قبل سنواتٍ خلت ، زرتُ في زمن الصيف ضيعة " نِيوستَيْد أبّي" شمال مدينة نوتينغهام بوسط إنجلترا . وهي مزارٌ سياحيٌ معروف يتمتع بجمالٍ فريد من المباني الأثرية العتيقة ، الحدائق الغنّاء ، الظلال الوارفة والمساحات الخضراء التي تمتد علي مدّ البصر وهي تزدادُ جمالاً بلا شك في ضوءِ شمسِ الصيف النادرة ، تحّفها البحيراتُ و مياهُ الينابيع الجارية التي أصبحت مرتعاً ومأوى للطيور المهاجرة و الداجنة علي حدٍ سواء : تتوفر فيها ثلاثية الخضرةُ ، المياهُ وبلا شك الوجه الحسن . تُرى ماذا كان سيكتب شاعرنا إن رأى ذاك الحسن البديع وهو القائل 1 : كم ذا تمازج فنٌّ علي يديكِ وسِحْرُ فكل غُصْنٍ مصابيحَ من ندىً يستدر ُ وفي الضفافِ أوزٌ دكن الجوانح كُثرُ وطلّ قرْنُك ياشمسُ آنذاك يذرُّ فكم تقادم عهدٌ وكم تَصرّم دهرٌ وللمفارقة في أثر الزمن فقد إستوقفني في منتصف المباني الأثرية : نصبٌ حجريٌ ضخم ، أجرت عليه السُنون مبضع َ أثرها فأصبح أقرب للطَلَلِ ، والطللُ لغةً هو ما أرتفع وعلا من الأرض من من مبانٍ ونحوها بعد اندثار القديم وتُجْمع على أطلالٍ وطلول ، أخذت أتساءل بعدها تساءلِ الملكُ الضِلّيل2 : لِمَن طَلَلٌ بَينَ الجُدَيَّةِ والجبَل مَحَلٌ قَدِيمُ العَهدِ طَالَت بِهِ الطِّيَل وزَالَت صُرُوفُ الدَهرِ عَنهُ فَأَصبَحَت عَلى غَيرِ سُكَّانٍ ومَن سَكَنَ ارتَحَل ويزيد ذاكراً أثرَ الأمطارِ ، الرياح والزمن على الأحجار : حيّ الدّيار التِي أبلى معالِمَها عواصفُ الصَّيْفِ بِالْخَرْجاءِ والْحقَبِ ويماثله صديقه الشاعر الجاهلي3 الذي يصوّر أثر الزمن على الديار بعد أن عَفَت و أقْفَرت من أهلها فأصبحت رسماً دَرَسَ وضاعت معالمه: لِمَنِ الدِّيارُ بصاحة ٍ فَحروس دَرَسَتْ منَ الإقفارِ أيَّ دروس ِ درست ، أى تقادم عهدها ، وأقفرت أى خلت من سكانها وهو حال الانسان باختلاف الزمان والمكان. الوقوفُ علي الأطلالِ والتفكّر و التأمل في ذكرى الماضي والحاضر لا سيما ديار الأحبة وكل من تعلق بالقلبِ والعواطف كان شيئاً اساسياً في الشعر القديم و كان لا يخلو القصيد الجيّد دون التوقف عند الطلول وذكرى أثارها . وقفت بعدها أتساءل في تفكّر : من ياتُرى قد سكن وعاش بهذي الديارِ وماذا كان أثره ؟ ثم رُحت ُ أتاملُ في النصبِ التذكاري حيث نُقِشَت على جانبِه البالِي ، أبياتَ شعرٍ شدّتني في التوِّ واللحظة فأدركت أنني لا بد أتقفّى أثرَ شاعر عظيم لابدّ وأن ترك أثره في هذه الديار وخلّد ذكراه رسماً لم يندرسْ ولم تطمسه عوامل الزمن ، يقول الشاعر في مقدمة بليغة متناهية: Near this Spot are deposited the Remains of one who possessed Beauty without Vanity, Strength without Insolence, Courage without Ferocity, and all the virtues of Man without his Vices. الترجمة: بجانب هذه البقعة ترقد بقايا من إمتلك الجمال دون فَخْر القوة دون كِبْر الشجاعةَ دون ضَرْر وكل فضائل الإنْس دون العيوب ويضيف في أبيات منتقاة من القصيدة : When some proud Son of Man returns to Earth, Unknown to Glory but upheld by Birth, The sculptor's art exhausts the pomp of woe, And storied urns record who rests below: When all is done, upon the Tomb is seen The first to welcome, foremost to defend, Whose honest heart is still his Master's own, Who labours, fights, lives, breathes for him alone, Unhonour'd falls, unnotic'd all his worth, Deny'd in heaven the Soul he held on earth: While man, vain insect! hopes to be forgiven, And claims himself a sole exclusive heaven. Oh man! thou feeble tenant of an hour, Debas'd by slavery, or corrupt by power, Who knows thee well, must quit thee with disgust, Degraded mass of animated dust! Thy love is lust, thy friendship all a cheat, Thy tongue hypocrisy, thy heart deceit! By nature vile, ennobled but by name, Each kindred brute might bid thee blush for shame. Ye! who behold perchance this simple urn, Pass on, it honors none you wish to mourn. To mark a friend's remains these stones arise; I never knew but one—and here he lies. طَفْقتُ بعد زيارتي لأيام وشهور أتقفي أثر المكان واللسان الذَرِب الذي أعجبت ببلاغةِ لغتِه أيّما إعجاب فأكتشفت أن الضيعة لها تاريخ تليد ضارب في القدم لقرون خلت وأن القصر في منتصفها كان في وقت من الأوقات مسكناً لأسرة شاعر الرومانسية الحديثة في أنجلترا وأوروبا : اللورد بايرون الذي ورثه عن عمه ، وأن النصب التذكاري الذي شدّني بنقشه لم يكن إلا قبراً لكلبه المخلص : "بوتسوين" الذي مات في العام 1808 م فرد له الشاعر الجميل بأحسن منه أدباً رفيعاً تتناقله الأجيال في القصيدة المشهورة " مرثية لأجل كلب" "The Epitaph to a Dog" . ولد الشاعر جورج غوردون بايرون (1788م-1924م) بلندن لعائلة عريقة إرستقراطية وقضي بداية طفولته وبداية شبابه بإسكتلندا حتي تقلد لقب وتبعات منصب اللورد بوفاة عمه فدرس بعدها بجامعة كامبريدج حيث ظهر نبوغه الأدبي والشعري . سافر بعدها في جولة أوروبية زادته خبرة بسبب التسفار ولكن لكونه غنياً ووسيماً أسرف في حياة التهتك والمجون التي لازمته بقية حياته . عند عودته لإنجلترا أسس مدرسة حديثة في الشعر إهتمت بالشعر الرومانسي والإهتمام بالمعنى تخللتها مغامرات عاطفية عاصفة لم تخلُ منها الدواوين الملكية وقمة الهرم السياسي . كما كان بايرون شاعراً متمرداً مهتماً بالمعاني الأخلاقية كالعدالة ، مقاومة الظلم حتى خارج حدود وطنه. بعد شغفٍ شعبي عارم بالشاعر وشراء دواوينه بالآلاف ، نفر الشعب الإنجليزي من الشاعر وأصبح فجأة "عدو الشعب" بعد أن شاعت أن علاقة غير شرعية قد جمعته بإخته غير الشقيقة . سافر بعدها إلى أوروبا مرة أخرى حتي إستقر به المقام باليونان منافحاً ضد الإحتلال العثماني لدرجة بيع أملاكه لبناء الإسطول اليوناني حتى صار بطلاً قومياً في اليونان . توفي الشاعر بعدها إثر حمى قصيرة الأمد وهو إبن السادسة والثلاثين . لسخرية القدر إنتهى به المطاف بقبر قريب من أملاك الأسرة القديمة في "نِيوستيْد أبِّي" يقل قدراً و أبهة من القبر الذي بناه لكلبه ! للشاعر اللورد بايرون دواوين شِعرية متعددة وقصايد مشهورة نختار منها بعض الأبيات محاولين تتبع الترجمة الشعرية المقفاة كما أشار الشاعر العراقي عبد الصاحب مهدي علي في كتابه القيّم "الترجمة الشعرية" : قصيدة : "إنها تسير في جمال" وقد كتبت في إمراة تتوشح بالسواد (وللمفارقة كانت إمراة متزوجة ساعة الحداد) She walks in beauty, like the night Of cloudless climes and starry skies; And all that's best of dark and bright Meet in her aspect and her eyes; Thus mellowed to that tender light Which heaven to gaudy day denies. One shade the more, one ray the less, Had half impaired the nameless grace Which waves in every raven tress, Or softly lightens o'er her face; Where thoughts serenely sweet express, How pure, how dear their dwelling-place. جزء من الترجمة الشعرية للشاعر اللبناني وليد حرفوش : في حسنِها تمشي بوقعٍ مُلهمٍ كالليلِ في قلبِ السماءِ الصافيَةْ ليلٌ يبثُ الضوءَ حُلوُ نجومهِ والأرضُ من وهجِ المفاتنِ غاشيةْ سحرُ البريقِ العذبِ يسكنُ وجهَهَا والعينُ تبعثُ ومضةً متعاليةْ فتنَ السماءَ من البهاءِ فأصبَحت تهوى الظلامَ على الشموسِ الزاهيةْ هَجَرتْ إلى الوجهِ المنيرِ نهارَهَا وَهفَت إلى ليلٍ بروحٍ راضيةْ. قصيدة سجين جيلون : عند هجرة بايرون الثانية لأوروبا زار قلعة جيلون في جنيف بسويسرا حيث تمّ سجن أحد رموز المقاومة في القرن السادس عشر . مستشعراً الظلم والغبن الذي تعرض له ، ألف بايرون القصيدة عام 1816 م : ETERNAL Spirit of the chainless Mind! Brightest in dungeons, Liberty! thou art, For there thy habitation is the heart— The heart which love of thee alone can bind; And when thy sons to fetters are consign'd— 5 To fetters, and the damp vault's dayless gloom, Their country conquers with their martyrdom, And Freedom's fame finds wings on every wind. Chillon! thy prison is a holy place, And thy sad floor an altar—for 'twas trod, 10 Until his very steps have left a trace Worn, as if thy cold pavement were a sod, By Bonnivard!—May none those marks efface! For they appeal from tyranny to God. ترجمة الشاعر العراقي ماجد الحيدر عن كتابه للترجمة الشعرية " دار الحاجز" ، دار المامون ببغداد وهو متاح بصفحته في الشبكة العنكبوتية : سونيتة الى "جيلون" أيتها الروحُ الخالدةُ للعقلِ الذي لا تمسكُهُ أصفادٌ! أيتها الحريةُ، إنكِ في السجنِ لأكثرُ إشراقاً ! فأنتِ هناك ... تقيمينَ في القلب ، القلب الذي لا يقيِّدهُ سواكِ. وحينَ يرسفُ بنوكِ في الأغلالِ والغياهبِ التي لا تَرى النورَ فإن أوطانهم –بشهادتهم- تنالُ الظفرَ ويبسطُ اسمُ الحريةِ جناحيهِ .. فوقَ كلِّ ريح. إيهٍ يا "جيلون" ! سجنُكِ مقامٌ مقدَّسٌ ، وأرضكِ الحزينةُ ... مذبحٌ طَهور ، لأن خطى "بونيفار" تركَتْ آثارَها ... فوقَ بلاطِهِ الباردِ ، كما تفعلُ الأَقدامُ ... بالثَرى المُعشِبِ. ألا فلتَبْقَ آثارُهُ ولا يُقدِم امرؤٌ على طمسها. فهي باللهِ تستغيثُ ... من سلطانِ الطغاة! لقد عاش اللورد بايرون حياة قصيرة متقلبة بين ألأدب ، الثقافة ، الحب والرومانسية وأختتمها بحياة الكفاح والنضال مثله مثل الكثير من العظماء يمرون سريعاً لكن يتركون إرثاً عظيماً لتبقى أثاره في القلوب والعقول. ______________ 1- الأبيات للتجاني يوسف بشير ( 1912م-1937م) من قصيدة : "توتي" ، الجزيرة عند ملتقى النيلين والكلمة غالباً أصلها نوبي يقال أن معناها بطن البقرة . 2- الشاعر الجاهلي : إمرؤُ القيس ِ المكنّى بالملك الضليل . الطَلَل المكان القديم الذي تقادمت (درست) أثاره ، الجُديّة ،الجبل، الخرجاء ، الحِقب ، صاحة ، حروس : أسماء أمكنة بالحجاز ونجد . الطيّل الأيام المتطاولة. صروف الدهر : نوائبه ، أبلى : أصبح قديماً وبالياً . 3- الشاعر الجاهلي عُبيد إبن الأبرص ، أقفرت : خلت من ساكينها . درس الأثر تقادم عهده. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.