شهد التاريخ الإنساني الكثير من نماذج توظيف الأدب لخدمة اجندة مختلفة، أدب الدعاية ( البروباغندا)، في أوربا القرن التاسع عشر والقرن العشرين، التي تعمدت تشويه صورة الإنسان الأفريقي، بغية شرعنة استعماره مثالاً. إلا أن هذه الأعمال، برغم سعيها لخلق صورة سيئة، بربرية ووحشية عن المجتمعات الأفريقية، الآسيوية، وبعض المجتمعات اللاتينية، امتازت بالجمالية، وتوظيف تقنيات سردية مدهشة. وما تجارب الزُّنوجة "سنغور"، و كتابات أدباء القارة الأفريقية العظماء: "شينوا أشيبي" و "وول سوينكا" و" نغوجي وا ثينغوا" و" تعبان لو ليونق" وغيرهم، سوى محاولات لعكس صورة مضادة عن صورة الإنسان الأفريقي في المخيلة الأوربية، أي بروباغندا مُضادَّة. للبروباغندا والأدب صلات مشبوهة ومتشابكة. الصلة الأولى بين البروباغندا والأدب، هي عندما يستخدم الأدب صراحةً كدعاية. قد يرغب المؤلف في الإشارة إلى علل المجتمع بطريقةٍ معينة، أو يكتب بطريقة موجهة لاقناع قرائه بهذه المشكلات. الدعاية بهذه الطريقة يمكن أن تكون إيجابية، أو سلبية. والصلة الثانية هي حقيقة أن، أي عملٍ أدبي هو في الواقع شكلٌ من أشكال الدعاية. هناك دوماً أسباب تدفع الكاتب لمشاركة نظرته للعالم مع الآخرين. ودائماً ما تكون الرِّسالة منحازة في حالة كتابة الرواية أو القصة. هذا التَّشابك بين الأدب والبروباغندا، هو أحد الأسباب الرئيسة التي تقود لحظر بعض الكتب. حيث أن أولئك الذين في السلطة، دائماً ما يكونون قلقين من قراءة كتب قد تعزِّز وجهة نظر معينة ومتناقضة مع السلطة(الخطاب السَّائد). أدب البروباغندا في السودان له نماذج لا تُحصى ولا تُعد، وغالباً ما يلقْ المنتوج الأدبي (الرواية والقصة تحديداً) من صنف البروباغندا، حظه من الانتشار لفتراتٍ محدودة، قبل أن يُمحى سريعاً من الذاكرة الإبداعية، نسبة لضعفه جمالياً. الحالة الشاذة في هذه القاعدة، هي كتابات القاصَّة الأبنوسية والإنسانة الشفيفة استيلا قيتانو، "زهور زابلة" و" العودة" أدب الحرب، كما تكرَّم بتصنيفها الاستاذ: كمال الجزولي. تميُّز تجربة استيلا عن التجارب الأخرى، مردَّه إلى عوامل زمكانية أعاقت تطورها، نسبة لغياب النقد الذي فرضته خطابات المرحلة. حيث في مطلع الألفينيات مع بشريات السلام والوحدة الجاذبة، تم استخدام كل ضروب الفن والإبداع في معادلات السياسة والمجتمع، ولم تُستثنى حتى الكتابة الإبداعية، لتشكِّل جريمة في حق الأدب. لسوء حظ استيلا، أو ربما لحسن حظها، استُقبلت كتاباتها بطريقة غير اعتيادية، ومُيِّزت ايجابياً. أعني بالتمييز الايجابي (Positive discrimination) في هذا السياق، التعامل مع، منتوجاً ما (قصص قصيرة)، أو الاحتفاء بها بطريقة اعتذازية، انطلاقاً من الاحساس بالذنب تجاه المُنتِج (القاصة)، بحيث تتم معاملتها باستثنائية، بغض النظر عن الامكانيات. الاحتفاء المُبالغ بكتابات استيلا قيتانو، استند على قيمتها التمثيلية، كأدب من جنوب السودان، وليس لقيمته الأدبية. واعتقد أن التعامل مع كتاباتها بقيمتها التمثيلية بدلاً عن الإبداعية، والتي فرضها السياق الزمكاني لكتابات القاصة الأبنوسية، أضرَّت بتجربتها المتواضعة أكثر. دوافع الاحتفاء المُبالغ بقصص الأبنوسية، نفسية في المقام الأول، وبعضها اجتماعية. لا أستبعد، بالطبع، وجود قلَّة من القرَّاء والنقاد الذين يجدون في كتاباتها قيمة حقيقية، لكن عدم تقديم نقد حقيقي لتجربتها حتى الآن، اعزيه للحساسية المفرطة في التعامل مع "أدب الوحدة الجاذبة"، و تفادي الوصم بالعنصرية في حال تقديم نقد أدبي رزين لتجربتها. هذا السلوك على ما اعتقد، انعكس سلباً على تجربة استيلا، وحصر كتاباتها في دائرة (ما يريده القرَّاء). عودة ميري ومعاناتها في معسكرات العودة الطوعية، وابتدار القراءات القصصية بالحديث عن تجربتها الشخصية، معاناة المطارات، قيود التحرك بين دولتي السودان وكل ما يمكن أن يدر عاطفة المتلقي السوداني، الذي غالباً ما يلجأ لتعظيم وتمجيد كتاباتها بطريقة غير أدبية، بغاية الحصول على صك غفران سيكولوجي، على خطاياه المفترضة ضد الأبنوسية الشفيفة عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.