كان فطورُ المُدرِّسين يثيرُ شهيّتنا ونحنُ صغاراً... لتنوّع أصنافِه، وحرارتها... و رائحتها الشهيّة، عندما تحين (فُسحة الفطور): كبدة، سمك،طعميّة... وشعيريّة... وأغنى من ذلك: كمّا ونوعاً. وكان الأساتذة يبعثون بأربعة أوخمسة من عتاولة التلاميذ، لإحضار صينيّة الفطور ،(التّهز وترز) من أحد البيوت المجاورة، أومن ست الفطور: (إذا لم يجدوا للأولى سبيلاً!). وسِتّ الفطور، كانت ترتبط عندنا بال(لقيمات) شتاءً، والشطّة و(التِبِشْ) والعجّور صيفاً...وكان المصروف كافياً لكل لذلك: بعد الفطور المُشبِع الذي تليه التّحلية. و لكن لم يكن ذلك المظهر الوحيد لاستقرار المدرِّسين... فقد كانت بيئة المدارس جاذبة: الكتب التي يتم توزيعها للطلاب جديدة، الكراسات وأقلام الرصاص مجانيّة، وتلك الدواية العملاقة، التي نملأ منها أقلام الحبر كلُّ يوم اثنين وخميس... الكنب بأحسن حال، والوسائل التعليميّة متاحة: متنوِّعة، كافية وزاهية... وكانت تأسرنا المكتبة المدرسيّة، و ننتظر وحصص التربية البدنيّة والفنون، وبرامج الزيارات المدرسيّة بفارغ الصبر... وكانت الأنشطة المدرسيّة ولا سيّما (الجمعيّة الأدبيّة): نتاجاً لإبداع المدرِّسين والتلاميذ معا! المُقرّرات كانت شيِّقة ومفيدة وثرّة: تستفز المدارك وتشحذ العقول، يسهر على مراجعتها وتنقيحها أساتذة أكفاء في معهد (بخت رَضا)... و معهد المعلمين، التلاميذ بصحة جيِّدة،وعلى الدوام، فإن شذّ بعضهم عن ذلك: فدفتر العيادة اليوميّة... أضف إليه حملات التحصين في المواسم...ونحنُ مقبلون على الدراسة بشغفٍ ومرح: الحمامات نظيفة وكافية،والمزيرة (القناويّة) تزودنا بالماء البارد طوال اليوم.. والشجيرات والأزاهير تتوزع في أنحاء فناء المدرسة، وتحيط بالمدرسة الميادين. وكان المدرسون يعرفون التلاميذ بأسمائهم ويصادقونهم،و ذلك لعدم ازدحام الفصول، و تمتد علاقتهم لتصل الأسر، يتفقدونها،ويقدِّمُون مساعدات حقيقيّة لبعضها، سرّاً، دون التنويه بأنها (أسر متعفِّفة) وما شاكل ذلك من (صنوف النّتْ) والرياء... وكان بالمقابل، مجلس الآباء قائماً بأمور المدرسة... يبادل الجميل بالأجمل، ومع ذلك فقد كانت هيبة المدرِّس تتفوّق على سطوة لآباء... وكان مُرور المدرس في الحي في العصاري: حدثاً يُحكى به!... وكان يجرى على لساننا، سلساً، بيت الشعر: - قُم للمعلمِ وفِهِ التبجيلا... كاد المعلمُ أن يكون رسولا! وكان مرتّب المدرِّس يعفيه من ذُلِّ السؤال. المدرسون يتحرجون من (درس العَصُر): ناهيك عن الدروس الخصوصيّة !أين نحنُ من هذا؟؟؟ أنظر ماذا فعل الفقرُ والانقسام الطبقي بنا!؟؟ حتى صارت بعض المدارس (الخاصّة)، التي أنشئت على أساس ربحي بحت، صارت: تضاهي بيوت الأزياء والمحال الراقية. استرداد حقوق المدرِّسين، استرداد لهيبة التعليم وضمان لتحقق أهدافه ووظائفه: - أعلمت أشرف أو أجلّ من الذي يبني ويُنشئُ أنفساً وعقولا... عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.