عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. قبل ثورة المعلومات ودخول الأجهزة الذكية وتربعها علي قمة الاهتمام البشري، كان الفرد يطّلع علي المعلومات حسب ميوله ومزاجه. يقارن ويفند ويستنبط حسب ما يتوفر له من مواد للاطلاع وبمحض اختياره، وليس هنالك من مجال لتوجيه اهتمامات المتلقي الا في الأنظمة الديكتاتورية الشمولية التي تفرض رقابة مشددة علي كافة وسائل الأعلام وتدفق المعلومات، فتغزي عامة الشعب بعقيدتها السياسية، ولا تسمح الا بالمعلومات التي تعضد من اتجاهاتها وتدعم تصوراتها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كان ذلك مثار انتقاد الديمقراطيات المستنيرة التي تنادي بحرية الرأي والتعبير وان تكون خيارات الانسان من وحي قراءته للأوضاع وما يجري حوله من احداث والتي تمثل جل ادراكه وتُوجه عقله السياسي من منطلقات مبادئه واعتقاداته وتجاربه مثلما أورد ابن خلدون في مقدمته بأن الوجود عند كل مُدرك مُنحصر في مداركه. تطورت اليات تبادل المعلومات من ضمن منظومات التطور في كافة المجالات، وظهرت الشبكة العنكبوتية والأجهزة الذكية من هواتف محمولة وايباد وغيرها، ولم يعد هنالك حجر علي رأي او حجب لرؤية وباتت العوالم الافتراضية تغزي مخلية البشر بما تحمل من مواد. تميزت وسائل التواصل الاجتماعي بمقدرتها في تزويد المتلقي بكم هائل من المعلومات في سرعة فائقة وبتقنية عالية تؤثر بالطبع علي تصوراته واعتقاداته. وأصبحت تبعاً لذلك مرتعاً خصبا للترويج السياسي والاجتماعي في مختلف القضايا لتشكيل الرأي العام وتوجهاته وتصوراته. كلنا راقب وشاهد كيف كان اثر استخدام هذه الوسائط في فترة الربيع العربي ومقدرتها علي هز عروش بعض الانظمة العربية عبر برنامج الفيس بوك وتويتر والواتساب. يتطور الامر ليستغل بصورة واضحة في تحديد خيارات الناخبين عبر التأثير المباشر لوسائل التواصل الاجتماعي ومقدراتها الفائقة في توجيه الرأي العام حسب مقتضيات السياسة ورغبة عرَّابها، خاصة وقد بات سهلاً استهداف الفئات الأكثر تأثراً برسائل من نمط معين وذات هدف معين، مع الاستدراك بان المتلقّى دائماً يجنح نحو الاطلاع علي المواد التي تعضد من آراءه، وقد أصبحت في متناوله دون كثير عناء. لم يعد لذلك حدوداً جغرافية ولا محددات سياسية ولا كوابح اخلاقية، وباتت الاتهامات تتقاذف بين الكيانات والدول باستغلال الفضاء الاسفيري في الخصومات السياسية والمذهبية والفكرية. ولعل اقرب مثال لذلك الاتهامات التي وجهت لروسيا ابان الحملة الانتخابية الامريكية الشهيرة في عام 2016 بتدخلها في توجيه الناخب الامريكي والقضايا التي شغلت المحاكم الأمريكية فترة من الزمان، حيث يري الكثيرون أن فوز ترامب جاء بدعم الكتروني اسفيرى من روسيا. وأفادت بعض التقارير ان روسيا فبركت حوالي 120 صفحة في الفيسبوك، نشرت من خلالها 80 الف بوست تم استقبالها من قبل 21 مليون مواطن أمريكي، ومن خلال عملية المشاركة ارتفع العدد الي 150 مليون ثلثي الناخبين في أمريكا. كما توجه ايضا بعض الاتهامات لروسيا بمحاولاتها التأثير وكسب تأييد سياسي لمصلحة الشعوبيين في أوروبا ضد النمط الليبرالي السائد لخلق فضاء غير ليبرالي وتفريغ الديمقراطيات من جوهرها ومحتواها. ولعلي استعير هنا عبارة " تأكل الفضاء الديمقراطي" التي وردت في مقال لصديقي الكاتب الفذ والاديب السفير خالد موسى، والتي تشير الي ان وسائل التواصل الاجتماعى بدلاً من أن تنهض بمهمة تطوير الممارسة الديمقراطية بتدفق المعلومات أصبحت أكبر مهدد للديمقراطية في عقر دارها. أجادت كذلك المنظمات الإرهابية وشبكة الاجرام الدولية استخدام واستغلال الفضاء الاسفيري ووسائل التواصل الاجتماعي بالعمل علي بث معلومات تخدم أغراضها بالترويج لاخبار مفبركة وكاذبة لاثارة الهلع او لخلق الاضطرابات. بل ابعد من ذلك فق استخدم تنظيم داعش واستفاد من هذه الوسائط في نشر افكارهم والترويج لها وبث الرعب والاستفادة منها استخبارياً. فرسالة واحدة كانت كافية لرفع درجة التأهب الأمني لأعلي المستويات. أفرد السفير عبد الله الأزرق حيزاً في كتابة القيم " داعش إدارة التوحش " عن استخدام تنظيم داعش لوسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الالكترونية لنشر رسالتها وترويع خصومها بتقنية عالية واساليب إخفائية ذكية لا تتيح تتبع مصدرها، وأن داعش تمكنت من خلال وسائل التواصل الاجتماعي لا للترويج لأفكارها وتجنيد المتعاطفين اسفيرياً فحسب، بل لشن هجمات من قبل أعضائها بتوجيهات منهم دون ان يكون هؤلاء المنفذين علي اتصال فعلي بالتنظيم وقياداته، ولعل اكبر دليل علي ذلك ماورد في الكتاب بان ثلاثين ألفاً من العسكريين ألقوا سلاحهم ونزعوا زيهم العسكري لتصبح مدينة الموصل لقمة صائغة بسبب الفيس بوك وتويتر وبثهم لرسائل ومقاطع فيديو مثل مقطع " صليل الصوارم "، مما يوضح استغلال التنظيم واستفادته من التطور التقني خاصة وأن جيل المنتمين له من الشباب ملم ومتقن لهذه الاستخدامات. وقد شهدت كبريات الصحف، حتي الأمريكية منها ، بتفوق داعش التقني في التملص والمراوغة والاخفاء حتى علي الدولة الأولي في العالم التي تحتضن السيليكون فالي، أكبر تجمع الكتروني في العالم. لم يعد الاستخدام السالب للتطور التقني والتكنولوجي وثورة الاتصالات ذات تأثير محدود بنسج معلومات مزيفة، أو التشويش علي قنوات فضائية، أو سلب وتفريغ الافكار والمعتقدات من محتواها، والتشكك في الخيارات الديمقراطية للشعوب، بل اصبحت مطية للقراصنة تستخدم لاثارة الخلافات وترويجها وبث النعرات العصبية القومية والعنصرية وتحدث خلافاً بين الدول يصعب رتقه، كما حدث في أزمة دول الخليج الاخيرة، التي بدأت بدعاوى قرصنة بثت من خلالها معلومات سببت شقاقاً عميقاً بين دول تربطها من الوشائج والروابط ما لا يتوفر في كثير من الأحيان داخل الدولة الواحدة. يمتد الاثر الي أعمق واخطر من ذلك، ففي ظل اختلال اليات الضبط والاستقرار في المنظومة الدولية الراهنة، والتنبوءات لرهانات قد تؤدي الي حروبات بين الدول، خاصة بالنظر الي ما يدور في شبه الجزيرة الكورية، باتت المخاوف حول إمكانية قيام حرب نووية نتيجة لاعمال القرصنة التي تهاجم الشبكات وتحدث تغييرات في أنظمة السلامة للمفاعلات النووية. أوردت الايكونومست في عددها للاسبوع الاخير من شهر يناير الماضي، ان خياراً صعباً قد يواجه متخذي القرار في حال نشوب نزاع حاد قد يقود الي حرب، بين استخدام الأسلحة النووية ضد العدو، أو الانتظار ليتم تفجيرها في ارضها، عبر القراصنة الذين لا تستعصي عليهم الجدران النارية للحماية الالكترونية، وبالطبع يصبح الخيار الاول هو الاجدي. وتنتفي تبعاً لذلك مقولة أن ردع السلاح النووي هو ما احال دون قيام حرب واسعة النطاق علي مدار ال 70 عاما المنصرمة، وكذلك ايلولة السلام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية لقوة ردع السلاح النووي الذي لا تتجرأ اي من مُلاكه استخدامه لاثارة التدميرية المتبادلة التي يمكن أن تحدثه. وبهذا تكون وسائل التواصل الاجتماعي والفضاءات الاسفيرية والتقنية الرقمية قادرة علي أن تحدث تعديلاً في المفاهيم والاطروحات، وتؤثر في الخيارات وتبزر التفرقة والاختلاف، وقد تقود الي حروب ودمار وشقاق بائن. تختلف درجة التأثير من دولة الي اخري، ومن مجتمع الي اخر، حسب اختلاف البيئة والمقدرات ودرجة التطور التقني والتكنولوجي. الا أنه بالطبع ونتيجة لمتلازمة التخلف والاعتماد التام في النواحي التكنولوجية علي العالم المتطور، تظل دول العالم الثالث والسودان جزء منها تواجه تحديات كبيرة بالاستغلال السالب للفضاءات الاسفيرية والعوالم الافتراضية لهدم القيم والمعاني. وبدلاً من أن تكون أداة لتلاقح الافكار تسهم في التوعية والنهضة لممارسات سياسية واجتماعية مسئولة ومستنيرة، يمكن أن تستخدم ايضاً كمعاول هدم تنخر في بنية المجتمع فتضعف قواعده وتهز هيكله في مجتمعات احوج ما تكون لأن تعصم من قواصم الاضطرابات وأدوات الهدم. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.