إسحق أحمد فضل الله يكتب: (تعليل. ما يجري)    الأهلي مدني يدشن مشواره الافريقي بمواجهة النجم الساحلي    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    إبراهيم شقلاوي يكتب: هندسة التعاون في النيل الشرقي    حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    الأهلي الفريع يكسب خدمات نجم الارسنال    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    يرافقه وزير الصحة.. إبراهيم جابر يشهد احتفالات جامعة العلوم الصحية بعودة الدراسة واستقبال الطلاب الجدد    بيان من وزارة الثقافة والإعلام والسياحة حول إيقاف "لينا يعقوب" مديرة مكتب قناتي "العربية" و"الحدث" في السودان    حسين خوجلي يكتب: السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    نوارة أبو محمد تقف على الأوضاع الأمنية بولاية سنار وتزور جامعة سنار    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليس دفاعا عن عرمان ،،،،، و لكن حبا لهذا الشعب .. الحلقة (4) ... بقلم: الهادي هباني
نشر في سودانيل يوم 07 - 02 - 2010

في كل محطة في تاريخ بلادنا القديم و الحديث إبتداءا من ممالك كرمة، نبتة، مروي، المريس، المقرة، علوة، الشلك، العبدلاب، الفونج، السلطنة الزرقاء، تقلي، المسبعات، الثورة المهدية، ثورة 1924م، الإستغلال، أكتوبر 1964م، مارس/أبريل 1985م. و كذلك في كل بقعة من بقاع بلادنا الممتدة شرقا و غربا، جنوبا و شمالا و في كل إقليم من أقاليم السودان بما فيها مناطق التوتر، و في كل مدينة من مدن بلادنا، بل و في كل حي من أحياء مدن السودان ،،، تتجسد صورة من صور التمازج القومي و التعايش السلمي بين قبائل السودان و أعراقه المختلفة ،،، و حتي الأحياء الفارهة في العاصمة و غيرها من المدن (و التي تضم علية القوم و صفوتهم من أمثال أستاذنا الفاضل الطيب مصطفي و عصبته) تتمثل فيها كل سحنات و أعراق شعبنا.
و لن يجد الطيب مصطفي و غيره من أصحاب اللسان و حملة الأقلام التي تروج و تؤصل للفكر الإستعلائي (مهما بذلوا من جهد جبار و سخروا من إمكانات ضخمة) في تاريخ و حاضر و مستقبل بلادنا و شعبنا ما يدعم فكرهم الظلامي و مشروعهم غير الأخلاقي "مشروع السودان العروبي المسلم" أو بعبارة أخري أكثر وضوحا "الدولة الدينية في السودان" من مبرر و أساس مادي أو وجداني ،،، فواقع شعبنا و تراثه المتنوع متعدد الأعراق و الثقافات و الأنماط الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية بكل عمقه و ثرائه يتناقض مع هذا المشروع غير الإنساني القائم علي أرضية صلبة من التعصب و الجمود الفكري المتعمق فيهم، و يتجاوز حدوده للدرجة التي يجدون فيها أنفسهم (كما يحدث الآن) في مواجهة مع شعبنا بكل طوائفه و ثقافاته و أعراقه و أحزابه و قواه السياسية مما يضطرهم و يدفعهم، في سبيل تكريس الحقيقة المطلقة المتجزرة في رؤؤسهم و ممتدة حتي أخامص أقدامهم، إلي البدء في بتر و تمزيق بلادنا و تقسيمها إلي كيانات و دويلات صغيرة متصارعة ،،، و مثلث حمدي ليس خرافة أو أسطورة أو إشاعة ،،، كما أنه لم يعد تلك الخرط و المسودات التي يتم تداولها سرا في حلقات التآمر الضيقة لنمور النظام الحاكم و أباطرته ،،، و أصبح مع إقتراب موعد الإستفتاء حول مصير الجنوب أمرا مكشوفا و معروفا للجميع يتحدثون عن مضمونه علنا بكافة أجهزة الأعلام المرئية و المقروءة و المسموعة ،،،
و إذا كانت حملات تجزئة بلادنا و تمزيقها التي يسعر نيرانها و يدق طبولها الطيب مصطفي و زمرته حتي تتطابق ظروف بلادنا (بقدرة قادر) مع فكرة السودان العروبي المسلم تمثل الشق الإحتمالي الأول لأسطورة "سرير بروكرست" و التي تتجاوز فيها أطراف الضحية حدود السرير، فإن الشق الإحتمالي الثاني للأسطورة و الذي تكون فيها الضحية أقصر من طول السرير مما يضطر بروكرست لمطها و شدها لتتساوي مع طوله، تمثله الدعوة التي تروج لها نفس الذمرة (و يعلو صوتها هذه الأيام) بضرورة "إعادة كتابة تاريخ السودان" و هي في حقيقة أمرها عملية منظمة لتزييف تاريخ السودان و تحريفه لإيجاد مسوغات و مبررات يمكن بموجبها إيجاد توافق بين فكرة السودان العروبي المسلم (أو بعبارة أخري مثلث حمدي) و بين واقع بلادنا و تاريخه ،،،
و هذا منطق لا يصدر إلا عن أناس جاهلون بواقع بلادنا و لا يحملون في قرارة أنفسهم أية مشاعر حب و وفاء لشعبنا الذي طالما كان يحرضنا علي العلم و المعرفة برغم ضيق الحال. من يعجز عقله عن استيعاب عظمة شعبنا و قوته التي إكتسبها من تنوعه و تعدد ثقافاته و راكمها عبر تاريخ طويل من التمازج القومي، و من هو فاقد للبصيرة و تعجز عينيه عن رؤية هذا الجمال و الإبداع الفطري الذي يميز إنسان السودان بإختلاف ألوانه و سحناته و ثقافاته هو قطعا لا يكن ذرة من حب للوطن و للشعب. و رحم الله إيليا أبوماضي الذي تحضرنا في هذه اللحظة بعض أبياته من قصيدة "فلسفة الحياة" و التي كانت تدرس في مناهج الأدب و البلاغة (الصادرة عن معهد التربية بخت الرضاء) في كل بقاع السودان و تحفظها أقسام كبيرة من السودانيين عن ظهر قلب ،،،
إن شرّ الجناة في الأرض نفس تتوقّى، قبل الرّحيل، الرّحيلا
وترى الشّوك في الورود، وتعمى أن ترى فوقها النّدى إكليلا
هو عبء على الحياة ثقيل من يظنّ الحياة عبئا ثقيلا
والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا
و حقيقة يدهشنا و يشعرنا بخيبة الأمل ما يكتبه و يروج له و يصرح به دعاة مشروع السودان العروبي المسلم، و كلما نقرأ لهم أو نسمع منهم يراودنا نفس سؤآل أديبنا الراحل الطيب صالح "من أين أتي هؤلاء" فنحن كجيل و قد جئنا بعدهم بعدة أجيال لم نحس بمثل هذه المرارات التي يعيشونها و يترجمونها بكل هذا الغضب و الكره لشعب طيب لا يستحق ما يجري له، و في كل مراحل حياتنا و حتي اليوم و السودان علي باب قوسين أو أدني من التشظي و التمزق لا زلنا كجيل و كغيرنا ضمن كثير من الأجيال التي سبقتنا و التي جاءت بعدنا نعيش و تعيش في داخلنا كل صور التماذج القومي التي شكلتنا و شكلت شعبنا بدون تكلف و بشكل فطري و عفوي بسيط. و تعود بنا الذاكرة إلي زمن النشأة حيث العديد من الشرفاء من أبناء جيلنا خاصة أولئك الذين ترعرعوا في مدينة الدويم العزيزة علي النفس أو مدينة العلم و النور لارتباط إسمها بمعهد بخت الرضاء و معهد مبروكة و هما ليس كما يعتقد البعض مجرد مراكز للعلم و المناهج التعليمية و التأهيل التربوي و إنما هي في الحقيقة مراكز لتطوير المجتمعات الريفية أو ما يصطلح عليه في علوم الإجتماع و الإقتصاد و في لغة منظمات الأمم المتحدة المهتمة بالتنمية الريفية و علي رأسها منظمة العمل الدولية ب ""Rural community development centers و منذ نشأتهما في بدايات القرن العشرين و بفضلهما و فضل الأجيال المتعاقبة التي تخرجت منهما و عملت في النيل الأبيض، (و لعدة عوامل أخري متعددة لا مجال لذكرها هنا) دخلت بعض مظاهر التنمية الريفية البسيطة في مختلف أنحاء المنطقة و تجاوزت بالتالي منطقة النيل الأبيض برمتها "من الجبل للجبلين كما يقولون" و عبر تحولات إجتماعية و ثقافية و سياسية طبيعية عميقة في محتواها و سلمية في طابعها و عمومياتها كل أشكال الصراعات القبلية و العرقية التناحرية الحادة بكل مظاهرها المتخلفة من حروبات و ثأر و قتل و تناحر بين مختلف قبائلها المنحدرة من كافة أقاليم السودان و حدث بينها تزاوج و تداخل عميق و أصبحت بالتالي واحدة من أبرز مناطق التعايش السلمي في بلادنا ،،،
و بجانب العلوم الأكاديمية يعلم معهد بخت الرضاء و المدارس التابعة له أيضا الزراعة و أدواتها البسيطة (الطورية، المنجل، الملود، الكوريق، الواسوق، المحرات، النجامة، الحشاشة، و غيرها)، تنسيق الحدائق، تربية الدواجن، النجارة، الحدادة، الصحة و الإسعافات الأولية، الموسيقي، المسرح، الإلقاء الشعري، النشيد الوطني و مختلف أنواع الفنون، هذا بجانب العديد من المناشط الرياضية. و قد كانت مدارس بخت الرضاء الإبتدائية الست مسماة بأسماء فرسان الثورة المهدية (المهدي، الخليفة، دقنة، النجومي، الزاكي، أبوعنجة) و قد كان ذلك من أهم عوامل ترسيخ قيم العزة و الكرامة و الإنتماء الوطني ،،،
و كان لمدارس بخت الرضاء المتوسطة الفضل في تعليمنا و تدريبنا علي العمل النقابي و الممارسة الديمقراطية فعرفنا و لأول مرة (و نحن لم نبلغ الثالثة عشر بعد) ماذا تعني الجمعية العمومية، اللجنة التنفيذية، خطاب الدورة، محاسبة اللجنة التنفيذية، إجازة الميزانية و غيرها من مصطلحات ،،، حيث كان جرس السابعة إلا ربع صباحا في مدرسة الدويم الريفية إذانا ببدء نشاط الجمعيات (الصحة، الموسيقي، الحدائق، الإصلاحات، الرياضة، الجمعية الدينية) و التي كانت تستمر حتي السابعة و النصف صباحا حيث يقرع جرس الطابور و بداية اليوم الدراسي، و كان لكل جمعية رئيس و أعضاء يتم تدويرهم علي كل الجمعيات بشكل دوري نصف شهري و كان هنالك من يتم تثبيتهم في أحد الجمعيات لكفاءتهم في مجال معين بناءا علي طلب رئيس الجمعية و كان رؤساء الجمعيات يمثلون مجلسا له رئيس و نائب رئيس و يتم إنتخابه سنويا بعد إنعقاد الجمعية العمومية و محاسبة المجلس القديم و ذلك من خلال إنتخابات ذات درجة عالية من الشفافية و بموجب إقتراع سري و كانت العملية الإنتخابية كلها تدار من قبل الطلاب دون تدخل من المعلمين أو أي جهات أخري ،،، و كان في العادة يشرف علي كل ذلك أحد المعلمين يسمي في هيكل الجمعيات بالمستشار فهو دائما بجانب اللجنة التنفيذية و يحضر معظم إجتماعاتها و يقوم فقط بالدور التعليمي و التربوي في العملية برمتها ،،،
كانت النيل الأبيض بحكم وجود معهد بخت الرضاء و معهد مبروكة و بحكم وجود مشاريع النيل الأبيض للإعاشة قبلة لكل قبائل السودان و علي رأسهم الدينكا و النوير و بالتأكيد الشلك الذين هم سكان النيل الأبيض الأصليين. و كذلك كانت قبلة للكثير من قبائل دارفور و جنوب كردفان و النيل الأزرق ،،، كما أن لقبائل شمال السودان علي اختلافها و تنوعها تواجدا كثيفا في كل قرية، مركز، أو مدينة من مدن النيل الأبيض ،،، و قد حدث تداخل عميق و تزاوج و مصاهرة بينها و بين قبائل المنطقة ،،، فهذا هو السودان و هؤلاء هم السودانيون فما أن يلتقي نفر منهم في أي بقعة من بقاع الدنيا إلا و يبدأ التعارف و التداخل بينهم بداية بالأسئلة المعهودة التي أصبحت لازمة و سمة تميز السودانيين أينما حلوا و حطت بهم الرحال و أصبحت جزءا من سلوكهم التلقائي العفوي "إنت من وين" ،،، "بتعرف فلان" ،،، و هو في جوهره سؤآل بسيط يعبر عن طيبة شعبنا و حبه للتعارف و السلام و تعميق أواصر الترابط و لا يخلو من دبلوماسية أيضا فالتعارف بهذا الشكل يخلق أرضية مشتركة و جو خصب و درجة كبيرة من الإرتياح تقرب وجهات النظر و تيسر الأمور و تعزز روح التعاون و التعاطف و تغلب جانب المجاملة ،،، و لرئيس مجلس سيادتنا الراحل أحمد الميرغني عليه الرحمة و المغفرة و قد اشتهر بدماثة الخلق و التهذيب و التشرب بخصال أهلنا و عاداتهم السمحة قصة طريفة يتداولها الكثيرون (و العهدة عليهم) هي أنه في إحدي زياراته للإتحاد السوفيتي استهل حديثه مع جورباتشوف رئيس الإتحاد السوفيتي حينها بسؤآل السودانيين الإفتتاحي التقليدي و التلقائي المعهود "بتعرف محمد إبراهيم نقد؟" ،،،
و أذكر و نحن في المتوسطة في مدرسة الدويم الريفية و هي أحد المدارس المتوسطة التابعة لمعهد بخت الرضاء (بجانب مدرسة النيل الأبيض المتوسطة و مدرسة الدويم شمال المتوسطة) و التي كان يتم فيها تدريب المعلمين ،،، قرأنا كتابا من أعظم الكتب التي ضمتها مكتبة بخت الرضاء آنذاك بعنوان "People of cow'' لأحد الكتاب المستشرقين (للأسف الشديد لا يذكرني إسمه) ،،، و كم نشتاق اليوم لإعادة قراءة هذا الكتاب مرة أخري بمزيد من التدبر و التمعن و قد بحثنا عنه كثيرا و لا زلنا في كثير من المكتبات و كل مواقع الإنترنت و سبق و أن أوصينا أحد أشقائنا للإتصال بصديقنا و أحد أبناء جيلنا الشرفاء "آخر الرجال المحترمين" (لا داعي لذكر إسمه) و قد كان مسئولا عن مكتبة بخت الرضاء قبل أن يبتلعها سيل التدهور و الإنهيارات الكارثية المحزنة و تتلاشي هكذا ببساطة بكل عظمتها و ثرائها و التي كانت يوما ما تضاهي ال "British Library" بجلالة قدرها ،،، فقد كان الكتاب يتحدث عن أهم القبائل النيلية في الجنوب "الدينكا، النوير، الشلك" و من يطالع ذلك الكتاب سيدرك مدي عظمة هذه الشعوب و تاريخها الضارب في القدم و عاداتها و تقاليدها التي تجبر كل متصفح أو متطلع علي إحترامها و تقديرها و الإعتزاز و التفاخر بها ،،، و قد كان لهذا الكتاب و غيره من الكتب المشابهة أثرا عميقا في تعريفنا بشعب السودان بكل تنوعه و تعدد أعراقه و ثقافاته ،،، و كان معهد بخت الرضاء نموذجا مصغرا لهذا التنوع ،،، فقد كان دائما يعج بمختلف السحنات السودانية التي لا تخطئها العين المجردة من كل فج و صوب من حضر بلادنا و بواديه ،،، و كان من حظنا أن عشنا هذا التنوع و الثراء و تشربنا به من خلال علاقات الزمالة و الصداقة مع أبناء السودان الوافدين من مختلف مديرياته لتلقي العلم في مدارس بخت الرضاء ،،، و كذلك من خلال أساتذتنا الأجلاء المخضرمين الذين تتلمذنا عليهم بمختلف اللكنات خلال تلك الفترة و المنحدرون من كل أقاليم السودان ،،،
هذه اللوحة الزاهية الجميلة متعددة الألوان و الخصائص و بخت الرضاء بكل جمالها و سحرها تمثل عمقا و خلفية لها ،،، إرتسمت في كل بقاع بلادنا و أقاليمه و التي شهدت صورا و إن إختلفت في بعض التفاصيل الصغيرة متشابهة في جوهرها و عمومياتها بما في ذلك المناطق التي عاش فيها دعاة الدولة الدينية و السودان العروبي المسلم أنفسهم و لكن للأسف الشديد كانهم غرباء و سيظلون كذلك.
و من الثابت أن بلادنا كانت منذ القدم ملتقي للأفكار و الحضارات المختلفة و لتداخلها و تلاقحها. و قد ساعد علي هذا واقع بلادنا الجغرافي المتسع و هو محاط و مفتوح علي عدة حضارات و أجناس يسهل تنقلها و ترحالها من كل الإتجاهات جنوبا و شمالا، شرقا و غربا بجانب الثراء الطبيعي المتمثل في توافر المجاري المائية الطبيعية و التربة الخصبة الصالحة للزراعة بجانب الثروة الحيوانية و النباتية و كثافة الغابات و تعدد الثروات المعدنية في مناطق عدة ،،، و قد أكسب هذا الثراء الطبيعي في الموارد و الموقع الجغرافي تلك الأفكار و الحضارات المتداخلة بعدا إنسانيا أكثر عمقا ،،، فقامت حضارات السودان القديم كرمة و نبتة و مروي مرورا بحضارة النوبة و مملكتي المقرة و علوة المسيحيتان و مملكة نوباطيا أو المريس بجنوب مصر و شمال بلادنا و عاصمتها فرس. (راجع: البروفسير عون الشريف قاسم – من صور التماذج القومي في السودان – صفحات 10/11).
و كما دخل الإسلام السودان (كما سبق و ذكرنا في الحلقة السابقة) بدون حروب أو صراعات و إنما عن طريق التداخل السلمي و المصاهرة، من الثابت أيضا في تاريخ بلادنا أن المسيحية دخلت السودان عن طريق التداخل السلمي و بدون حروب و قوبلت بكل ترحاب و وجدت رعاية كبيرة من ملوك النوبة و كان لها تأثيرها الواضح في وجدان شعبنا و في ثقافته منذ تلك الحقب و حتي الآن و لا زالت هنالك عادات و تقاليد مسيحية يمارسها السودانيين في حياتهم اليومية كالختان و الميلاد و غيرها. (راجع: المصدر السابق ذكره نفس الصفحات)
و بالتالي فإن هذا التماذج و الإنصهار و التلاقح القومي في بلادنا المستمد ثرائه و عمقه و سلاسته من إرتباطه بالبعد المكاني و الجغرافي و الإقتصادي الذي خلق (و لا يزال) أرضية صلبة للمصالح المشتركة و تربة خصبة للوحدة و التعايش السلمي و لم يسجل تاريخ بلادنا و علي وجه الخصوص تاريخ الممالك الإسلامية و تاريخ الثورة المهدية أية مظهر من مظاهر الحركات أو التيارات الداعية لتقسيم السودان و تجزئته و حتي محاولات الإستعمار المتكررة في تاريخ السودان الحديث لفصل جنوب بلادنا عن شمالها بترسانة من القوانين و الإجراءات و علي رأسها قانون المناطق المقفولة قد باءت كلها بالفشل لعدم وجود مقومات أو أساس مادي و وجداني تقوم و ترتكز عليه.
Alhadi Habbani [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.