السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    وزيرا الداخلية والعدل: معالجة قضايا المنتظرين قيد التحرى والمنتظرين قيد المحاكمة    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الشان لا ترحم الأخطاء    والي الخرطوم يدشن أعمال إعادة تأهيل مقار واجهزة الإدارة العامة للدفاع المدني    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    مصالح الشعب السوداني.. يا لشقاء المصطلحات!    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    دبابيس ودالشريف    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خدعة أبناء جبال النوبة بوهم وكذبة السودان الجديد .. شعار الحركة الشعبية .. بقلم: آدم جمال احمد– سدنى
نشر في سودانيل يوم 14 - 02 - 2010

أصبح شعار السودان الجديد والسودان القديم من المفردات والمفاهيم التى برزت بقوة الى المشهد الثقافى والسياسى فى الأونة الأخيرة ، وصار مفهوم السودان الجديد شعاراً سياسياً وعنواناً لبرامج الكثير من القوى السياسية السودانية ، فما هو هذا السودان الجديد ؟ .. دعنا نتلمس ونغوص فكرياً وثقافياً فى أروقة الحركة الشعبية لتحرير السودان ، وأن نتناول هذه القضية فى إشكالياتها المختلفة صعوداً وهبوطاً وتاريخاً ومستقبلاً ، وكيف تمت مقاربة هذا المفهوم من خلال المرجعيات الفكرية والسياسية والثقافية فى الواقع السودانى.
دعنا نحاول أن نسلط أضواء كاشفة على مفهوم وشعار السودان الجديد بهدف رسم أبعاد واتجاه جديد فى تناول القضايا ، وهذا الاتجاه يعيد وضع المسائل والقضايا الخاصة بهذا الشعار والمطروحة من قبل قوى سياسية جديدة فى دائرة الضوء ومن خلال النقاط التى طرحتها الحركة الشعبية بأن السودان القديم يمثل دولة الوسط أى ما نسميه مثلث الخرطوم – كوستى – سنار .. وهذه الدولة تقودها النخبة العربية الاسلامية وهى نخبة أنشأت استعماراً محلياً بعد خروج المستعمرعبر استراتيجية سياسية قائمة على البنائية أى إحتكار الممارسة السياسية وإبعاد الآخر عنها ، وهذا الاستعمار الجديد عمل على إلحاق الأطراف والتى تعتبر أساس لتكوين السودان الجديد وهذه الأطراف هى: جنوب السودان وغربه وشرقه ويمكن أيضاً شماله ، لأن هذه الأطراف قد تم إلغائها كمجموعة ذات شخصية ثقافية مكتملة بسبب هيمنة الثقافة العربية الاسلامية .. مما أدى الى وعى جديد كنتاج لعملية الاستعمار الداخلى من الأطراف التى وعيت بدايتها الهشة بذاتها المهمشة ونشأت فى شكل حركات سياسية فى جنوب السودان ومنطقة جبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان وحركة كوش فى شمال السودان وأخيراً دارفور فى غرب السودان .. وهى عبارة عن تجلى ثقافى لمرجعية المضطهد وهى حركات كشفت ذاتها خارج إطار الدولة أو المؤسسات التى أفرزتها دولة الوسط إدارياً وسياسياً وثقافياً وبسببها نشأت أزمة الهوية وكل أشكال الأزمات التى نمر بها ونعيشها الآن فى السودان.
تعريف ونشأة مفهوم السودان الجديد:
مفهوم السودان الجديد هو مضمون سياسى ومحتوى اجتماعى وثقافى وفكرة للتحرر من الأفكار القديمة كانت موجودة لدى السودانيين قبل عام 1983 م وقبل الاستقلال وقبل ميلاد الحركة الشعبية وقبل إنفجار مشكلة الجنوب ، فمثلاً عندما تبنى مؤتمر جوبا عام 1947 م فكرة الاتحاد الفيدرالى فى السودان ، الذى حضره 17 من زعماء الجنوب ورجال التعليم و6 من أبناء الشمال ، كان يضع تصوراً سياسياً وإدارياً لسودان جديد ، لأن السودان الذى كان يحكم مركزياً كان يخلق نوعاً من المظالم للأطراف ولهذا فإن إقتراح الفيدرالية كان شكلاً من أشكال التنبيه لمخاطر المركزية السائدة فى حكم السودان آنذاك منذ فترة طويلة وكان اقتراحاً جديداً لنمط الإدارة الوطنية للاختلافات الثقافية الموجودة فى المجتمع وللاختلافات الاجتماعية وعملية توزيع الثروات وإعادة هيكلة الدولة لتحقيق العدالة والاستمرار من خلال العناصر الإيجابية فى التراث السودانى والتى لا تعنى الانقطاع عن المعايير التاريخية لحركة المجتمع ولا تعنى إلغاء الأخر.
إن مفهوم السودان الجديد مفهوم يرتبط بجنوب السودان إرتباطاً عضوياً لأن وضع الجنوب كمجتمع ثقافى قائم بذاته ومستقل .. وبعلاقته بشمال السودان من ناحية سياسية وإدارية .. قاد الى تجلى هذا المفهوم على أكثر من مستوى ، سواء كان مستوى سياسى جغرافى أو أخر اجتماعى ثقافى ، وإذا لاحظنا فى أدبيات الأحزاب السياسية سنجد فى بعضها طرحاً لفكرة السودان الجديد بنفس الشكل أو من خلال نفس التقاسيم الخاصة بالمبادئ السياسية الواردة فى منفستو الحركة الشعبية للسودان الجديد والتى تتمثل فى عملية توزيع الثروة الحيوانية وعملية إعادة هيكلة الدولة وعملية المشاركة السياسية الفاعلة لكل أبناء الوطن.
أسس ومفاهيم السودان الجديد بين الحلم والواقع .. والوهم والخيال:
نلاحظ أن السودان الجديد لا يشير الى شئ مادى ملموس أى لا يوجد شئ أو دولة إسمها السودان الجديد حتى الآن ، ولكن هذا مجرد حلم فى أذهان الناس وهذا الحلم بدأ فى التضخم فأصبح وهماً وخيالاً مرسوماً فى مخيلة الكثيرين وترتب عليه أشياء كثيرة فى التفكير ، وبدأت عملية تفصيل لمقاسات سياسية وثقافية مفترضة .. بمعنى أن كل شئ واقع بالوهم أو الحلم ، بمعنى أن كل الأشياء التى يجرى الحديث عنها لم تتحقق بعد الى الآن ولا أظن فى المستقبل القريب ، وهذا يعتبر كنوع من فكرة الدولة الاستالينية فى أدبيات ( الحزب الشيوعى ) والذى يرى بأنها يجب أن تقوم عليها الأفكار الكفيلة فى إنقاذ البشرية .. أو قد يعتبر نوع من الفكر التنويرى المطروحة فى الأدبيات السياسية على أسس معينة مثل تحقيق العدالة والمساواة وإنشاء الحقوق على قاعدة المواطنة فى السودان ، فلذا قد يكون السودان الجديد جزءاً من الفكر التنويرى مثله مثل فكرة حركة الأنوار التى تطورت بتطور حركة المجتمع الإنسانى ، وأنشأت قيماً جديدة بعد حركة جان جاك روسو .. فالآن نجد فكر التنويريين الجدد القائم على نفس الأسس فى إعادة هيكلة الدولة وإعادة توزيع الثروة ولكنهم أضافوا اليها فكرة تدوال السلطة وفكرة حقوق الإنسان وفكرة حقوق المرأة والطفل وحقوق الأقليات وفكرة الحقوق المدنية.
فإذا كان السودان الجديد قائم على أسس فكر ومفاهيم التنوير فإنه لن ينشأ من فراغ ، وإنما من أصول فى المجتمع البشرى .. سيكون له اعتراف واضح بتطور المجتمع الإنسانى دون إغفال لحركة المجتمع أو إغفال لمطالب الناس أو إغفال لعملية التطور وقوانينه .. لأن السودان الجديد أصبح مطروح كملكوت جديد .. وهناك مجموعة من المبشرين يبشرون بهذا الملكوت للخلاص.
تناقضات وخطورة مفهوم السودان الجديد فى أدبيات الحركة الشعبية:
إن مفهوم السودان الجديد مفهوم معرفى يحتوى على عناصر كثيرة ، وإذا حاولنا تأصيله فى الفكر السودانى أو العمل على تفكيكه وتحليل جزئياته .. ممكن مثلاً أن نبدأ من اللفظ هناك جريدة سودانية أسمها ( السودان الجديد ) ظهرت فى الأربعينات وكان الناس يطالعون يومياً عبارة السودان الجديد ، وإذا حاولنا متابعة هذا الأمر وتساءلنا عن صاحب الجريدة هو أحمد يوسف هاشم والتيار الفكرى الذى ينتمى اليه هو مدرسة الفجر ، وإذا تأملنا دور هذه المدرسة التى ساهمت فى تطوير الفكر السودانى سوف نرى خطوطاً نظرية لها جذور عميقة .. وهكذا فحتى على مستوى اللفظ لها جذورها الأعمق إذا تتبعناها ، ولكن الحركة الشعبية طرحت المسألة على المستوى السياسى كشعار .. فإذا حاولنا رؤية متى حدث هذا التشابك الفكرى والسياسى فى السودان مع قضايا الواقع ومتى تبين للسياسى السودانى ضرورة بناء سودان أخر جديد مختلف ، وهذا ما لم يحدث عام 1983 م لا على مستوى اللفظ .. ولا على مستوى المحتوى والمضمون .. فإذن محاولة طرح المسألة كإنتصار للحركة الشعبية فيه عنصر خطير جداً ، فيجب أن ننبه له الأخرون لأن هذا الشعار الذى أطلقته الحركة الشعبية فيه عنصر إقصائى لأنه يولد مركزية جديدة رغم قيامه على نقد مركزية النخبة العربية الاسلامية أو الشمال ، ويحاول إستبدالها بمركزية جديدة هى مركزية السودان الجديد التى تتمثل فى النخبة الجنوبية أو إختزال شعار السودان الجديد فى دولة الجنوب وهى مركزية تقوم على إقصاء الثقافة العربية الاسلامية وهذا يعتبر نوع من التطرف ونوع من الوقوع فى الخطأ التاريخى وهو أمر سيؤدى الى إعادة إنتاج الأزمة من جديد مرة أخرى والتى حاربت الحركة الشعبية ضدها وتمردت عليها.
تكمن الخطورة فى أن مفهوم السودان الجديد الذى طرحته الحركة الشعبية كرد فعل لمظالم محددة دفع بها فى خضم الصراع السياسى ليكون مفهوماً نظرياً دالاً على حياة جديدة ومستقبل جديد فى وقت لا تمتلك فيها هذه المقومات وهذه مشكلة .. ولهذا عندما نقول بأن المفهوم لم ينشأ عام 1983 م .. فإننا نعنى ونقصد أن هذه الفكرة كانت نتاج صراع وتفاعل داخل المجتمع السودانى وداخل الفكر السياسى السودانى ، وأنه لا يقود الى تكوين شئ خارج الشروط التاريخية والاجتماعية فى المجتمع السودانى.
إن عملية التفاعل الثقافى السودانى مستمرة والتداخل فى الثقافات موجودة .. فرموز الثقافة الأفريقية وممارستها قائمة فى ثقافات الشمال .. ورموز الثقافة العربية موجودة وقائمة ضمن الثقافات الأفريقية .. لكن من يتحدثون عن السودان الجديد اليوم يستبعدون هذا العنصر ، وبالتالى يقع حديثهم خارج التاريخ الاجتماعى وهذا أمر خطير لأن السودان الجديد لا يمكن تأسيسه من فراغ تاريخى أو فراغ اجتماعى ودون أى إمتداد فى التاريخ ، فى الأساس أن مبادئ السودان الجديد موجودة فقط فى البيئة السياسية والفكرية وهى جزء من حركة التطور الفكرى فى السودان وهذه هى المسألة الرئيسية التى وددت شرحها.
كيف خدعت الحركة الشعبية ابناء جبال النوبة بوهم وحلم السودان الجديد:
الشعارات التى رفعتها الحركة الشعبية لتحرير السودان من أجل سودان جديد هى التى شجعت أبناء منطقة جبال النوبة للانضمام اليها بهدف المساهمة فى حل مشاكل السودان المزمنة فى إطار الوحدة من نمولى الى حلفا ، وقد تبلورت رؤية الحركة الشعبية فى شعار مشروع السودان الجديد الذى ينادى بإزالة كل مؤسسات التخلف والتى تتمثل فى المؤسسة العسكرية والأحزاب الطائفية بإعتبارها تمثل دعامات أساسية للسودان القديم وفقدانها للحس الوطنى ، والتى أثبتت فشلها فى تحقيق أحلام الشعب السودانى فى العيش فى سلام وفقاً لمعايير الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية ، إلا أن دورها فقط أصبح محصوراً فى حماية الأقلية المستعربة والتى لا تمثل أهل السودان بهذا الشكل فى هرم السلطة .. فلذا لم يتشكك أحد فى مدى صحة ومنطقية هذا التحليل ولا حتى بأن الحركة الشعبية المنوط بها تنفيذ وتطبيق هذه المهمة أن تكون مبرأة أو معافية من العلل والأمراض السياسية التى تمكنها من إحلال نفسها بديلاً لهذه المؤسسات والأحزاب بعد القضاء عليها ، أو تقوم بإنزال هذه الشعارات على أرض الواقع السودانى بعد تحرير كل السودان والزحف الى الخرطوم كما يصور ذلك منفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان ، إلا أن الحركة الشعبية فشلت حتى فى تطبيق تلك الشعارات بواسطة كوادرها التى دربتها وأعدتها فى الأراضى المحررة التى تسيطر عليها ، وللأسف وجدت الحركة الشعبية نفسها وأن مهمتها المقدسة تنحصر فقط فى قمع وتأديب القبائل الجنوبية المناوئة لتركيبتها القبلية المأدلجة ، والتى تنظر الى جيش الحركة الشعبية بإعتباره جيش إحتلال مهموماً بتغيير الخارطة السياسية والاجتماعية لجنوب السودان لصالح قبيلة الدينكا ومصالح قادته ذات التوجه القبلى فى مواجهة تمرد قادة المليشيات الجنوبية الأخرى.
فلذلك فشلت الحركة الشعبية سياسياً فى إنزال هذه الشعارات التى رفعتها ولو قليلاً وخاصة فى مجال احترام الحقوق ومحاربة الفساد والمحافظة على رفاقها من الأقاليم الأخرى الذين قاتلوا فى صفوفها برفع الروح القتالية فيهم ، بل سعت فى إقصاء وتهميش البعض ، وعندما رفض بعض أبناء النوبة بقيادة عوض الكريم كوكو فكرة إستيعاب أبناء النوبة ليصبحوا مقاتلين فى صفوف الحركة الشعبية وأصروا فى مطالبتهم بأن يصبحوا حلفاء عبر استراتيجية محددة .. فناقشوا القائد يوسف كوة فى ذلك وأعتبروا ذلك مخالفاً لفكرة التنظيم الذى دفع بهم للانضمام والهدف الذي يطالبهم بالتدريب داخل صفوف الحركة الشعبية والحصول على السلاح ومحاربة جيش حكومة الانقاذ فى منطقة جبال النوبة وليس أحراش الجنوب .. ووجهوا اليه اسئلة محددة لماذا يتدرب أبناء النوبة فى الأراضى الأثيوبية ولماذا يشرف على تخريجهم جون قرنق ويدفع بهم الى الالتحاق بقوات الحركة فى الجنوب والمشاركة فى الحروب القبلية وقتال المليشيات الجنوبية المناوئة لقرنق ، ولماذا لا تقوم الحركة بفتح معسكرات بمنطقة جبال النوبة أو الدفع بأبناء جبال النوبة بعد تخريجهم للقتال فى منطقة جبال النوبة ..فلذلك طالبوه بالرجوع لإستشارة الجناح السياسى للتنظيم حتى لو حدثت هناك مستجدات وحاولوا إقناعه بالعدول عن رأيه ، إلا أن المرحوم يوسف كوة رفض فكرتهم ، فاتهموه بالتجاوزات التنظيمية والمصالح الذاتية ومن هناك بدأت رحلة المعاناة لأبناء جبال النوبة داخل الحركة الشعبية بالتصفية الجسدية والاقصاء لخيرة قيادات النوبة ، وكان بإمكان يوسف كوة أن يرفض ويقول لا لجون قرنق كما قالها القائد يعقوب اسماعيل والذى يعتبر هو واللواء معاش ابراهيم نايل إيدام من أميز الضباط الذين مروا على الكلية الحربية السودانية والذى جاء لوحده وقابل القائد جون قرنق الذى حاول أن يستوعبه فى الحركة الشعبية فرفض يعقوب فكرة الاستيعاب وطالبه بأن يصبح حليفاً مع الحركة الشعبية وحينما إعترض قرنق الفكرة رفض القائد يعقوب اسماعيل الانضمام وعاد أدراجه الى أسمرا وهناك أصبح قائداً عاماً لقوات حزب الأمة فى الشرق ، وكذلك المناضل ابراهيم دريج رفض فكرة الاستيعاب داخل الحركة الشعبية.
لقد قامت الحركة بإنشاء حكومات لإدارة العمل فى مراكز اللاجئين بأثيوبيا بالإشراف عليهم وتوزيع المواد ، إلا أن تلك الكوادر الإدارية قامت باستغلال مواد الإغاثة بإبتداع الحيل وإبتكار الطرق الملتوية وفرضها على اللاجئين بهدف خداع منظمات الإغاثة بغية استمرار تدفق الإعانات التى كانت تفوق بكثير عدد اللاجئين فى تلك المراكز ، مما أدى الى تنامى نفوذ تلك الكوادر التى إتخذت أشكال متعددة من العصابات القبلية التى تستمد حمايتها من كبار ضباط الحركة الشعبية ، مما جعلها تتحكم فى سرقة وبيع المواد الغذائية وغير الغذائية فى الأسواق الأثيوبية لصالح جيوب هؤلاء القادة .. بالاضافة الى عدم توفير الخدمات الضرورية فى مجالات التعليم والصحة وإنعدام الخطط والبرامج لتدريب المواطنين أو الجنود فى الاعتماد على الذات لإنتاج الغذاء ، والسبب فى ذلك يعود الى أن معظم الأسر لكبار الضباط والقادة فى الحركة الشعبية كان يقيمون فى امريكا وكندا واستراليا وعواصم بعض الدول الأوربية والأفريقية .. تخيل عزيزى القارئ هذا الخلل الإدارى والإختلاس كان نموذجاً للوضع السائد فى المناطق المحررة الواقعة تحت سيطرة الحركة الشعبية فى السودان.
رغم تلك الممارسات لقد إفتقد اللاجئين الشعور بالأمان والحماية والعدالة والمساواة والوحدة فى معسكرات اثيوبيا نسبة لتواطؤ نظام منقستو مع قيادات الحركة الشعبية بالاضافة الى الانتهاكات والتصفيات الجسدية نتيجة لزيادة حدة الخلاف والتوترات على أسس قبلية بين اللاجئين فى المعسكرات الأثيوبية وبين المواطنين فى المناطق المحررة بداخل السودان مما أدى الى خروج الكثيرين منهم ولجوئهم الى دولة كينيا حيث الشعور بالأمن والحماية التى إفتقدوها طوال مكوث فترتهم فى اثيوبيا ، هذا المناخ الجديد أدى الى خروج الكثيرين عن صمتهم والحديث علانيةً عن المرارات وتجارب الماضى الأليمة ، بالرغم أن الحركة الشعبية حاولت يائسة لإستعادت ما افتقدته طوال سنين السيطرة والآستغلال.
أما عن الأوضاع فى جبال النوبة مقارنة بالجنوب وجنوب النيل الأزرق ومعسكرات اللاجئين باثيوبيا تعتبر أفضل حالاً ، لقد ظل المواطنون وجنود الحركة يقومون بمهمة إنتاج الغذاء والاعتماد على الذات وتدريب بعض الكوادر فى المجالات الضرورية مثل الصحة والإدارة والقانون وإنشاء ما يعرف بالمجلس الاستشارى لجبال النوبة .. فى محاولة جادة من القيادة هناك فى إيجاد قناة لاشراك المواطنين وأخذ رأيهم فى القضايا الأساسية ، فكانت بلا شك خطوة رائدة ولكن لظروف العزلة الطويلة التى تعرضت لها المنطقة وبالاضافة الى تمركز وتمحور إدارة ونشاط الحركة السياسى والرتب العليا فى شخص زعيمها جون قرنق وكبار الضباط والقادة من قبيلة الدينكا أدت الى قتل التجربة فى وأدها وعدم نقلها الى خارج حدود المنطقة وتطورها ، والتى كانت المحاولة الوحيدة والجادة تجاه بناء المؤسسات والديمقراطية داخل الحركة الشعبية التى كانت فى أمس الحاجة اليها ، إلا أن القادة الجنوبيين آنذاك لا يؤمنون بالديمقراطية ولا العمل المؤسسى ، فلذلك حدثت تلك الخروقات والإنتهاكات من قتل وتشريد لمجموعات بعينها خاصة فى مناطق الأجانق، بالاضافة الى التهميش والاقصاء.
فى نهاية عام 1991 م قامت الحركة الشعبية بمحاولة لتصحيح تلك الأوضاع الخاطئة فأصدرت ما يسمى ب (مقررات توريت) والتى اشتملت على تفاصيل كثيرة تهدف الى نية الحركة فى الشروع لبناء المؤسسات وتقديم الخدمات الضرورية وإشراك الجماهير فى إتخاذ القرار ، إلا أن هذه القرارات لم ترى النور بسبب الهجمات والحملات الواسعة التى شنتها الحكومة عبر صيف العبور مما أدى الى تشتيت وتدفق المواطنين وجيش الحركة الشعبية الى دول الجوار.
وفى عام 1994 م قامت الحركة الشعبية بالدعوة لعقد مؤتمر شقدوم فى محاولة منها لإمتصاص أثار فصيل الناصر ، ولقد أوكلت رئاسة ومهمة إعداد المؤتمر للقائد يوسف كوة ، إلا أن المؤتمر فشل فى تحقيق الغاية المرجوة منه للأسباب التالية:
1- فشل المؤتمر فى الفصل بين الجناح السياسى للحركة الشعبية والجناح العسكرى فى تمركز السلطات والصلاحيات ووقف الفساد والانتهاكات.
2- قيام المؤتمر بتكوين حكومة صورية مع إدراكه التام فى عدم جدواها وفعاليتها كعدم جدوى وفعالية مجلس القيادة السياسية والعسكرية العليا السابق والذى كان سبباً أساسياً فى إنشقاق مجموعة الناصر حينما رفض جون قرنق العمل انطلاقاً من ذلك المجلس.
3- قيادة الحركة الشعبية لم تلتزم لأبسط معايير العدالة ولا حتى شعاراتها فى عملية توزيع الحقائب والمناصب الوزارية لتلك الحكومة الصورية .. حيث ذهبت معظم الحقائب الى أشخاص من قبيلة الدينكا بما فيها رئاسة الحكومة ووزارة الدفاع من نصيب القائد جون قرنق ، بينما وزارة السياحة الوحيدة كانت من نصيب منطقة جبال النوبة حيث تقلدها دانيال كودى.
كان مؤتمراً غريباً حيث أرسى مفهوم التهميش داخل التهميش .. حيث وزارة السياحة التى ظلت كالظل تلازم ابناء النوبة أين ما حلوا ، وهذا يذكرنا بموقف ساخر لزعيم الحركة الشعبية جون قرنق من رئيس الوزراء السابق الجزولى دفع الله لحكومة الانتفاضة عام 1985 م مستفسراً عن سبب وجود ثمانية وزراء داخل حكومته الانتقالية من اقليم واحد ( الجزيرة ) ، حيث كان رد الجزولى بأن الصدفة وحدها كانت وراء ذلك .. أما ما حدث فى شقدوم فلا ندرى إن كان المرحوم جون قرنق قد نسى ذلك الاستفسار حينما جاء معظم وزراء حكومته من قبيلة واحدة وليس اقليم واحد .. أهى أيضاً كانت الصدفة وراء ذلك!!.
الحركة الشعبية فشلت فى تقديم نفسها كبديل مقبول للجنوب ناهيك عن السودان ككل ، لأنها لم تسعى بصدق لمعالجة قضاياها الأساسية .. بل عمدت الى تركها جانباً لتغرق نفسها فى وهم الوصول الى السلطة عن طريق استعمال القوة ( البندقية المسلحة ) الذىفشل بأن لا يوصلها الى حكم السودان كله ولا حتى الجنوب نفسه ، فلذلك إنتبهت الحركة بأن السلام هو الطريق الوحيد فقامت بقبول التفاوض عبر وسطاء وشركاء الإيقاد خلال استراتيجية تجزئة التفاوض من خلال تجزئة الحركة نفسها كحطوة اولى .. ولكن سرعان ما إداركت الحركة الشعبية واكتشفت خطورة ما تسببه هذه الاستراتيجية من ثقوب فى جدارها الأمنى ، فلذلك وقفت بشدة للحيلولة دون مناقشة منطقتى جبال النوبة والنيل الأزرق خارج إطار حدود الجنوب ورفضت قيادة الحركة الشعبية عقد اتفاقيات سلام منفردة وفق استراتيجية الايقاد بتجزئة التفاوض ، وقامت بإرجاء ذلك الى حين الوصول الى اتفاق حول القضايا الأمنية ( الترتيبات الأمنية ) على أن تترك بقية القضايا لكى تعالج فى إطار ما يسمى بالمناطق المهمشة .. لذلك فإن زيارة زعيم الحركة الشعبية جون قرنق الى مؤتمر ( كاودا ) بجبال النوبة برفقة كل من إدوارد لينو ومالك عقار كان لها هدفين الأول أمنى والأخر سياسى ، كما أن قبول زعيم الحركة شخصياً بالتفويض للتفاوض نيابة عن النوبة فى سابقة سياسية هى الأولى من نوعها فى العمل السياسى لم تخرج من خلال هاتين الهدفين.
1- الهدف السياسى: إن زيارة جون قرنق الى المنطقة يجب النظر اليها بإعتبار ما سيكون وليس ما كان ، لأنه كان يعلم جيداً بأن استقرار الحركة سياسياً على الأقل خلال الفترة الانتقالية يعتمد فى حفاظه على ولاء سكان منطفتى جبال النوبة والنيل الأزرق اللتان اعتمد عليهما عسكرياً لتبقى الحركة الشعبية فى وجه كل المصائب التى واجهها ، وكذلك لإدراكه بأن الوصول الى السلطة سيكون عبر صناديق الاقتراع والانتخابات المقترح إجراؤها بعد إنتهاء الفترة الانتقالية.
2- الهدف الأمنى: الحركة الشعبية تدرك بأن استقرار حكمها لجنوب السودان يعتمد فى عدم قيام حكومة المؤتمر الوطنى بزعزعة وتحريض المليشيات الجنوبية ضدها ، ولمقابلة ذلك فإن الحركة ستضع كل من منطقتى جبال النوبة والنيل الأزرق كقنابل موقوتة فى استراتيجتها لمواجهة ذلك الاحتمال ، لأنها تعلم بأن هاتين المنطقتين ستظلان متأثرتان سلباً وإيجاباً مع الأحداث فى الجنوب نسبة لتعاطف بعض جماهير تلك المنطقتين معها وخاصة الذين قاتلوا فى صفوفها وأصبحوا يقدمون فروض الولاء والطاعة.
ختأماً:
الحركة الشعبية حاولت خداع الكل .. وحتى الذين قاتلوا فى صفوفها وما زال يطبلون لها كالأبواق بعد أن أصبح السودان الجديد وهم وحلم تنظيرى يراودهم أكثر منه تطبيقاً على أرض الواقع ، فلذلك حاولت الحركة الشعبية إختزال شعار السودان الجديد فى إطار حق المصير والانفصال ودولة الجنوب ، وتراجعت عن شعار السودان الجديد الذى يبدأ من نمولى الى حلفا .. وكانت أولى الخطوات حينما إنفردت الحركة الشعبية بأن تحاور وتفاوض الحكومة فى مفاوضات نيفاشا وحدها بعد عزلها للتجمع الوطنى الديمقراطى التى كانت ضمن منظومتها فى القضايا المصيرية باسمرا ، ثم مروراً باستغلال نفس الأحزاب الشمالية والجنوبية فى مؤتمر جوبا الذى أكسبها الزخم السياسى وخرجت بما يسمى الاجماع الوطنى لتحالف جوبا ، وللمرة الثالثة استطاعت أن تستغل نفس الأحزاب فى الخروج فى مسيرة الأثنين السلمية واعتقال بعض قيادتها لساعات وخروجهم أبطالاً فى نظر الجماهير ، والتى استخدمتها الحركة الشعبية كوسيلة ضغط على الحكومة لتحقيق بعض مأربها ومصالحها على حساب نفس هذه الأحزاب التى لم تعى الدرس بعد .. وللمرة الأخيرة فى تمرير قانون الأمن الوطنى قامت بنكوص عهدها مع قوى اجماع جوبا بمقاطعة جلسات البرلمان ، إلا أن الحركة الشعبية لم تنسحب مع نواب كتلة الشرق وكتلة دارفور بل إستأثرت البقاء وعدم الانسحاب أو التصويت الى أن تم إجازة قانون الأمن الوطنى وهى لا تدرى بأن ما فعلته يعتبر قمة الديمقراطية فى الممارسة السياسية ، والسبب لأن الحركة الشعبية ساومت المؤتمر الوطنى بأن تمرر الحركة قانون الأمن الوطنى والانتخابات وأن يمرر المؤتمر الوطنى قانون استفتاء الجنوب وأبيى وقانون المشورة الشعبية لجبال النوبة والنيل الأزرق .. وهذا ما كشفه مستشار الرئيس غازى صلاح الدين .. وما زالت الحركة تمارس مسلسل التلاعب وخداع الجميع.
14 فبراير 2010 م - سدنى - استراليا
Adam Gamal Ahmed [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.