محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    القوات المسلحة تنفي علاقة منسوبيها بفيديو التمثيل بجثمان أحد القتلى    لماذا دائماً نصعد الطائرة من الجهة اليسرى؟    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    إيلون ماسك: لا نبغي تعليم الذكاء الاصطناعي الكذب    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    نحن قبيل شن قلنا ماقلنا الطير بياكلنا!!؟؟    شاهد بالفيديو.. الفنانة نانسي عجاج تشعل حفل غنائي حاشد بالإمارات حضره جمهور غفير من السودانيين    شاهد بالفيديو.. سوداني يفاجئ زوجته في يوم عيد ميلادها بهدية "رومانسية" داخل محل سوداني بالقاهرة وساخرون: (تاني ما نسمع زول يقول أب جيقة ما رومانسي)    شاهد بالصور.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبهر متابعيها بإطلالة ساحرة و"اللوايشة" يتغزلون: (ملكة جمال الكوكب)    شاهد بالصورة والفيديو.. تفاعلت مع أغنيات أميرة الطرب.. حسناء سودانية تخطف الأضواء خلال حفل الفنانة نانسي عجاج بالإمارات والجمهور يتغزل: (انتي نازحة من السودان ولا جاية من الجنة)    البرهان يشارك في القمة العربية العادية التي تستضيفها البحرين    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    الخارجية السودانية ترفض ما ورد في الوسائط الاجتماعية من إساءات بالغة للقيادة السعودية    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    الدعم السريع يقتل 4 مواطنين في حوادث متفرقة بالحصاحيصا    قرار من "فيفا" يُشعل نهائي الأهلي والترجي| مفاجأة تحدث لأول مرة.. تفاصيل    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    الأحمر يتدرب بجدية وابراهومة يركز على التهديف    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    لحظة فارقة    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النخبة السياسية وتبرير المشاركة في إنتخابات 2020 : "دولة ألأفندية" العميقة ونهاية الطريق لحراك الجماهير .. بقلم: د. عثمان عابدين عثمان
نشر في سودانيل يوم 24 - 05 - 2018

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
في معرض مقالاته القيمة والمُتًعمِّقة في تاريخ السياسة السودانية الحديثة والمنشورة بتاريخ 18 مارس 2018، تحت عنوان "مراجعات في المشهد العام" [1]، حاول أستاذ السر سيد أحمد تشخيص معضلة الحكم في السودان وفتح كَوَّة في جدار الإنغلاق السياسي السميك القائم منذ فجر إستقلال السودان من الحكم البريطاني.
أخذ الأستاذ السر سيد أحمد على القوى السياسية السودانية بقائها حبيسة للصراع المتمركز حول المصالح الذات ورؤى الأيدلوجيا. إختصر أستاذ السر فشل النخبة السياسية فيما أسماه ب "دولة الأفندية"، وفي ذلك لم يفرق بين فشل دولة الإنقاذ في الإستفادة من الفرص التي أتيحت لها أثناء عمر تاجها الممدود، وبين فشل الإحزاب، مجتمعة، في إستثمار فترات الإنتقال للتأسيس للنظام الديمقراطي الراسخ والمستديم. بالإضافة إلي ذلك حَمَّل أستاذ السر المعارضة مسؤلية تخذيل عملية البناء الديمقراطي بمقاطعتها إنتخابات 2010 التي أعقبت أتفاقية السلام الشامل بدليل قولهِ: "وبسبب مقاطعة المعارضة للإنتخابات في 2010 تَمَّ إهدار وضع طوبة في البناء الديمقراطي".
بعد مرافعة طويلة وشائكة توصل أستاذ السر إلي الإستنتاج الذي دعا بموجبه القوى السياسية التخلي عن هدف تغيير النظام عن طريق النهوض الجماهيري والقبول بإحتمال تغييره من خلال المشاركة في إنتخابات 2020. أقام أستاذ السر إستنتاجه ذلك علي حيثيات وفرضيات معقدة ومتشابكة علي مستويات متعددة في مقاربتها لإستنتاج أهمية المشاركة في إنتخابات تفتقر لشروط الحياد والنزاهة. ولذلك، ولغرض الوضوح والمنطق المتماسك، سوف نحاول في هذه القراءة التحليلية - النقدية الإستعراض لاهم المقدمات والفرضيات التي بني عليها أستاذ السر إستنتاجه الداعي للمشاركة في الإنتخابات بغرض إحداث التغيير الديمقراطي المنشود. فمن من المعلوم للجميع أن الإستنتاج المنطقي، الواضوح، الخالي من التناقضات والأقرب إلي الحقيقة هو ما بني علي مقدمات وفرضيات سليمة ومتماسكة توظف حقيقتها لدعم الإستنتاج المتوقع من حجة الإستدلال التحليلي - الإستقرائي.
دولة الإسلام السياسي، التي أتت ببرنامج الإنقاذ السياسي والإجتماعي، مثلت عند أستاذ السر لحظة تتويج فشل دولة الأفندية بديل "واقع أهدارها لآربع فرص رئيسية كان يمكن أن توفر الرافعة التي تضع البلاد على طريق الإستقرار والتنمية السياسية والإجتماعية وتهيئها إلى مرحلة الإنطلاق." فقبل كل شيء أهدرت الجبهة الاسلامية القومية بعدها الشعبي بعد أن "حازت على المرتبة الثالثة في انتخابات 1986، مما يؤكد على البعد الشعبي للنظام الجديد المسنود بقوة اعلامية ومالية معتبرة". أما الفرصة الثانية التي أضاعها نظام الإنقاذ فتتلخص في الدور الإقليمي المحوري الذي لعبه السودان في "إحداث التغيير السياسي في كل من أثيوبيا وارتريا، الأمر الذي كان يفترض أن يوفر له أستقرارا ودورا أقليميا... بالإضافة للإختراق الذي أحدثته الإنقاذ في ملف البترول." "ورغم هذه الفرص الاربع فأن النظام لم يتمكن من تحقيق استقرار سياسي واقتصادي بدليل الازمة الخانقة في هذين الجانبين تحديدا وعدم قدرته على اقناع بقية القوى السياسية من خلال ممارساته وصدقيته بالعمل السلمي واعتماد صندوق الانتخابات وسيلة للتغيير"، والقول لأستاذ السر. ففي تقديرهِ أضاع نظام الإسلاميون فرصة الحكم علي الرغم من تمكنهم بالإنفراد بالسلطة والإستمرار في سُّدَّتها لفترة طويلة. علاوة علي تمكنهم من إنتاج البترول والنجاح في إحداث تغيير سياسي في أثيوبيا وأريتريا.
أما الدولة التي أنتجتها ثورة أكتوبر فقد تَسَيَّدت المشهد السياسي العام في البلاد لأكثر من نصف قرن من الزمان، وإتصفت فيها نخبها السياسية باللامبدئية والتمحور حول الذات، وأصبح جل همها هو 'إعادة اختراع العجلة السياسية‘ التي حملتها لمشارف "دولة الافندية" الفاشلة. "فلا أهل الحكم قادرين على السير قدما في مشروعهم أو ما تبقى منه ولا معارضيهم قادرين على تحديهم بما يفرض على السلطة تنازلات تسهم في توسيع قاعدة الحكم وتحقيق قدر من الإستقرار، الامر الذي يهدد البلاد بالتفتت"، والتقرير لأستاذ السر. تعود 'دولة النُخَبْ‘، علي حسب إيضاح أستاذ السر، بجذورها إلي عملية السودنة التي سيطر عليها موظفو الخدمة المدنية وإنتقلو معها إلي مراكز السلطة ومن بعد ذلك أورثوها للأجيال التالية عبر إبتِسار وإختزال "الشعور الوطني الجارف" في محاصصات الترضية السياسية وتوافق قسمة السلطة والثروة. ولتوصيف "دولة الأفندية" نضيف ، من عندنا، ومن غير تَكُّرمٍ، صفة 'العميقة‘ تأكيدا منا لصواب تسميته، وأيضاً، لغربتها الطويلة عن طريق الصواب والنجاح. فحتي جيل الحاضر الذي تقطعت به حبال وطرق التواصل مع أصله وماضيه، يعاني من علة تضخم الذات وصعوبة وغشاوة رؤية كل ما يقع خارج دوائر رغباته وإهتماماتهِ الخاصة.
السياق المنطقي الذي أورد فيه أستاذ السر إضاعة نظام الإسلاميين فرصة الحكم علي الرغم من إنفرادهم به لفترة طويلة، وتمكنهم من إنتاج البترول والنجاح في إحداث تغيير سياسي في أثيوبيا وأريتريا، قد يفهم منه إهدار فرصة في الحكم كان من المفترض أن تكون راشدةً وحكيمةً. ليس لدينا أدني شك في أن أستاذ السر يعرف بوعي ويقتنع أن الحكم، أيةً كان، لايقوم أويستقيم ويستديم في ظرف إحتكاره والانفراد بمصدر قوته وسلطانه، ولكن يكون رشده وصلاحه جزء أصيل من مرجعيتة الشرعية التي يستمدها من عامة الناس الذين أتي من أجل خدمتهم وصون كرامتهم. أما الشمول والإنفراد به فهو ليس أكثر من تذكير وتأكيد علي إطلاق سلطانهِ الذي يقود، وبالضرورة لفساد وإفساد مطلق للسلوك والأخلاق. وما علينا سوي التمعن في الدرك السافل الذي أوقعنا فبه مُلك وسلطان الإسلاميين العَضُوضُ.
أما التدخل في شئون الغير والتاثير علي مجري الأحدات السياسية للدول الأخري، يمثل في حد ذاته فعل سياسي غير حكيم وقصير النظر وليس من المحسوب علي فرص التَهَيُّؤ السياسي الرصين والحصيف، وفي كثير من الظروف والأحوال. لا شك ان تدخل دولة الإسلام السياسي في السودان، في شئون دولة إثيوبيا المجاورة، قد أقعد بالعمل المعارض، وثبت نظام دولة الإنقاذ، ولعب دورا حاسماً في إنفصال إرتريا عن دولة إثيوبيا، ولكنه، أيضا،ً كان له دور مهم في أنفصال جنوب السودان، من دولة السودان مؤخراً، وما نتج عن ذلك من عدم إستقرار سياسي وإجتماعي وإقتصادي ما زال يعاني منه السودان وشعبه والنظام الذي خطط له ونفذه بإعتباره وسيلة تمكنه من الوصول للحكم كغاية ونهاية.
في مقابل فشل دولة الإسلام السياسي، في رأي أستاذ السر، أيضاً، فشلت الفترات الإنتقالية في ترسيخ الحكم الديمقراطي نتيجة العيب في طبيعة التكوين السياسي للاحزاب السودانية. ومن بين الفترات الانتقالية الأربع التي عرفها السودان منذ عشية إستقلاله، لم يتطرق أستاذ السر لفترة الحكم الذاتي في ما بين 1953-1955، ولكنه أثني علي فترتي أكتوبر وإبريل لتقيدهما "بالمدى الزمني المخصص لهما" وتمكنهما "من إجراء إنتخابات تمتعت بقدر معقول من المصداقية وضعت أُساسا لشرعية للنظام البرلماني الذي أعقبهما، ولكنهما، "لم تقدما إنجازاً يذكر فيما يتعلق بتوفير الحلول للقضايا العاجلة التي أدت الى الإنتفاضات على النظام الذي ثارت ضده في المقام الأول". لاشك في أن "هدف الفترة الإنتقالية احداث توافق قومي للبناء الوطني"، وكما إستنتج أستاذ السر. ولكن، الفترة التي أعقبت إتفاقية السلام الشامل لاتتساوي، لا في ظروف تشكلها أو طبيعة وجودها السياسي، مع الفترتين التين أعقبتا إكتوبر وأبريل. فشتان ما بين ظرف سياسي يتساوي فيه الجميع وآخر قائم ومسيطر تكون فيه الدولة رهينة نظام سياسي شمولي، متعسف ومخادع، وفي ذلك قال أستاذ السر "واذا كان هدف الفترة الإنتقالية إحداث توافق قومي للبناء الوطني فان ذلك لم يحدث كما تشير تجارب الفترات الإنتقالية الثلاث التي مر بها السودان المستقل".
لَخَصَّ أستاذ السر سيد أحمد فشل ثورتي أكتوبر وأبريل في قِصَر فترتيهما الإنتقاليتين وتهافت الأحزاب السياسية علي سدة الحكم، وبالتالي عجز حكومتيهما عن إنجاز المهام الموكلة إليهما ومن ثم قصورهما في تمهيد الطريق لنظام الحكم الديمقراطي. أما ثورة أبريل فقد أضاف لأسباب فشلها إختلال ميزان القوي بين المجلس العسكري الإنتقالي والتجمع النقابي، بالإضافة للنشاط المعادي لتنظيم 'الجبهة الإسلامية القومية‘. علي الرغم من إتفاقنا مع أستاذ السر في تهافت الأحزاب، حينها، علي سدة الحكم وقصورها اللاحق في تقييم الفترات الإنتقالية للإستفادة من تجربة فشلهما، نجد أنفسنا نختلف معه في ما ذهب إليه من تبرير عجز الحكومتين الإنتقاليتين في أداء المهام الموكلة إليهما بقِصَر زمن الفترتين وإختلال ميزان القوي بين المجلس العسكري والتجمع النقابي والنشاط المعادي لتنظيم الجبهة الإسلامية القومية، وعجز نفس الأسباب والمبررات في تفسير فشل الأحزاب في الحفاظ علي النظام الديمقراطي الذي أعقب تلك الفترتين الإنتقالتين. في هذا الصدد، وبحكم وقياس مشابه، و بناءاً علي النهايات الفاشلة لتجربتي ثورتي أكتوبر وأبريل، و تشابه أسباب وظروف الماضي مع الحاضر، والخوف من الفشل وتكرار الأخطاء، تَحذَّرَ أستاذ السر من فشل الحراك الجماهيري المرتقب في إحدات التغيير والتحول الديمقراطي المنشود. علي حسب تقدير رأينا فيما ذهب أستاذ السر، فإن مشاعر الخوف والحذر من تكرار الخطأ والفشل تستوجب التسليم بالواقع كما هو، من غير تعديل، وقبول خيار الإنتخابات كوسيلة وحيدة وآمنة في ظرف اليأس والإحباط الذي يسيطر علي فضاء العمل السياسي.
في معرض حديثه عن الفترة الإنتقالية الثالثة التي أعقبت إتفاقية السلام الشامل ومشاركة تجمع المعارضة في برلمان النظام، أقر أستاذ السر بمنطق مقاطعة المعارضة لإنتخابات 2010 بناءاً علي فشل النظام في تحقيق الإسقرار السياسي والإقتصادي، وذلك بدليل الأزمة الخانقة، القائمة آنذاك. أضف إلي ذلك فشل النظام في إقناع القوى السياسية بجدية ممارسة العمل السلمي واعتماد صندوق الانتخابات وسيلة متفق عليها لتداول السلطة. "فأنتخابات 2010 تمت مقاطعتها في أخر لحظة بدعوى التزوير رغم انه كان من الأفضل المشاركة لإثبات ذلك التزوير من واقع الممارسة الفعلية وأهم من ذلك وضع لبنة في عمليات التواصل مع القواعد وطرح البرامج وأختبار البدائل والمرشحين حتى يمكن تحقيق الفوز." وأيضاً أضاف: "رد الفعل الجماهيري الضعيف في أعقاب إنتخابات 2010 التي أعقبت إتفاقية السلام الشامل لم تعني قطعا ان الناس توافق على تلك الاجراءات أو انها مساندة للحكومة...لكنها تشير الى أمر أعمق وهو فقدان العشم والامل في توفير الحلول من قبل الطبقة السياسية بحكوماتها ومعارضاتها المختلفة."
هكذا جاوز أستاذ السر سيد أحمد بمنطق مقاطعة المعارضة للإنتخابات وضرورة مشاركتها في نفس الإتخابات التي فرض عليها المنطق مقاطعتها. وبطريقة مماثلة قرأ أستاذ السر قرار جماهير دائرة بربر للتصويت للمؤتمر الوطني علي الرغم من قناعتهم الراسخة بحجة فساد وفشل حكومة الإنقاذ الوطني. وفي خضم هذا التفكير والسلوك المتناقض، من الضرورة أن يُصْبح مبدأ المشاركة في حالة عداء وإقصاء جبري مع مبدأ العمل والتفكير في الوسائل السياسية الأخري التي تجتهد في البحث عن حلولا للفشل والفساد.
رفض المُحاصَصة السياسية وقسمة السلطة والثروة التي قادت لقيام 'دولة الأفندية الفاشلة‘ والتي رفضها عبد العزيز الحلو، قائد الحركة الشعبية بجبال النوبة، مثلت هي الأخري فرصة ضائعة في المشاركة في عملية البناء الديمقراطي، وقد وصف أستاذ السر ذلك ي قوله، "عرض هارون على الحلو فكرة استمرار تجربة الشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وقتها في الولاية، وهي أنجح تجربة شراكة بين الطرفين." وأضاف في ذلك، "التعامل الإيجابي مع ذلك الوضع كان يمكن أن يؤسس لولايتين يمكن لقوى المعارضة أن تبدأ رحلة البناء وتشكيل البديل للمؤتمر الوطني." التساؤل المشروع، هنا، يكون حول فائدة الإستمرار في شراكة لم تؤدي، في الأصل، حتي لتغيير أساسي وبديهي في مفهوم التنافس الديمقراطي وتبادل السلطة تثني أحمد هارون، حاكم ولاية جنوب كردفان 'المقيم‘، عن التشبث بكرسي الحكم بداوي الشراكة عن طريق صناديق الإقتراع.
بعد الأتيان بمقدمات إشتراك المعارضة في البرلمان وفشل النظام "في إقناع القوى السياسية بصدقيته إعتماد صندوق الإنتخابات كوسيلة لتداول السلطة"، إنتكس أستاذ السر بمنطق حجتهِ وحمل المعارضة مسئولية إهدَار فرصة المشاركة في وضع لبنة في الصرح الديمقراطي، وذلك برفضها المشاركة في انتخابات 2010. إضافةً إلي ذلك لم يكتفِ أستاذ السر بتأكيد تناقض منطقه ويقر بمشاركة المعارضة في إجازة قانون جهاز الأمن، وحسب، وليقول في ذلك: "الفترة الإنتقالية التي أعقبت اتفاقية السلام بين الحكومة والحركة الشعبية شهدت إجازة قانون الأمن الذي يشتكي منه الجميع الأن، علما انه أجيز بواسطة البرلمان الذي شارك فيه الجميع بمن فيهم ممثلو الحركة الشعبية والتجمع الوطني الديمقراطي"، لكنه ذهب أبعد من ذلك وساوي بين المعارضة والنظام في مسؤلية إجازة القانون الذي وضع العثرات ونقض رصَّ الحجارة في حيطة الصرح الديمقراطي المزعوم. فحقيقة الواقع الذي يعرفها الجميع، هي أن الأغلبية الميكانيكية للنظام هي من أجازت القانون الذي وضع العراقيل في طريق البناء الديمقراطي الذي لم يتطاول وهْم صِرْحَه ويلامس صفحات السحب والغمام، إلا في خيال خطاب الإسلام السياسي المنبت عن الحقيقة والواقع. فالنظام هو المسئول عن تزَوَّير التعداد السكاني والسجل الإنتخابي وصناديق الإقتاع و"شراء الاصوات وتعديل الدوائر، إلى غير ذلك من الاساليب الفاسدة"- بشهادة أستاذ السر. والنظام هو، كذلك، من قام بتدجين الدولة ومالها وإعلامها وجيشها وجبروتها لصالح عملية الكذب والغش والخداع الذي برع فيها وصلي وقام من أجل فلاحها وصلاحها؛ وهو الذي أرسل خفافيش الظلام لتعبث بصناديق الإقتراع وتملؤها بقصاصات الإقتراع الزائفة. بعد كل هذه الحقائق المرة، إفترض أستاذ السر، أوهكذا حكمنا علي تقديره، أن نظام الإسلام السياسي تضَمَّنَ علي قيم وأسس ديمقراطية تحتاج الي من يساعد في فهمها وفك شفراتها بالسلوك الديمقراطي الملتزم، ومن ثم المشاركة في بناء صرحها حتي تُصْبِح بنيانا قويم - متين. ففي نظام أيدلوجيا الإسلام السياسي لن تجد أثراً، من قريبٍ أو بعيد، لمفهوم الديمقراطية في إطار تجسيد إرادة الشعب وتبادل السلطة. ولذلك، من بديهيات المنطق والمعقول أن نعي وندرك تناقض مفهوم الديمقراطية مع فقه الضرورة والتمكين السياسي الذي تكون فيه السلطة حق سماوي يَحْتَكِر غُلاة المدعين فهمه وتفسيره.
فرضية أن إنحياز القوات المسلحة للحراك الجماهيري في ثورتي أكتوبر وأبريل هي من لعبت الدور الحاسم في نجاحهما قادت أستاذ السر سيد أحمد للتنبؤ بفشل حدوث الحراك الجماهيري، وذلك لغياب إحتمال تدخل القوات المسلحة التي تم إحلالها وإستبدالها بمليشيات تابعة للنظام. ولاكن، لم يلبث أن عاد أستاذ السر وتنكر لمنطق فرضيته وأقر بتاقض مفهومي العسكر والحكم المدني ليقول في ذلك: "ولاكن سرعان ما أنقلب نفس هؤلاء الضباط على حكم الأحزاب". فالقوات المسلحة هي من أجهضت كل فترات الحكم الديمقراطي، وبجناح ليل حالك وظليم. وهي كذلك، ولاغيرها، هي من أفرغت فترات الحكم الإنتقالي من عامل الأستقرار اللازم والضروري لترسيخ النظام الديمقراطي . فقد أضاع العسكر ستة وأربعين عاما حساما من عمر إستقلال السودان القصير. فالقوات المسلحة السودانية، ومنذ فجر الإستقلال، لم تخوض حربا مع الأخر المعتدي علي حرمة البلاد وحدودها، أو تتدخل لحماية الدستور من عدوان بعض من منسوبيها الطائشين- الطامحين. ولكن، قوات 'الشعب‘ المسلحة لم تتردد في خوض الحروبً الضروس ضد أبناء جلدتها وفي جهات السودان الأربع. أما في في عهد الإسلام السياسي فقد تم إحلالها بالمحابين والمنتفعين من شيوخ القبائل وأمراء الحروب، وإستبدلت عقيدتها في حماية وطن الجميع بشعارت الجهاد وأيدلوجيا دولة الحزب الواحد. ففي يوم الأمس القريب أعلنت القوات المسلحة 'السودانية‘، بإسم رئيس أركانها، وقوفها صراحة بجانب ترشيح البشير في 2020 لكي تؤكد علي إستمرار مبدأ إحتكار السلطة وتقطع الطريق لمن يحلم بإسترداد السلطة لصاحبها الأصيل، الشعب.
منطق المنازلة الإنتخابية أم إعادة تدوير الرئيس ودولته العميقة
في رأي أستاذ السر أن من "لديه القدرة على حشد الجماهير في أعمال مناوئة تستصحب قدرا يقل أو يكثر من المخاطر والعنف من التعرض للغاز المسيل للدموع إلى الضرب بالهروات، إلى الإعتقال وربما التعرض إلى إطلاق الرصاص والفوز في النهاية يفترض أن تكون لديه ثقة أكبر في قدراته وفي الناس الذين يتوجه اليهم للقيام بعمل سلمي وأقل خطورة يتمثل في العمل الدؤوب وسط الناخبين وتسجيلهم والتأكد من إدلاءهم بأصواتهم مهما سعى النظام للحفاظ على الاوضاع الحالية من خلال تزوير الإنتخابات أو التضييق على المرشحين والسيطرة على الإعلام".
في هكذا منطق لواقع السياسة العرجاء، إقترب أستاذ السر من مأزق مغالطة الثنائية الزائفة وحصر الخيار بين ما يقع خارج الفعل والإرادة وبين المشاركة في عمل من حكم اليقين أن لا يقود إلي النتيجة المرجوة. فخيار الحل ليس بين الأبيض و الأسود؛ والذي يُبَيتُ القَصد ويقوم بفعل إلقاء الغاز المسيل للدموع، أو الضرب بالهراوات، أو حتي القنص بالرصاص الحي، هو من يُفْتَرض أن يتنازل عن إصراره في مصادرة الحق العام وممارسة القمع والإقصاء والحرمان من حق الحياة المقدس، وليس من حاول حشد الجماهير بغرض التعبير السلمي عن حقها الديمقراطي المشروع.
فبالرغم من "الحديث المتكاثر عن عدم ملائمة البيئة الحالية لآنتخابات تعددية حقيقية مثل القوانين المقيدة للحريات وسيطرة المؤتمر الوطني على مفاصل الدولة إلى غير ذلك من شكاوى ونقد صادق، إلا أن عمليات التحول إلى برلمانية تعددية حقيقية من خلال الإنتخابات واقع أثبته ما حدث من تجارب في كينيا وغانا وقامبيا والسنغال والفلبين وغيرها من دول كانت ترزح تحت نظام الحزب الواحد أو نظام عسكري تطاول به العهد، وهو ما لم يتم تجريبه في السودان إلى الأن." وأياضً نقرأ، "وتمثل حالة الرئيس السنغالي الاسبق عبدالله واد نموذج على حالة الاصرار هذه اذ قرر منذ العام 1978 تحدي الحزب الإشتراكي الحاكم بقيادة ليولولد سنغور وأسس حزبا مناوئا خاض به الإنتخابات الرئاسية التي خسرها، وكرر التجربة في أعوام 83 و 88 و 93 وفي الدورة الاولى في انتخابات 1999 ليفوز في الدورة الثانية ويصبح أول رئيس للسنغال من خارج منظومة الحزب الإشتراكي." وكذلك، "للسودان تاريخ قديم مع الإنتخابات التعددية منها وأنتخابات الحزب الواحد أو الإستفتاءات. فالسجل المتاح يوضح ان البلاد شهدت خمسة أنتخابات تعددية."
أورد أستاذ السر سيد أحمد التقارير أعلاه كحيثيات تؤكد إهدار المعارضة لفرصة المشاركة في ضع لبنات في الصرح الديمقراطي، وكمقدمات يدعم بها أستنتاجه القائل بضرورة المشاركة في إنتخابات 2020 بهدف إحداث التغيير، والتي أضاف إليها مقدمة دليل فوز مالك عقار ،مرشح الحركة الشعبية بولاية النيل الازرق، في الإنتخابات التي أعقبت إتفاقية السلام الشامل.
مما لا شك فيه أن تجربة رئس السنغال السابق في إثراء تجربة التراكم النضالي من أجل التغيير الديمقراطية كانت ملهمة ومفيدة لمن ترسخت قناعاتهم بحتمية التحرر والإنعتاق النهائي للإنسان. ولكن، لم يحيطنا أستاذ السر بالظروف والملابسات التي ادت إلي ترجيح كفة الديمقراطية في دولة السنغال، إلا أن يكون قد إفترض تطابقها مع مثيلاتها مع تلك التي قادت إلي فشلها في دولة السودان. فحتي فوز مالك عقار الذي أضاف لبنة في الصرح الديمقراطي المزعوم لم يلبث أن أن ذابت طينته في أول موسم من خريف الواقع الشمولي الجارف- فزحف جيش النظام وأزاح حاكِمُها المنتخب ديمقراطيا، وجعل منه لاجئاً في المنافي وطريدا للعدالة. وكذلك، فإن تجربة السودان المتعددة والمتكررة في الممارسة الديمقراطية، لم تحرره من قيود دولة الأفندية العتيدة وجبروت الإسلام السياسي الآتي من خلف مسارب التاريخ. وفي كل هذا يبقي الركود الأسن لفكر أيدلوجيا الإسلام السياسي هو الشذوذ والإستثناء في وحدة وتواصل التجربة الإنسانية العريضة.
النجاح علي الصعيد المعرفي والإجتماعي والسياسي ليس أكثر من تراكم لتجارب عديدة فاشلة. والفشل، في حد ذاته، لايبرر حتي الفشل نفسه. ومن حصافة العقل والمنطق أن نفهم أن المشاركة في عملية سياسية ترجح معطيات وحيثيات واقعها ومنطقها إحتمال الفشل أكثر من النجاح، سوف تقود إلي نوع من الفشل الذي من الصعب فهم دوافعه وتبرير نهاياته المتوقعة. فعلي الرغم من إستحالة التنبؤ بلحظة النهوض الجماهيري وميقات وكيفية التغيير، وذلك لطبيعتا التراكمية المعقدة والمتعددة الظروف والأسباب، فهي تعتمد بشكل كبير علي مقدار الوعي السياسي والإجتماعي لرجل الشارع العادي بضرورة وأهمية الإلتقاء مع فهم ودوافع الأخرين لإحداث التغيير الذي يهم الجميع. فأبريل لم تكن تكراراً لأكتوبر، وكذلك، حركة الشارع الناهضة والتغيير القادم لن يكون تكراراً لإكتوبر أو أبريل. فالسياق إختلف، والتاريخ يتحرك فقط في إتجاه أحادي نحو المستقبل وظروف ومعطيات الحاضر يصنعها ويحدثها واقع الحاضر، وإن كانت تسترشد بِعِبر وحكمة التجارب السابقة. في ذلك نري أن أستاذ السر، في معرض إيراد حيثياته التي ساقها لتسبيب فشل الحراك الجماهيري، قد فات عليه التمزق والتشتت الذي يضرب في عمق هوية الشعوب السودانية وإنعكاس ذلك علي طبيعة وتكوين أحزابها. وعلي الرغم من كل ذلك، نود التأكيد علي حقيقة أن الأحزاب تمثل الوعاء الوحيد المعاصر للتفكير والعمل المشترك الذي يفيد المجتمع ويؤسس لإختلاف الراي والتداول المنظم والحضاري للسلطة.
ولأن الديمقراطية تتطلب الصبر والمثابرة كما فهمها أستاذ السر وقرر بقوله: "فان للأمر جانبا أخر يتعلق بالنظرة الى العملية الديمقراطية نفسها التي تتطلب المثابرة والصبر عليها والبناء طوبة طوبة حتى يستوي بنيانها عبر التجارب والإنتصارات والنكسات..."، نقول أنه لا تحفظ لنا في ذلك، ولكن، الإنتظار 'اللامبالي‘ لحين موعد الإنتخابات في 2020. فلوح "الثلج الإنقاذي"، علي حسب توصيف المعارضة لبداية الإنقاذ، قبل تسعة وعشرون عاماً، ما يزال فيه بقية من ماء متجمد علي الرغم من نهار الواقع السوداني الساخن. فالإنتظار ذو المعني لا يكون إلا لِمواعيدٍ مع الحقيقة. فحتي هذه اللحظة لايوجد ما يستحق الإنتظار أكثر من إستمرار دولة العصبة المَحيقةِ. في هكذا حال ووضع، لن تكون هناك ما يسمي بإنتخابات بمفهوم إفادتها لعملية التغيير السياسي وتبادل السلطة، بل إعادة إنتخاب وتدوير لمنظومة الحكم الفاشل. وليس هناك من عاقل يتجاهل إرتداد بصَرِهِ ويضيع مجهود ذهنه ويذهب ليشارك في صناعة أمل يعرف باليقين أنه ليس أكثر من سرابٍ بَقيعٍ.
المشكلة في خيار المشاركة، بمفهوم 'المنازلة‘ لدحر النظام، في الظرف السياسي الحالي، أنه يتضمن القبول المُسْبَق للاحزاب بشروط العملية الإنتخابية وبالتالي إلتزامها، السياسي والأخلاقي، بقبول التبعات والنتائج التي تقود إليها. ولكن، أحكام الأخلاق والمواقف المبدئية لاتقبل التجزئة والتبريرات الجزافية، ويجب علينا ألا ننسي أن الموقف 'اللامبدئي‘ الذي من أجله سوف تستخدم الإنتخابات كوسيلة للوصول للسلطة والبقاء والإستمرار في سدة الحكم، وأنه لا فائدة لأخلاق أو موقف مبدئي في حضرة المكر والخداع. أما إذا إفترضنا جدلا أنه قد تم الإتفاق علي المشاركة في الإنتخابات بهدف التغيير، فيجب أن يكون ذلك وفقا للمصلحة العامة وفي بيئة ملائمة لإنتخابات حرة ونزيهة تساهم في عملية الحشد والتعبئة وتصب، في نهاية المطاف، في مجرى التراكم النضالي والتغيير الجزري والشامل المنشود. فمساندة الشارع، في حد ذاتها، لأهداف وغايات التتغيير تضمن شروط عدم إضفاء أية مشروعية جماهيرية علي نظام يفتقدها في الأصل والمنشأ - فالحق دائما ما يكون في إتفاق الناس علي الفعل الصواب.
الإنقضاض علي خيار الشعب بليل، ومن ثم البقاء في السلطة بالعسف والجبروت، إكسب النظام وضعاً لم يبقي للأخرين سوي خيار القبول والخنوع والمشاركة في الإنتخابات بإسم شرعية الأمر الواقع. هذا ما فهمناه من قول أستاذ السر أن: "شرعية الامر الواقع التي قاربت ثلاثة عقود من عمر النظام ودفعت الجميع اقليميا ودوليا إلى الإعتراف به والتعامل معه، بل وحتى داخل البلاد من مختلف القوى السياسية المعارضة وبصور مختلفة من خلال العديد من الاتفاقيات التي وقعتها وتشتكي من تملص المؤتمر الوطني منها..." في رأينا أن هناك فرق واضح بين التعامل مع الأمر الواقع من منطلق مفهوم الحقوق والجبات، وبين التعامل معه من منطلق العجز والقصور وعدم الحيلة.
في نظام دولة الإسلام السياسي العميقة، التي نعيشها، إختلط الحابل بالنابل وتماهت الحدود بين الدولة وحزبها الحاكم؛ فالحزب هو الدولة، وقرب المسافة من نظام دولة الحزب هي من تحدد العلاقة بين السلطة وعامة الناس الذين تم أختزال وجودهم في خدمة وإطاعة السلطة وحراسها. فالموطن يدفع الضرائب والزكاة والجبايات صاغراً لخدمة ورفاهية أسياده من من الوزراء والدستوريين العاطين عن القول المؤدب وفعل الضمير الحي. فنظام الإسلام السياسي في السودان، أفسد كل شئ: مافوق الأرض وما في باطنها؛ فصل الجنوب و ساوم في حلايب والفشقة من أجل إستدامة الجاه والأشخاص؛ أضاع دخل البترول في حروب العبث والجهاد؛ جفف مافي الضرع - فَدمَّر مشروع الجزيرة وقَصَّ أجنحة سودانير؛ جفف مافي أعالي البحار من سفن وبواخر وبوارج؛ أفسد الإنتماء للعرق فعلي صوت الجهة والقبيلة؛ إستغل الدين فأخرجه من دور العبادة ليمشي بين الناس مرابيا في الأسواق، وليُحِيكَ من بعض نصوصه فقها للتحلل والتحايل علي سرقة مال التعابي والمساكين. ففي دولة الإسلام السياسي يحاكم المجرم البريء؛ يقود الجلاد ضحيته لزنازين الحبس والتعزيب من قبل أن يطرق أبواب العدالة والمحاكم. ولاغرابة، فعدالة محاكم الشريعة العرجاء أصبها الكساح بعد أن أصبح رئيس دولتها نفسه طريداً للقانون والعدالة. نظام الإسلام السياسي الذي مازال يمنعنا إستنشاق الهواء، ليس أكثر من مسخ مشوه من سوء الأفعال النوايا وشر مستطير- مطلق، إذا كان هناك إطلاق في فساد العمل والنوايا، ومن المنطقي والمعقول أن نستنتج إستحالة أصلاح من فسد في عمق جوهر نواياه وخلاياه.
وبعد، نود في النهاية تذكير أنفسنا بأن نظام دولة الإسلام قد أتي علي متون كذبة بلقاء وخدعة ماكرة بغرض إخفاء هويته الدينية؛ وبقي وترعرع علي ذات الكذب والخداع بسبب خوائه الروحي وغربته ومجافاته لكُنْهْ الحقيقة وجوهرها. وأنَّ للديمقراطية، كما لقانون السبب والنتيجة، شروط ضرورة وكفاية لتحقيقها؛ و'سحائب القِبْلي العَاجِّي ترابا‘ لاتاتي بأمطار الهطول، أو كما قال شاعر البادية. فالعدالة والشفافية وتساوي الفرص والتنافس الحر ليس لها وجود وإعتبار في قاموس وناموس نظام ديكتاوري، ديني، أيديولوجي، أتي وبقي علي حَدِ أسِنّةِ المصاحف والرماح. ومن المهم الحصيف والذكي التفريق بين غرض 'المشاركة‘، أو 'المنازلة‘، في الإنتخابات بهدف إستغلال مناخ التعبئة الجماهيرية لصالح التغيير الشامل والجزري لنظام ومؤسسات دولة الإنقاذ، وبين غرض المشاركة في إنتخابات لم يعمل فيها فكر وحساب نتيجتها المحسومة سلفا لصاح حزب الدولة القائمة ورئيسها المنتهية ولايته بنص الدستور الذي أقره وأجازه برلمان حزبهم ودولتهم.
إسْتَخلص أستاذ السر الحل من دروس الماضي ونقد بشجاعة واقع الذات المعيب ودولة الأفندية الفاشلة، ولاكنه إشترط نجاح الحل بمعطيات غير موجودة في "المشهد السوداني"، وذلك بحكم قوله: "لكن النجاح في التجربة يتطلب ثلاثة أشياء لا تزال غائبة في المشهد السوداني: الاتفاق على برنامج للمعارضين يتجاوز خانة العداء للنظام فقط والتفصيل في البدائل، وأهم من ذلك الاتفاق على مرشح واحد تلتف حوله قوى المعارضة في مواجهة مرشح المؤتمر الوطني والإستعداد لتكرار التجربة مرة أثر أخرى وأعتماد القنوات القانونية للأعتراض والإحتجاج والإستعداد لجولة أو جولات أخرى مثلما حدث في البلدان التي تمكنت من أنجاز التحول." لا إعتراض لنا علي المقدمة الذي قررت عدم ملائمة المشهد العام ولا الإستنتاج الذي يدعو إلي وحدة المعارضة ومثابرتها علي العمل المدني، السلمي، ولاكن لم نجد في منطق أستاذ السر من الحيثيات التي تربط بين الواقع المعادي لحرية التعبير والقامع للحريات، وبين عمل المعارضة السلمي والدؤوب لحشد الجماهير والإستعداد للمشاركة في الإنتخابات. فمن المستحيل توقع نتيجة غير الفشل في غياب شروط الفعل النجاح. فالنظام القائم هو من يسيطر علي أرض وفضاء المشهد السوداني الخالي من كل سحائب الرجاء والأمل.
في كل هذا، الذي لم يتحقق حتي الآن، ولأية حراك شعبي، في الماضي أو في الحاضر، هو وحدة أصحاب المصلحة في التغيير الشامل وإتفاقها علي برنامج مرحلة الإنتقال التي تمتلك الإرادة السياسية ويتوفر لديها معين الوقت الكافي لكي تقوم بالمعالجات الإسعافية الملحة والضرورية، ومن ثم تلتفت لتاسيس التحول الديمقراطي الراسخ والمستديم. قد تبدو فكرة الحل، بهكذا تصور، سهلة وبسيطة، وخاصة إذا سلمنا بأن الكل يهمه أن يشارك في الصراع علي البقاء والتطلع لحياة أفضل، ولكن السودان بلد متعدد الشعوب والمذاهب الحزبية والسياسية. وهنا تكمن أهمية أن يكون برنامج المعارضة مصحوبا بالإتفاق علي برنامج واضح وصريح تتوحد حوله حركة الجماهير ويوفر الضمان والثقة في حكومة الفترة الإنتقالية التي ستشرف علي بداية عملية التغيير الجزري والشامل. هذا، من الواضح، يقع في حكم الصعب تحقيقه، ولكنه، وبلا شك، ليس في حكم المستحيل.
مراجعات الفكر والوقوف ضد القهر والظلم تكون من صميم واجبات المثقف المستنير. ولكن، وقبل كل ذلك، وجب علي المثقف المستنير أن يرفض بأن يكون جزاً من مسرحٍ تعلو خشباته ثقافة الإنغماس في الترف السجالي العقيم، ومن بعد ذلك عليه الإعتراف، الواضح والصريح، بحقيقة أن فكر وثقافة وسلوك نظام الإسلام السياسي قد أتي من بين ظهرانيه ومن بين أضلع جوانحنه المتنازعة بين هويات عرقه وديننه وأرضه. وليس هناك موقف أخلاقي- سياسي مستنير، أكثر وضوحا من الإلتزام بهزيمة وإسقاط مشروع الضلال والفساد والتي أتي به فكر وأيدلوجيا الإسلام السياسي في السودان. فصعوبة الإختيار ليس بين المواقف التي تتشابه في نهاياتها، ولكن بين صيانة حق النفس في الحياة والبقاء وتحقيق العدالة للمظلومين كشرط، أكثر من ضروري، لتحقيق الديمقراطية والسلام الاجتماعي، من ناحية، وبين التسليم لواقع الظلم الفساد وترك من إرتكب الخطيئة ينعم بجرمه وبما حلله من مال سحت حرام، من الناحية الأخري. وآخر ما يبتغيه العارف المثقف، المهموم بمصير شعبه ووطنه، هو إضفاء شرعية شعبية، بمشاركة فطيرة وغير مدروسة، في إنتخابات فرضها عليه اليأس والإحباط من إرادة الجماهير، علي نظام حكم وتفكير ساقط في فعله وإخلاقه. فمن المنطقي والعقلاني أن نستنتج أن المشاركة غير المدروسة سوف تقود، وبلا أدني شك، لتغبيش وعي الناس بمفهوم الديمقراطية ودولة الحكم الرشيد؛ تقعد بالعمل المعارض وتهز ثقة الجماهير في قياداتها وحكمة وصواب رؤيتها السياسية.
ولإن التفكير الإفترضي ماكان بترف أو خطل لمن يرفض المشاركة في في عملية إنتخابية تكرس لإستمرار نظام لايمتلك أية مقومات فعل ديني أو دنيوي، ففي مسرح العبث واللامعقول الذي تتصدر مسرحه أنظمة القهر والشمول، قد تتشابه وتختلط غايات ووسائل المشاركة في إنتخابات لا تقود إلا لإستمرار الحال القائم. ولذلك شروط التغيير، وبأية شكل، لن تتحقق إلا بإلتخلص من واقع نظام الإسلام السياسي المشوه والمرفوض. وهكذا نعي ونعرف أنه ليس هناك طريقا أخر يقود إلي النور غير إعمال العقل والمعناة في تداول الرأي والتفكير، ويبقي علي الناس العمل علي تغيير حالهم وحال أهلهم ووطنهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.