في ذلك الوقت الأستاذ القدير فضل الله محمد متعه الله بالصحة بتغطية أعمال هذه القمة الهامة التي تعقد لأول مرة في السودان. نظمت وزارة الاعلام المؤتمر الصحفي للرؤساء فبعد وصول أي رئيس مشارك يأتون به مباشرة إلى المركز الاعلامي لمدة تمتد من عشرة دقائق الى نصف ساعة لتلقى أسئلة الصحفيين. كانت التجربة من أعظم التجارب الصحفية التي دخلتها وأنا في مقتبل العمر الصحفي حيث اتيحت لنا الفرصة للقاء رؤساء أكثر من أربعين دولة وجهاً لوجه وتوجيه أسئلة مباشرة لهم. تملكن الحماس في ذلك العمر وبدأت أتوجه أحياناً بأسئلة ساخنة لبعض الرؤساء على أمل الظفر بخبطة صحفية حيث كانت قضايا القارة الافريقية ساخنة في كافة أرجائها. قيادات أفريقية قادت نضال شعوبهم حتى حققت استقلال بلادهم وأخرى مغضوب عليها من شعوبها ومن شعوب القارة الافريقية. وفي فترة الراحة التقيت بوزير الاعلام حينها الأستاذ أحمد عبدالحليم الذي انتحي بي جانباً وقال لي كلمة لازالت راسخة في ذهني حتى الآن: ( هؤلاء الرؤساء ضيوفنا .. فلا تحرجوهم ) ومضى ولم يزد عن ذلك ..ولكني فهمت الرسالة !! كانت أفريقيا تموج بنضال شعوبها من أجل التحرير والاستقلال ، وكنا كصحفيين نطمح للقاءات صحفية مع عدد من هؤلاء القادة الذين كانوا رموزاً وطنية ومصدر حماس لشعوب القارة وبثيرون فينا شعلة الحماس أمثال الرئيس التنزاني جوليوس ناريري والرئيس الغيني احمد سكتوري ومن قبلهم الرئيس الغاني نكروما الذي قاد نضال التحرير في غانا وتوفي قبل هذه القمة بسنوات والرئيس كينيث كاوندا الذي قاد نضال شعبه إلى أن حقق استقلال بلاده عن بريطانيا عام 1964م. حيث عُرف كاوندا بمساندته لحكم الأغلبية السوداء في جنوب إفريقيا وروديسيا المجاورة، التي تسمى الآن زمبابوي وغيرهم. ومن الأشياء التي كانت أكثر إثارة في قمة الخرطوم مشاركة الرئيس المصري أنور السادات الذي جاء الخرطوم ليقدم لها الشكر على مساندتها مصر بعد توقيع السادات لاتفاقية كامب ديفيد في 17 سبتمبر 1978 بين الرئيس المصري محمد أنور السادات ورئيس وزراء الكيان الصهيوني مناحيم بيغن. وكان السودان وسلطنة عمان هما الدولتان اللتان لم يقاطعا مصر بعد التوقيع على غير بقية الدول العربية ، وقام حلف مناهض لمصر هو (جبهة الصمود والتصدي) ضم كل من ليبيا، وسوريا، والعراق، والجزائر، ومنظمة التحرير الفلسطينية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، وكانت التهديدات موجهة للقيادة المصرية من قبل هذا الحلف ، ولهذا قبل وصول الرئيس السادات إلى الخرطوم تحول فندق الهلتون إلى قلعة أمنية مصرية حيث انتشر رجال الأمن المصريين في كل جحر في الفندق وفي خارجه. وكان المؤتمر الصحفي شيقاً جداً وكان الرئيس السادات منفتحاً مع الإعلاميين السودانيين ، وهذا موضوع سوف أتطرق اليه في مقال في وقت لاحق. كنا ننتظر باهتمام لافت وصول بعض قادة حركات التحرر الوطني أمثال سامورا ميشيل وجواكيم تشيسانو قادة حركة تحرير (فرليمو) التي حققت الانتصار في موزمبيق واقامت دولة الحرية فيها ، وقادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي يحارب العنصرية لجنوب افريقيا ، وحركة تحرير نامبيا. وكنا نتطلع لمقابلة جوشوا نكومو رئيس حركة اتحاد شعب زيمبابوي الأفريقي (زابو) ورئيس حركة زانو بقيادة (روبرت موقابي) الذي أنشق عن نكومو وشكل حركته. هؤلاء جاءوا إلى القمة الأفريقية وأناروا ليل الخرطوم البهيم ، وكان المؤتمر الأفريقي من أنجح المؤتمرات الأفريقية. كان روبرت موقابي قائد حركة التحرير في روديسيا الجنوبية ( زيمبابوي) حالياً بعد الاستقلال التي استولى عليها المستعمرين البيض وفرضوا عليها نظاماً عنصرياً شبيها بالنظام العنصري في جنوب افريقيا. موقابي كان (ايقونة) النضال والتحرر الوطني.قاتل بضرواة المستعمر الانجليزي ونجح في جمع شعب زيمبابوي تحت قيادته حتى حقق النصر في عام 1980م ليتولى الحكم فيها منذ ذلك التاريخ. وكان روبرت موقابي أحد أبطال النضال الأفريقي ، وهو الشاب اليساري والمناضل من أجل الحرية ورمز القومية الأفريقية ولقبه شعبه ب (أبو الاستقلال). 37 عاماً مرت على حكمه تحدى فيها كل الصعاب ولكن الشعوب لا تقبل هذا التمترس في السلطة و(الكنكشة) فيها ، ولا تقبل الضيم والقهر والقمع بحجة الزعيم الأوحد والزعيم الذي لابديل له كأن حواء عقمت ( لو دامت لغيرك لما آلت إليك).، ومع مرور الأيام يتحول بعض المناضلين والأبطال إلى طامعين في السلطة ومن حولهم الحاشية وبطانة السوء التي تزين لهم وتخطط لهم وتفصل لهم الدساتير حتى يبقوا في الحكم دهراً ويستمر منوال التعديلات دورة ثم دورة إلى أن تأتيهم الطامة. انحرف الحكم في زيمبابوي .. فبدلاً أن يكون (موقابي) مناضلاً ضد المتآمرين والمستعمرين واسطورة وسط شعبه تحول إلى أداة قمع ضد كل من يرفع صوته وينادي بحقه في الحرية والإصلاح وحكم القانون وضد الفساد. وبلغ موقابي من العمر عتياً – 93 سنة_ واستمر مصراً على الاستمرار في الحكم ، طبعاً تدفعه زوجته المتطلعة إلى الحكم والزبانية الذين يدورون حوله والمنتفعين وأعضاء حزبه الذين أثروا على حساب الشعب ويريدون الحفاظ على مصالحهم ، ولتذهب مصالح الشعب إلى الجحيم ، إلى أن استيقظ موقابي صباح الأربعاء على هدير الدبابات تحاصر بيته من أقرب الناس إليه ومن الجيش الذي بناه طوبة طوبة فحسم 37 عاماً من الطغيان في أقل من ساعتين. هذه سنة الحياة لا يمكن أن يستمر الظلم أبد الآبدين ، ولا يمكن أن يستمر القهر والقمع إلى مالا نهاية. إن مأساة القارة الأفريقية أنها القارة التي شاخ فيها أكثر الرؤساء على مستوى العالم ولازالوا مستمرين في الحكم، لا يتعلمون من الدروس .. لا يتعلمون من شاوسيسكو ولا من شاه ايران ولا من القذافي ولا من مبارك ولا من غيرهم ، ولن تنفعهم الحاشية التي سوف تتساقط كأوراق الخريف. وغداً وليس ذلك ببعيد أن يعلم كل من شاخ في السلطة واعتمد على القمع والقهر واذلال شعبه أن الساعة تدور وأن الدور آتيه لامحالة ...وأن حجة أنه لا يوجد بديل التي يروج لها أزلام السلطة هي حجة الفاشلين وأنه لا مكان لها مع غضبة الشعوب. وأن مزبلة التاريخ تنتظرهم قريباً. درس زيمبابوي درس عملي والدروس العملية ( كما تعلمناها في حصة المواد العلمية) لا تحتاج لفهامة حتى يعجز أغبى التلاميذ عن فهمها. كنا نتمنى أن يأتي التغيير في زيمبايوى من قبل الشعب والجماهير الغاضبة التي حولت ساحات هاراري العاصمة إلى ساحات رقص ابتهاجاً بانقضاء كابوس موقابي ... فالعسكر عندما يصلون إلى السلطة .. يحلو الكرسي الأثير ويصبح الخروج من قصر الرئاسة خياراً صعباً .. رغم أن الزمن تغير وأصبحت الانقلابات العسكرية مرفوضة من قبل أفريقيا ومن قبل المجتمع الدولي. فهل نحلم بأن نرى صورة أخرى عملية في قارتنا الأفريقية العجوز تطبق هذا الدرس قريباً ؟؟؟ علي عثمان المبارك – صحفي عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.