السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    الديوان الملكي السعودي: خادم الحرمين الشريفين يغادر المستشفى بعد استكمال الفحوصات الروتينية    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من مفاتيج مقدّمة ابن خلدون: ثنائية العمران وتناقضات الاحوال .. بقلم: د. عبد المجيد العركي/جامعة اوسلو المهنية بالنرويج
نشر في سودانيل يوم 07 - 01 - 2019

تقترن خطوط التفكير النظري والتجريبي بانسجام في مقدّمة ابن خلدون، فاذا اردنا تطوير هذا الارث الخلدوني، علينا ان نفهم المقدّمة في جملتها وتفاصيلها، او «في ذاتها» و «فيما يعرض من احوالها»0
نستهل تقديمنا بمصطلحى الذات والعرض لانهما يمثلان قلب منهج البحث الخلدوني، فهل هناك منهج بحث خلدوني ولماذا لم تُكتشف تفاصيله من قبل؟ تتطلب الاجابة على هذا السؤال ان نبحث اولا عن ثنائية الذات والعرض، كاحدى اهم مفاتيح المقدّمة، ونستخرجها من قلب النص الخلدوني لنبحث بعد ذلك عن تفاصيلها وتطبيقاتها اكانت على مستوى العلم الخلدوني «الجديد»، اي علم العمران، ام على مستوى تناقضات احوال العمران، ونأمل من وراء ذلك ايضا توضيح طريقة البحث الخلدونية0 ونخطط لهذه المقالة كالاتي:
اولا: نشرح التمييز الثنائي وخطوات البحث الخلدوني،
ثانيا: نأتي على ثنائية العمران ونناقش العمران البشري والاجتماع الانساني،
ثالثا: نكشف عن بنية احوال الاجتماع الانساني، اي عمران العالم، كما نتفهمه من النص الخلدوني وهو الذي يختص بطبائع الانسان في اجتماعه وبجغرافية الاحوال الانسانيّة واثرها على ذلك الاجتماع،
رابعا: ننتقل الى العمران البشري، وهو نقيض الاجتماع الانساني، لنشرح احواله وطبائعه الذاتية وبنية احواله والتي هي: الملك والكسب والصنائع والعلوم0 ونختم مقالتنا بحتميّة التغيّر0
نعتمد في الكثير من هذه المقالة على النص الخلدوني الذي سنشير له بلون خاص يفصله عن باقي المقالة ولن نهتم كثيرا بالرجوع الى من كتبوا عن ابن خلدون قبلنا وبعدنا، اي بعد ظهور البحث الذي تقدّمنا به في سنة 1983، فلقد اعتنينا بالرجوع الى بعض ذلك في مقالات اخرى ، ونود في هذه المقالة ان نلتزم بالنص الخلدوني لاننا نريد توضيحه لمن اراد الخوض في مصطلحات ابن خلدون فلربما نتعرّف على مفاهيم اخرى او ان يشترك معنا من يساعدنا على تعميق فهم كتابات ابن خلدون0 فالرجاء قراءة ما نذكره من المقولات الخدونية بتفكّر وتمعّن0
الجزء الاوّل: التمييز الثنائي وخطوات البحث
ان اولى خطوات منهج البحث الخلدوني واساسه الجدلي هي مبدأ التمييز الثنائي، او العرض على الاصول، الذاتيه منها والعرضية، ومضمون هذه الخطوة هو ان:
«كل حادث من الحوادث ذاتا كان او فعلا لا بدّ له من طبيعة تخصّه في ذاته وفيما يعرض من احواله» (QI: 58–57)0
المقولة اعلاه تخبرنا بانه قبل القيام باي تحليل وجب علينا ان نفهم جزئيْ الحادث ونستنبط مدلولاته، او اصوله الذاتيّة واصوله العرضيّة، لنتمكّن من تحليله وفهم طبيعته0
فاذا كان لا بدّ لكل حادث من طبيعة تخصة في ذاته وفيما يعرض من احواله، فكيف نتوصّل الي هذه الطبيعة0 يمكننا ان نتوصّل الى طبيعة الشئ بالتبويب والحصر، ومن البديهيات في اي عملية حصر وتبويب هو ان نرجعها الى خبراتنا اوطرق بحثنا0 فاذا افترضنا ان الحادث الذي نريد فهمه هو هطول الامطار، فعلينا اولا ان نتّفق علي ان هطول الامطار في العادة ليس من عالم الافعال الانسانية، ثمّ انه حدث يمكن فهمه بالرجوع الى ذاته والى ما يعرض من احواله0 فهطول الامطار في ذاته هو انصباب الماء من السماء بقوة معينة ومقدار عظمة معيّن وبنوعية معيّنة وفي فصل معيّن0 فاذا كان هذا هو الهطول فى ذاته، فما هو اذن الهطول فيما يعرض من احواله0 هنا ننتقل من الذات الى عرض الذات، او ما يسبّبه الذات، ومن اعراض هطول الامطار ما يأتي بالخير او بالشر على بني الانسان، وهنا سيجد كل منّا ما يناسبه من الامثلة0 وبما انه لابدّ للحادث من «طبيعة تخُصّه في ذاته وفيما يعرض من احوله»، فان افكارنا وما نتوصّل اليه من اكتشافات ستكون بالطبع عرضة للنقض والتمحيص، فما يتوصّل اليه هذا ربما لا يظهر طبيعيا عند مقارنته بما يتوصّل اليه الآخر، لان مراتب الفكر تختلف من فرد لاخر، كلّ حسب مقدراته الفكرية0
ان المراد من هذا المثال البسيط هو توضيح مصطلحي الذات والعرض بربطهما مع الحدث الذاتي الذي لا تتدخل فيه يد الانسان او افعاله وتخطيطاته، فان الحوادث التي تتدخل فيها يد الانسان وقدرته وافكاره يمكننا ايضا ان نسميها عوارض ذاتيه وعرضية كما سنأتي عليه فيما بعد0
ونكرر هنا انه بعد استنباط تفاصيل الاصول الذاتية والعرضية، يمكّننا من ان نبوّب ونحصر هذه المدلولات بالرجوع الى مفاهيمنا وملاحظاتنا، وبعد القيام بعملية التبويب والحصر يتسنّي لنا اخضاع باقي خطوات البحث الخلدونية، ونتعدى هذه الخطوات بالانتقال من عالم الافكار الى عالم الافعال لنقوم بتحكيم الواقع المعاش او الخبرات العمليّة، وهدفنا السامي هو ان نخرج بطبائع الاحوال ونقوم بتنصيص النظريات لنتفادى الوقوع في المغالط0 فما هو مسار خطوات البحث الخلدونيّة التي تلي مرحلة التعريفات السابق ذكرها؟
يقول ابن خلدون إن المؤرخين والمفسرين كثيرا ما وقعوا في المغالط
«لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا او سمينا لم يعرضوها على اصولها ولا قاسوها باشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الاخبار» (QI:9)
في المقولة اعلاه ثلاث افعال رئيسية: اولها العرض على الاصول، وثانيها القياس بالشبيه، وثالثها السبر بمعيار الحكمة0 ونتيجة الخطوات الثلاث هو الوقوف على طبائع الكائنات ثم تحكيم النظر والبصيرة في الاخبار0
ان الافعال الثلاث تجسّد ايضا مراتب الفكر الانساني عند ابن خلدون0 فان التفكير عنده يتصاعد ويأتلف عبر مراتب العقل التمييزي والتجريبي والنظري او ينحصر في بعضها، وكل مرتبة من مراتب الفكر تقود الى ابعد من سابقتها0 فالمرتبة الاولي والثانية من البديهيّات لدي كل الكائنات، فباستطاعة كل كائن حي ان يميّز او يفرّق بين الاشياء بالرجوع الى خبراته وتجاربه السابقة0 ويشرح ابن خلدون هذه المراحل الثلاث كما يلي:
«(الاولى) تعقل الامور المرتبة في الخارج ترتيبا طبيعيا او وضعيا ليقصد ايقاعها بقدرته وهذا الفكر اكثر تصوّرات وهو العقل التمييزي (الثانية) الفكر الذي يفيد به الآراء والآداب في معاملة ابناء جنسه وسياستهم واكثرها تصديقات تحصل بالعقل التجريبي (الثالثة) الفكر الذي يفيد العلم او الظّن بمطلوب وراء الحسّ لا يتعلّق به عمل فهذا هو العقل النظري وهو تصوّرات وتصديقات تنتظم انتظاما خاصّا على شروط خاصّة فيفيد معلوما آخر من جنسها في التصوّر او التصديق» (QII: 365–364)
ان التفطن الى مراحل الفكر الثلاث اعلاه وربطها بخطوات البحث الثلاث السابق ذكرها يقودنا الى كيفية استخدام نظرية الفكر عند ابن خلدون0 فالعرض على الاصول (الخطوة الاولى) هو من نتاج العقل التمييزي والقياس بالشبيه (الخطوة الثانية) من نتاج العقل التجريبي والسبر بمعيار الحكمة، اي بعلم المنطق (الخطوة الثالثة)، هو من نتاج العقل النظري، ثمّ يلي ذلك السبر ايضا بالوقوف على طبائع الكائنات وبتحكيم النظر والبصيرة فى الاخبار، ووفقا لابن خلدون: «ان التناسب بين الامور هو الذي يخرج مجهولها من معلومها» (QI:219)
وهذا التناسب هو ما يقوم به مؤلفنا في اماكن عديدة من المقدّمة، عندما يقودنا الى تحليلات ثلاثية التقسيم تتمثل في الشئ ثم ضّد الشئ ثم مركّب الاشياء ، او باستعمال مصطلحات اخرى: الطريحة ثم النقيضة ثم الجميعة، وهذه مصطلحات فلسفية كتب وحاضر عنها ابن خلدون فهو يقول ان:
«سعي الفكر في تحصيل المطلوبات امّا بان تجمع تلك الكليّات بعض الى بعض على جهة التأليف فتحصل صورة في الذهن كليّة منطبقة على افراد في الخارج فتكون تلك الصورة الذهنيّة مفيدة لمعرفة ماهيّة تلك الاشخاص» (QIII: 109)
وهذا يعني بان الفكر الانساني يكون تارة بداية لمعرفة يطلبها الانسان او علم لم يكن حاصلا من قبل، فالفكر الانساني عندما
«يتوجّه الى المطلوب وقد تصوّر طرفيه ويروم نفيه او اثباته يلوح له الوسط الذي يجمع بينهما اسرع من لمح البصر ان كان واحدا وينتقل الى تحصيل وسط اخر ان كان متعدّدا» (QIII:254)
ان التمعّن في هذه المقولة الفلسفية تخبرنا بمدى ثقافة ابن خلدون وتبحّره في علوم عصره0 ان الجمع بين النقيضين واستنباط الوسط الذي يجمع بينهما هي من الاشياء التي تزخر بها المقدّمة كما سناتي عليه مثلا عند الحديث عن الربح والكسب0
ان نقد ابن خلدون لسابقيه ينصبّ على عدم مقدرتهم على استنباط الاسباب التي تكمن وراء الاحداث واقتصارهم في الكثير منها على الوصف البحث والبسيط، لذلك فلا بد لنا عند اعادة النظر في هذه الاحداث من «ردها الى الاصول وعرضها على القواعد» (QI:9)، اي استنباط الاصول الذاتيه والعرضيّة وتطبيق القواعد، اي خطوات البحث الخلدونية، ومن اهم هذه القواعد قاعدة المطابقة بالواقع، فهي التي تمكننا من «الوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الاخبار» (QI:9)، وعبارة «تحكيم النظر والبصيرة في الاخبار» كانت ومازالت من اولى طرق التمحيص الفكري عند الفلاسفة القدماء0
ان الفكر، وفقا لابن خلدون،
«ينتظم مع غيره فيفيد علوما اخر كذلك وغاية افادته تصوّر الوجود على ما هو عليه باجناسه وفصوله واسبابه وعلله فيكمل بالفكر بذلك في حقيقته ويصير عقلا محضا ونفسا مدركة وهو معنى الحقيقة الانسانية» (QII:365)
ان كمال الانسان هو باستخدام عقله وافكاره ليرتقي بنفسه من درجة الى اعلى منها بحثا عن الادراك0 وهذا يعني ايضا ان الوقوف على طبائع الكائنات يختلف من فرد الى اخر كل حسب خطوات بحثه ومراحل تفكيره0 فالفكر الانساني «هو الخاصة البشريّة التي تميّز بها البشر عن غيره من الحيوان وعلى قدر حصول الاسباب والمسبّبات في الفكر مرتّبة تكون انسانيته» (QII:367)0
هذا باختصار كيفية فهم ثنائية الذات والعرض التي قلنا عنها بانها تمثل حجر الزاوية بالنسبة لطريقة البحث الخلدونية، فبدون هذه الثنائية سيختلط الحابل بالنابل، لان التفريق بين الذات والعرض هو الذي قد يقينا من خطر الوقوع في المغالط0 ان الذات (هطول الامطار) يمكن تعريفها بسهولة وربما مشاهدتها بالعين المجرّدة، ولكن احوال الذات، او ما تعرضه وما تسبّبه يتطلّب منا ان نفكّر ونقيس بالشبيه ونمحّص بالرجوع للواقع والوقوف على الطبائع0 لقد كانت نقطة البداية عند ابن خلدون هي تمحيص الاخبار، مما ساعده ليس فقط على تطوير طريقة بحث تختلف عن طريقة الجرح والتعديل، التي كان يري بانها لا تناسب عالم الحوادث والوقائع الانسانية، بل اكتشف ايضا بديلا لعلم التاريخ وهو علم العمران فاتي هو ايضا ثنائي الفهم والمحتوى، وكأنّ ابن خلدون كان في صراع فكري مع علماء التاريخ او ربما في مضاربة فكرية معهم0 انه من الطبيعي لاي عالم يقوم بتجديد قواعد البحث والتمحيص ان يشرح مكان تطبيقها وكيفية تطبيقها 0 لهذا اتى ابن خلدون بثنائية العمران0
الجزء الثاني: ثنائية العمران، اي العمران البشري والاجتماع الانساني
ان علم العمران وليد احداث عصره بمثل ما هو وليد تاريخ ذي مفهوم حضاري معيّن، فكيف يُفرّق ابن خلدون بين هذا العلم الذي اكتشفه واطلق عليه اسم «علم العمران» وبين التاريخ كما كان يتفهمه في زمانه ولماذا يفرّق بينهما؟
بالرجوع الى القاعدة السابق ذكرها عن التمييز الثنائي الى الذات والعرض، نستطيع ايضا ان نفرّق بين علم التاريخ بمفهومه الحضاري وعلم العمران في جملته، او في ذاته0 يقول ابن خلدون «اعلم ان التاريح فن عزيز المذهب جم الفايدة شريف العايدة» (QI:8)، فليس من الغريب ان يتمخّض عن هذا العلم الشريف علوم اخرى مثل علم العمران، «فالماضي اشبه بالآتي من الماء بالماء» (QI:10_9) ولكن بالرغم من ذلك التشابه بين العلمين وما للتاريخ من مكانة مرموقة في توحيد وصهر المكونّات القوميّة للامة الاسلامية وتثبيت دعائمها، فالاختلاف بين العلمين مازال واردا0 فان المؤرخ مقيّد بامانته تجاه النص التاريخي اكثر من غيره، حتّى ولو سلمنا بانه يستطيع ان يستفيد من احوال الحاضر لاعادة تركيب الماضي البعيد0 اما عالم العمران فهو الذي يستطيع بتطبيق مناهج بحثه وقدراته الفكرية وعقله الاجتماعي، ان يخلف للاجيال القادمة مادة شارحة ودسِمة بسبب معايشته لهذه الاحوال وسهولة استخلاص طبائعها0 فالمؤرخ لا يستطيع ان يقوم بمثل ذلك التنقيح مثله مثل عالم العمران لكونه مؤرخا قبل ان يكون عالم اجتماع، وهذا ما تنبّه له ابن خلدون، فاتى بعلم العمران مخالفا للتاريخ ولكن دون ان ينفصل عنه تماما لاسباب تتعلّق بالمفاهيم التي ترتبط بالتاريخ منذ بدء الحضارة الاسلامية0 ولقد اختار ابن خلدون مصطلح «العمران» مصطلحا جامعا لعلمه الجديد، ويقول في التفريق بين علم العمران والتاريخ:
«ان التاريخ انما هو ذكر الاخبار الخاصة بعصر او جيل فامّا ذكر الاحوال العامّة للآفاق والاجيال والاعمار فهو أسٌ للمؤرخ يتبنا عليه اكثر مقاصده ويتبيّن به اخباره»(QI:51_50)
فالتاريخ يختلف اذن عن الاسُّ الذي يُبنى عليه، ولكي يتمكّن المؤرخ من اضفاء طابع العمران على كتاباته عليه ان يعتمد، بجانب وثائقه التاريخية، على ما يسمّيه ابن خلدون «أسُّ المؤرّخ» في المقوله اعلاه، ويشمل هذا الأسُّ على طبائع الاحوال العامة في العمران0 فعالم العمران يكوّن القوانين العامة اعتمادا على دراسة وتمحيص الواقع، ثمّ يقدّم حصيلته للمؤرّخ الذي يتمكّن بدوره من ان يستقي منها ما يساعده على شرح الماضي وفهمه0 ونجد ابن خلدون يوضّح الفرق بين التاريخ المحض وبين علم العمران في مكان آخر من المقدمه وبتفصيل دقيق حيث يقول:
«(اعلم) انه لما كانت حقيقة التاريخ انه خبر عن الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الاحوال مثل التوحّش والتأنّس والعصبيات واصناف التقلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشئ عن ذلك من الملك والدول وساير ما يحدث في ذلك العمران بطبيعة من الاحوال ولما كان الكذب متطرّقا للخبر بطبيعته وله الاسباب تقتضيه (فمنها) [000] فاذا كان السامع عارفا بطبايع الحوادث والاحوال في الوجود ومقتضياتها اعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب وهذا ابلغ في التمحيص من كل وجه يعرض» (QI:58_56)
في هذه المقولة ثلاثة اجزاء اساسية: يُعرّف الجزء الاول منها «حقيقة التاريخ» وبتفصيل مسهب، ويُعدّد الجزء الثاني منها ما وصلت اليه الكتابات التاريخية من تدهور، ويقترح الجزء الثالث منها حقتمية «معرفة طبائع الحوادث والاحوال في الوجود ومقتضياتها» للتمكن من تمحيص الاخبار والتمييز بين الصدق والكذب باحسن وجه برهاني ممكن0 وبما ان مضّاد الشئ، اي التاريخ اللاخلدوني، هو نقيض أسّ التاريخ، او بمعنى اخر نقيض علم العمران، فاننا نجد انفسنا امام الجزئين اللذين يكوّنان هذا العلم، اي امام الجمِيعة الخلدونية0 وبتطبيق مبدأ الثنائية التحليلية السابق ذكره نستنبط ثنائية العمران: اولا، العمران في ذاته وهو «الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم» وثانيا، العمران فيما يعرض من احواله وهو «معرفة طبايع الحوادث والاحوال في الوجود ومقتضياتها»0 ان مصطلح العمران متعدّد الماهيات، يُشبّعه ابن خلدون بمفاهيم عمرانيّة مختلفة كلمّا اراد شرح جانب من جوانب العمران المترابطة0 ويكفي هنا ان نذكر بعض المصطلحات ذات الصلة مثل عمران العالم، والعمران البدوي والحضري، واحوال العمران، والاعتمار. والمعتمرون الخ، بحيث لو جمعنا ونسّقنا هذه المصطلحات لخرجنا بتشكيلة متداخلة الارتباط والتنسيق0 فهل اراد ابن خلدون تبديل التاريخ بعلم العمران؟ كلا، لم يرد ابن خلدون بعلمه الجديد تبديل المؤرخين بقدر ما اراد مساعدتهم على التحقيق والتمحيص لأن:
«الاخبار اذا اعتد فيها مجرّد النقل ولم تحكم اصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والاحوال في الاجتماع الانساني ولا قيس الغايب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق» (QI:9_8)0
ولقد شهد ابن خلدون العواقب التي ترتّبت على مثل هذا النقل المجرّد مما جعله يتعدّى طريقة الجرح والتعديل التي كانت متّبعة قبله0 لذلك نجده ياتي بمصطلح العمران مصطلحا جامعا يشفي غليل المؤرخ لشرح الكليّات ويفتح الباب لعالم العمران لفهم الجزئيّات، فالعلم الخلدوني يتكوّن من «العمران البشري والاجتماع الانساني»0
فالتاريخ في حقيقته، اي بعد افتراض بنائه على علم العمران، يصبح خبرا عن الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم، ويخرج، عند نقله للاجيال القادمة مشبّعا بطبائع العمران وقواعد السياسة، والاحوال الكسبيّة والصناعيّة منها والعلميّة وما انقلب من هذه الطبائع الي عوائد (habitus) اجتماعيّة0 وان انقلاب الطبائع الى عوائد من اهم النظريات التي يستخدمها ابن خلدون لشرح العادات والتقاليد واثرها في ازدهار واندثار الحضارة0
ونلاحظ في المقولة السابقة دقة تركيب اصطِلاحيْ «الحوادث والاحوال» في الوجود ومقارنة ذلك بما ورد من قبل حيث التاريخ «انما هو ذكر الاخبار الخاصة بعصر او جيل»، وهذا ما يُعرف بالحوادث التاريخية ذات الموقع الزمني المعيّن0 «فاما ذكر الاحوال العامّة للآفاق والاجيال فهو أس للمؤرخ يتبنا عليه اكثر مقاصده ويتبيّن به اخباره»0 وهنا نجد انفسنا امام المادة العمرانيّة التي يستفيد منها المؤرخ، والتي يتمكّن عالم العمران من ان يجمعها وان يخضعها لطرق بحثه وتحليلاته، وهذه المادة هي ايضا التي نتعرّف منها على «الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم [000] وساير ما يحدث في ذلك العمران بطبيعة من الاحوال»0 ونلاحظ هنا بوضوح ان عمران العالم يتعلّق بالحضارة العالميّة وليس بحضارة مجتمع واحد، وهنا يلتقي ابن خلدون بكتابات كبار المؤرخين حتى عصره، ونجده ايضا يوضّح لنا بان هذه «الاحوال» التي نعيشها ونفهم طبائعا هي التي تصبح بمرور الزمن «عوائد» (QI:45) ونكرر هنا بان الطبائع هي نتاج البحث والتمحيص، اي ما يظهر طبيعيا بمعنى نتائج مُمحّصة عند شرح وتعليل مدلولات الاحوال0 فاذا كان ذلك، فان المؤرخ يعتمد على الأسّ الذي يبنيه له عالم العمران، اي دارس الاحوال والظروف المعاشيّة الذي يتوصّل الى القوانين والطبائع التي تشرح تطوّر المجتمعات، وهو الذي يقوم بدراساته العمليّة داخل اطار بحث اقل شمولية من اطار عمران العالم، فما هو هذا الاطار المحصور؟
دعونا للاجابة على ذلك اعادة اختصار المقولة السابقة مرة اخرى:
«لما كانت حقيقة التاريخ [000] ولما كان الكذب [000] فان كان السامع عارفا بطبايع الحوادث والاحوال في الوجود ومقتضياتها اعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب وهذا ابلغ في التمحيص من كل وجه يعرض [000] اذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الاخبار بالامكان والاستحالة ان ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران» (QI:61_65)
وها هو الجزء الثاني من علم العمران يظهر في اخر المقولة اعلاه ، ويظهر بكل قوته لان ابن خلدون يجعل منه قانونا للبحث الميداني والتمحيص0 هذا هو «الاجتماع البشري الذي هو العمران» ونلاحظ مما سبق اننا الآن امام ثنائية العمران: اولا «الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم»، وثانيا «الاجتماع البشري الذي هو العمران»0 ويمكننا هنا ان ندمج الجملتين معا لنخرج بالاختصار الجامع الذي يستخدمه ابن خلدون وهو «العمران البشري والاجتماع الانساني» (QI:61)0
ان كلمة «عمران» في هذا الاختصار تعادل «مجتمع» وهي نقيضة «عمران العالم»، ولذا يظهر مصطلح «الانساني»، وهو مصطلح ذو قيمة قرآنية ومن نقائضه الوحشي يظهر مرتبطا بتعريف «عمران العالم»0 ويأتي مصطلح «البشري»، ليصف الانسان ذكرا وانثى واحدا وجمعا وهذا مصطلح اقل شموليّة من الاوّل، فيأتي مرتبطا بالمصطلح الخلدوني المعرّف وهو «العمران» والدليل القاطع على ثنائية العمران هو تركيبية المصطلحات التي ياتي بها المؤلف عندما يشرح استقلالية علم العمران حيث يقول
«وكان هذا علم مستقل بنفسه فانه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الانساني وذو مسايل وهو بيان ما يلحقه من الاحوال لذاته واحدة بعد اخرى» (QI:61)
فتقديم مصطلح العمران البشري على الاجتماع الانساني في الاختصار الاصلي اعلاه له علاقة وثيقة بالتعريف الثنائي، اي الشئ في ذاته وفيما يعرض من احواله، فعلم العمران في ذاته او عند اعتبار نظرياته هو الاجتماع الانساني، اما احوال ومسائل العمران المختلفة فنكتشفها بدراسة العمران البشري0 وربما نتسائل: ما هو الدليل على ان ابن خلدون اراد شيئا محددا من تقديم مصطلح العمران البشري على مصطلح الاجتماع الانساني؟
يقول ابن خلدون في مناقشته للفكر بان الانسان
«لو فكر في ايجاد سقت يكنه انتقل بذهنه الى الحائط الذي يدعمه ثم الى الاساس الذي يقل عليه الحائط فهو آخر الفكر ثم يبدأ في العمل بالاساس ثم بالحائط ثم بالسقف فهو اخر العمل (وهذا) معنى قولهم اول العمل آخر الفكرة واول الفكرة آخر العمل» (QII:366)
يحمل هذا المثال في طياته الفرق بين التخطيط الفكري والعملي، فهناك فكرة تأليفية من تقديم العمران البشري على الاجتماع الانساني، وهي ان الاوّل هو لفهم الجزئيات والثاني هو لفهم الكليات، فالتأليف يبدأ عند ابن خلدون بالمحسوس والملموس او بالاساس كما في المقولة اعلاه0 ولهذا نجد بان مؤلفنا يبني قانونه العام في تمييز الحق من الباطل على دراساته الميدانية في اطار هذا الاساس والذي هو «العمران البشري»، وهذا ما يشير اليه فقط بمصطلح «العمران»، وهو المصطلح الذي يجمع في طياته الناحيتين، الاجتماعية والاقتصادية، اللتان اراد ابن خلدون التركيز عليهما في المقدّمة، فالعمران هو:
«التساكن والتنازل في مصر او حلة للانس بالعشرة واقتصاء الحاجات لما في طباعهم [طباع البشر] من التعاون على المعاش» (QI:67)
وهذا يعني بانه يجب القيام بالبحوث الميدانية وتطبيق قواعد البحث، اي العرض على الاصول والقيام بالشبيه والسبر بمعيار الحكمة وبالوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الاخبار، داخل اطار «الاجتماع البشري الذي هو العمران»، فهنا يمكننا ان:
«نميز ما يلحقه من الاحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضا لا يعتدّ به وما لا يمكن ان يعرض له»(QI:61)
ان اكتشاف هذه الاحوال الذاتية والعرضيّة والمستحيلة والتمييز بينها يحتّم اولا ان تتم دراستنا داخل اطار مجتمع معيّن ثم ان يتم تحديد اهم مجالات هذه الدراسة والعوامل الواجب دراستها داخل كل مجال، وهذا ما فعله ابن خلدون بحصر دراساته الاجتماعية على مجتمعات شمال افريقيا0 ولقد افترح ابن خلدون، كما ذكرنا سابقا، اربعة مجالات هامة واساسيّة هي السياسية والاقتصادية والصناعية والاجتماعية0 فاذا فعلنا ذلك، اي اذا قمنا بمثل هذه الدراسة الاستكشافية التمييزية
«كان لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الاخبار والصدق والكذب بوجه برهانيّ لا مدخل للشك فيه وحينئذ فاذا سمعنا عن شئ من الاحوال الواقعة في العمران علمنا بما نحكحم بقبوله مما نحكم بتزييفه وكان لنا ذلك معيارا صحيحا يتحرّى به المؤرّخون طديق الصدف فيما ينقلونه والصواب» (QI:61)
وتشرح منهجية البحث الخلدونية كيفية القيام بمثل هذه الدراسات، فالمقدمة لا تنقصها النظريات والافكار المستقاة من الدراسات الميدانية، فباحث العمران هو الذي يقوم بدراساته الحقلية والنظرية في اطار زمان ومكان محدودين، وعندما يرتقي بتفكيره الى «الكليّات الذهنية» يستطيع آنذاك ان يكوّن من ذبدة هذه الدراسات والبحوث مادة عمران العالم، اي مادة «العمران البشري على الجملة» (QI:68)0 لذلك صاغ ابن خلدون علم العمران في قالبين: قالب نظرية المعرفة لاستعماله كأسّ للتاريخ يعيد لهذا العلم الشريف مكانته الثقافية ثم قالب علم العمران الذي اختصّه بعلماء العمران ممن يستطيعون القيام بالدراسات الحقليّة لتطوير وتغذية نظرية المعرفة0 فمنهجية او قواعد البحث نفسها عامة التطبيق ولكن عالم التاريخ وعالم العمران يختلفان في مدى تطويع هذه القواعد وحرية الاستفادة منها0 وبهذا الشكل استطاع ابن خلدون ان يستثمر تراث النظرة الشاملة والعالميّة التي طالما وُجدت في كتابات كبار المؤرخين مثل المسعودي والطبري وغيره، وان يأتي بالنظرة العمرانية التي تعتبر من احسن الوجوه واوثقها لمعرفة طبائع العمران واحواله والتنبؤ بتطور الحضارة واندثارها، ويجعل ابن خلدون من هذا ثمرة علمه الجديد:
«واذا كانت كل حقيقة متعقّلة طبيعية يصلح ان يبحث عمّا يعرض لها من العوارض لذاتها وجب ان يكون باعتبار كل مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصّه لكن الحكماء لعلهم انما لاحظوا في ذلك العناية بالثمرات وهذا انما ثمرته كما رايت في الاخبار فقط واذا كانت مسايله في ذاتها وباختصاصاتها شريفة لكن ثمرته تصحيح الاخبار وهي ضعيفه فلهذا هجروه والله تعالى اعلم» (QI:63)
علينا فهم المقدّمة دون نسيان معايير الكتابة التي كانت سائدة في عصرها ، فكيف كانت ستكون المقدّمة لو كُتبت بمداد اليوم؟ لهذا فضلنا ان نبدأ باهم مصطلحاتها، ونأمل ان نكون قد استطعنا توضيح الغموض الذي يدور حول مصطلح العمران عامة بالتفريق بينه وبين التاريخ واظهار الثنائية التي تقسّم ذلك العمران الى «الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم» ثمّ الى «الاجتماع البشري الذي هو العمران»0
الجزء الثالث: بنية احوال الاجتماع الانساني. اي «عمران العالم»
قلنا سابقا ان مبدأ التمييز الثنائي، او العرض على الاصول الذاتيه والعرضيّة، هو اولى خطوات او قواعد البحث الخلدوني، فقبل القيام باي تحليل، نستنبط المدلولات او الاصول الذاتيّة والاصول العرضيّة للحادث المراد تحليله0 فالمدلولت الذاتيه تقف بمثابه التعريف الظاهر والبديهي مثلما قلنا عند تعريف هطول الامطار، اما المدلولات العرضيّة التي تتعدّى وصف الذات فهي خفيّه ولذلك نحتاج الى البحث والمثابرة لاكتشافها0 فالقول مثلا بان «الانسان متعاون بطبعه» تعززه الكثير من المدلولات الظاهرة بغض النظر عن الزمان والمكان، ولكن القول بان «تعاون البشر هو رهن احوالهم» يقودنا الى البحث عن المتغيرات الخارجة عن الذات لاستنتاج الاحوال التي قد تعزز او تقلل من طبيعة هذا التعاون0 وقد تكون هذه الاحوال او المدلولات العرضيّة متشعّبة ومتفرّعة بالشكل الذي يتطلب معه حصرها وتحديدها قبل دراستها واستنتاج نظرياتها، ولقد وجد ابن خلدون بعض آليات الحصر والتحديد هذه في تناقضات الاحوال في العمران0 وهدفنا هنا هو حصر مضمون مصطلح الاحوال انطلاقا من منهجيّة التحليل الثنائي، وعلى مستوى العمرانين للخروج بالاحوال الذاتيّة والاحوال العرضيّة وتناقضاتها، وهذا ما نشير اليه ببنية الاحوال اي تركيبتها، ونبدأ بعمران العالم0
من احدى العناوين الشاملة في المقدمة هو «العمران البشري على الجملة وفيه مقدّمات»0 نجد تحت هذا العنوان ستّ مقدّمات تتعلّق جميعها بالاحوال الانسانية عامة اكان ذلك بمفهوم طبيعي او فوق الطبيعي، ويظهر منها بان الانسان جزء لا يتجزء عن محيطه الذي يعيش فيه، فيقودنا ذلك للنظر في خواصه ومميزاته كانسان، ثم نربط بينه وبين بيئته الجغرافيّة والثقافيّة حيت تتجلّى هذه الاحوال لنتمكّن من حصرها ومقارنتها وتعليل اختلافاتها من منطقة جغرافيّة الى اخرى، فما هي اذن خواص الانسان الذاتيّة، وما هي تناقضات الاحوال العامة في نطاق «الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم»؟ يقول ابن خلدون ان من اهم خواص الانسان الذاتيه انه كائن اجتماعي راغب في البقاء لان:
«الاجتماع للانسان ضروري ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم الانسان مدنيّ بالطبع اي لا بدّ له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معنى العمران بيانه ان الله سبحانه خلق الانسان ودكبه على صورة لا تصحّ حياتها وبقاؤها الا بالغذاء وهداه الى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من المقدرة على تحصيله» (QI:69_68)
ولكن قدرات الانسان المحدودة وحاجاته المتعدّدة وتنوع الصنائع التي تدخل في بقاءه تجعله اكثر اعتمادا على غيره:
«فلا بدّ من اجتماع القُدَر الكثيرة من ابناء جنسه لتحصيل القوت له ولهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لاكثر منهم باضعاف» (QI:69)
ان اجتماع وتعاون القُدر الكثيرة هو اساس وجود المجموعات البشرية في بقاع العالم لما في ذلك من تقسيم للعمل وتخصّص في الصنائع، وذلك التعاون نفيه يُولّد «قدر الكفاية من الحاجة لاكثر منهم باضعاف»0 فهذا الفائض هو ايضا الذي يثير لديهم الطبائع الحيوانية مثل العدوان والظلم، وبما ان خطورة الاعتمادية بين هذه المجموعات هي من جراء تكوين الفائض، وجب لهم نوع من انواع الحكم ايا كان منزلهم من العالم0
«(ثم) ان هذا الاجتماع اذا حصل للبشر كما قررناه وتمّ عمران العالم بهم فلا بدّ من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم [000] فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتّى لا يصل احد الى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك» (QII:72–71)
هذه هي الخواص الذاتية لاي عمران0
فهناك مضادّان: اولهما الاجتماع المثمر وثانيهما الفائض المدمّر، والاخير وراء اهم الاعتداءات التي تقع في العمران اكان ذلك على مستوى الدولة او مستوى العالم، ولا يحتاج ذلك للشرح والتعليل0 ونلاحظ هنا بان ابن خلدون، الذي تأثر ولخّص ودرّس تعاليم ارسطاطليس، يأتي بالطريحة ونقيضتها، ثم يستنتج منهما الجميعة، اي الحكم الوازع، فهو الجامع الوحيد بين هذين المضادين0 لذلك فالحكم الوازع خاصيّة ذاتية للعمران ولا بدّ منها في كل تكويناته الاجتماعية، ولا يقتصر ابن خلدون على النواحي الدينية في تعريف ذلك الحكم الوازع بل ينطلق فيه من الوجود وحياة البشر التي يمكن ملاحظتها ومما يفرضه الحاكم لنفسه او بالعصبيّة التي يقتدر بها علي قهر رعيته وحملهم على جادته، فانظمة هذا الحكم تختلف باختلاف اقاليم العالم في اعتقاداتها وثقافاتها، ومهما كان فان الغرض الرئيسي وراء ذلك الحكم الوازع هو منع الاعتداء على الغير، وهذا يمكن استنتاجه بمقتضى الفكرة والسياسة0 واشد الاعتداءات وفقا لابن خلدون هو الاعتداء الاقتصادي، فيقول ان:
«الله سبحانه وتعالى خلق جميع ما في العالم للانسان وامتنّ به عليه في غير ما اية من كتابه ويد الانسان مبسوطة على العالم وما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف وايدي البشر منتشرة فهي مشتركة في ذلك، وما حصل عليه يد هذا امتنع عن الاخر» (QII:272–272)
فالناحية الاقتصادية تكمن هنا في كيفية استغلال الموارد المتاحة للانسان، ويذكرنا هذا بملكية الموارد النادرة في العالم وكيفية استغلالها0 ومن اشد الاعتداءات الاقتصادية على مستوى العمران البشري هي التي تنتج من عدم التفريق تفريقا عادلا بين الرزق والفائض بمعنى اللكسب، كما سنأتي عليه بعده0
وبما ان «العمران البشري على الجملة»، ونكرّر على الجملة، يغطي عدّة مجتمعات تختلف باختلاف احوالها الجغرافية، فهل لهذه الاحوال تأثير على النظرية العامة للفائض؟ نعم، لانّ طبيعة الفائض وتكوناته تختلف ايضا باختلاف التوزيع الجغرافي للعمران وامكانيّة وجوده وتطوره في اقاليم العالم الختلفة «لانّ العمران متدرّج وياخذ في التدريج من جهة الوجود لا من جهة الامتناع» (QI;87) فدرجات الاختلاف تؤثر بحدتها على عدالة توزيع هذا الفائض بين الرعيّة وايضا بما يفرضه الحاكم لنفسه وما يفرضه لهم0 وبهذا يحق كذلك الربط بين وفرة العمران او قلته جغرافيا وبين عدالة توزيع الفائض مما يتطلّب تفهّم الحاكم لمقتضيات العيش في منطقته0 وبهذا تتسع ايضا خواص العمران الذاتية لتشمل طبائع الاكوان والجهات، او جغرافية احوال الانسان داخل محيطه0 فمعرفة هذا المعمور وحدوده تٌمكّننا من معرفة احوال عمرانه اعتمادا على معلوماتنا الجغرافية، فالغرض من المقدمات الجغرافية التي اتى بها ابن خلدون في المقدّمة هو ربط التحليل الاقتصادي بالاحوال الجغرافية اكان ذلك بالجغرافيا الطبيعية او البشرية او الثقافية الخ، فانتشار الحضارة في جزء من اجزاء المعمورة اكثر من غيره لا يحق فقط شرحه بالرجوع الى العامل الاقتصادي البحت، ففساد التكوين بافراط الحر مثلا جعلت المؤلف يٌدخل العامل الجغرافي بين اسباب كثرة العمران وقلته فهو يقول:
«فلذلك كان العمران في الاقليم الاول والثاني قليلا وفي الثالث والرابع والخامس متوسطا لاعتدال الحرّ بنقصان الضوء وفي السادس والسابع كثيرا لنقصان الحرّ وان كيفيّة البرد لا تؤثر عند اولها في فساد التكوين كما يفعل الحرّ اذ لا تجفيف فيها الا عند الافراط بما يعرض لها حينئذ من اليبس كما بعد السابع فلهذا كان العمران في الرابع الشماليّ اكثر واوفر والله تعالى اعلم» (QI:86)
نلاحظ في هذه المقولة تطبيق قواعد التمحيص البحثي عند ابن خلدون، فالمقولة تبدأ بذكر «القليل» ثم «المتوسط» ثم «الكثير» ومقارنتهما منطقيا وتعليل اختلافاتهما، فنجد في المقولة ما يوحي بالاجابة على اسئلة نستهلها بِ «لماذا؟ وكيف نعلّل ذلك؟»، هذا ما يعنيه ابن خلدون بقاعدة «السبر» وهي القاعدة الثالثة0 فبعد «العرض» ثمّ «القياس» ياتي السبر بمعيار الحكمة وبالوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة كما وضحنّا بعاليه0
ان اعتبار التحليل الثنائي مكن ابن خلدون من استنباط عوامل التحليل والتمميز بينها ثم تنظير ما توصل اليه من نتائج بعد حصرها وتعليلها بالمطابقة مع معلوماته الحقليّة وللخروج بطبائعها0 لذلك نجده بعد مناقشة الاقاليم الجغرافية السبعة، يستنبط العوامل المادية والغير مادية التي تؤثر على احوال العمران في جملته مثل الهواء على الوان البشر والخصب والجوع على ابدانهم واخلاقهم والكثير من احوالهم واصناف المدركين منهم للغيب بالفطرة او بالرياضة، فنجده يقول:
«فلهذا كانت العلوم والصنايع والمباني والملابس والاقوات والفواكه والحيوانات وجميع ما يتكوّن في هذه الاقاليم الثلاثة المتوسّطة مخصوصة بالاعتدال وسكانها من البشر اعدل اجساما والوانا واخلاقا واحوالا» (QI:149) «وتتبع ذلك في الاقاليم والبلدان تجد في الاخلاق اثرا من كيفيات الهواء والله الخلاق العليم» (QI:157)
ويستمر قائلا
«اعلم ان هذه الاقاليم المعتدلة ليس كلها يوجد له الخصب ولا كل سكانها في رغد من العيش بل فيها ما يوجد لاهله خصب العيش من الحبوب والادم والحنطة والفواكه لزكاء المنابت واعتدال الطينة ووفور العمران وفيها الارض الحرّه التي لا تنبت زرعا ولا عشبا بالجملة» (QI:158–157)
ثم ينتقل بتحليلاته من مستوى الاقاليم الجغرافيّة والى مستوى المدينة الواحدة وانتمائها الحضري ليقول:
«وكذلك نجد حال المدينة الواحدة في ذلك يختلف باختلاف حالها في الترف والخصب وكذلك نجد هولاء المخصبين العيش المنغمسين في طيّباته لا من اهل البادية ولا من اهل الحاضرة والامصار اذا نزلت بهم السنون واخذتهم المجاعات يشرع اليهم الهلاك اكثر من غيرهم» (QI:161)
وينصبّ اهتمام ابن خلدون الاكبر على مناطق عمرانيّة محدّده يقتصر ملاحظاته عليها، فهو يقول:
«وان عنايتنا في الاكثر انما هي بالمغرب الذي هو وطن البربر وبالاوطان التي للعرب من الشرق والله واهب المعونة » (QI:81)
وهذا ما يظهره ايضا ادراك ابن خلدون وتفهمه الثنائي للبنيات المختلفة لعلمه الجديد، النظرية منها عند التفريق بين العمران البشري والاجتماع الانساني، والواقعيّة منها مثل التقسيمات الداخليّة للعمران البشري الى بدوي وحضري0 فما هي بنية العمران البشري او تركيبة احواله؟
الجزء الرابع: احوال العمران البشري
ان جميعة او كليُات العمران البشري هو الاجتماع الانساني0 ولقد قلنا سابقا بان التناقض البديهي بين الاجتماع المثمر والفائض المدمّر هو من اهم الخواص الذاتية للعمران، وهذا التناقض لابد معه من الحكم الوازع والعادل اذا اردنا تطور العمران واستمراريته0 هذا يمثل قلب نظرية العمران0 فما نزل بالعمران شرقا وغربا في زمان ابن خلدون وطوى كثيرا من محاسنه ومحاها كان هو الشاغل الاساسي لديه والجزء الذي تخصصت فيه دراساته، فهو يقول:
«(وانا) ذاكر في كتابي هذا ما امكنني منه في هذا القطر المغربي امّا صريحا او مندرجا في اخباره وتلويحا لاختصاص قصدي في التأليف بالمغرب واحوال اجياله واممه وذكر ممالكه ودوله دون ما سواه من الاقطار لعدم اطلاعي على احوال المشرق واممه لان الاخبار المتناقلة لا توفي كنه ما اريده منه» (QI:52)
فهذا التخصّص الاقليمي هو الذي املى على ابن خلدون اعتبار التناقضات الاقتصادية والسياسية والجغرافية التى لاحظها على مستوى الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم، ثم تطويرها لتكون اكثر ملائمة لمجال دراساته الاقليمية المتخصصة ليفهم التغيرات والكوارث التي لمّت بحضارته، فيأتي ببنية الاجتماع البشري الذي هو العمران0 فما هي هذه البنية وما هو الادراك الخلدوني للتناقض بين الانتاج المثمر والفائض المدمّر عند النظر الى ذلك بمنظار الاجتماع البشري الذي هو العمران؟ للاجابة على ذلك نعود مرة اخرى للثنائية التحليلية لتطبيقها على الاجتماع البشري بغرض استنطاقه في ذاته وفيما يعرض من احواله ثم استخراج تناقضاته0 فلنبدأ بطبائع العمران الذاتية0 فاذا كانت خواص الانسان بوجه عام انه كائن اجتماعي راغب في البقاء، وان قدراته المحدودة تجعله يعتمد على غيره، مما يملي عليه الاجتماع، الذي هو معنى العمران، فان حياته داخل منطقة عمرانيّة محدودة ومعيّنة يمكن وصفها بانها «التساكن والتنازل في مصر او حلة للانس بالعشرة واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون على المعاش» (QI:67) هذه هي احدى تعريفات العمران عندما يجعل منه ابن خلدون خاصيّة من خواص البشر، اي العمران البشري في ذاته، ويستمرّ ابن خلدون في تحديد هذا العمران البشري بقوله:
«ومن هذا العمران ما يكون بدويّا وهو الذي في الضواحي والجبال وفي الحلل المنتجعة للقفار واطراف الرمال ومنه ما يكون حضريّا وهو الذي بالامصار والقرى والمدن والمداشر للاعتصام بها والتحصّن بجدرانها وله في كل هذه الاحوال امور تحدث من حيث الاجتماع عروضا ذاتيا له» (QI:67)
بهذه المقوله نفارق الجغرافيا البشرية والطبيعية ونفارق النظريات العامة للاجتماع لنأتي على الخاص منها داخل سياج محدود0 فخاصيتا العمران البشري الاساسيتان هما الانس بالعشرة واقتضاء الحاجات0 ولكن هناك ضمن الاحوال البشرية امور تحدث من حيث التكوينات الاجتماعية البحتة بحيث يمكن اعتبارها ايضا احوالا ذاتية، وبما ان ابن خلدون يعتبر البادية بانها اصل العمران ومدد لامصاره واصل الحضارة، فانه يتعدّي التقسيم السابق الى بدوي وحضري لاظهار بنية العمران البدوي الذاتيّة ويتفهم تفاصيلها بمدى اقتراب او ابتعاد مجتمعاتها عن مركز الحضارة لما في ذلك من اهمية لشرح التناقض الاجتماعي والاقتصادي بين المركز والاطراف0 فيأتي العمران البدوي ببنيات داخليّة ثلاث:
«فمن كان معاشه منهم في الزراعة والقيام بالفلح كان المقام به اولى من الظعن وهولاء سكان المداثر والقرى والجبال [000] ومن كان معاشه في السايمة مثل البقر والغنم فهم ظواعن في الاغلب لارتياد المسارح والمياه لحيوانهم اذ التقلب بالارض اصلح بها ويسمّون شاوية ومعناه القائمون على الشاه والبقر ولا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطيّبة به (واما) من كان معاشهم في الابل فهم اكثر ظعنا وابعد في القفر مجالا لان مسارح التلول ونباتها وشجرها لا تستغني به الابل في قوام حياتها عن مرعى الشجر في القفر وورود مياهه الملحة والتقلب فصل الشتاء في نواحيه فرارا من اذى البرد الى دفء هوائه وطلبا لمفاحص النتاج في رماله اذ الابل اصعب الحيوان فصالا ومخاضا واحوجها في ذلك الى الدفء» (QI:223–222)
هذه هي البنية الاجتماعية الاجمالية للعمران البشري الذي اراد ابن خلدون التركيز على دراسته0 ونلاحظ في هذا التصنيف اعتماده على المعطيات الجغرافيّة لهذه النواحي وايضا اعتماده على نمط الانتاج الذي كان سائدا فيها آنذاك 0 فاذا كان ذلك فان للعمران البشري في ذاته مفهوم اجتماعي معيّن بالرجوع الى وظيفته الاجتماعية والاقتصادية، فهناك ظاهرتان اساسيتان: الاولى تتعلّق «بالاجتماع» والثانية تتعلّق «باقتضاء الحاجات»0 وللعمران البشري ايضا تقسيم بنيوي بالنظر الى تقسيمه الى بدوي وحضري، ثم بالنظر الى البنيات الاجتماعية المتسلسلة التي توجد داخل هذا التقسيم الثنائي0 فان الاجتماع الذي يقود البشر الى اقتضاء حاجاتهم هو الذي يستحق مفهموم العمران لانه يُمكنهم ايضا من الانس بالعشرة0 وبالرغم من قول ابن خلدون بان من طباع البشر التعاون على المعاش، فانه لا ينفي حاجة البشر للحكم الوازع والسلطان القاهر لما في طباعهم الحيوانية ايضا من العدوان والظلم على بعضهم البعض0 فخاصيّة الانس بالعشرة تعتمد على عدالة توزيع الفائض، ولكن هذه العدالة ليست من البديهيات الانسانية0 فاذا كانت لما كان التناقض ضروريا بين العمران البدوي والحضري، او بين المركز والاطراف، وبين قاطني العمرانين كما يظهر من «العصبيّات الاسكانية» والتحصينات الجدرانية التي لهم0 فان عدوان المدن والامصار بعضهم على بعض:
«يدفعه الحكام والدولة بما قبضوا على ايدي من تحتهم من الكافة ان يمتد بعضهم الى بعض او يعدو عليه فهم مكبوحون بحكمة القهر والسلطان عن التظالم الا اذا كان من الحاكم بنفسه وامّا العدوان الذي من خارج المدينة فيدفعه سياج الاسوار عند الغفلة او الغرّة ليلا او العجز عن المقاومة نهارا ويدفعه ذياد الحامية من اعوان الدولة عند الاستعداد والمقاومة (واما) احياء البدو فيزع بعضهم عن بعض مشايخهم وكبراؤهم بما وقر في نفوس الكافة لهم من الوقار والتجلّة وامّا حللهم فانما يذود عنها من خارج المدينة حامية الحيّ من انجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة فيهم ولا يصدق دفاعهم وذيادهم الا اذا كانوا عصبيّة واهل نسب واحد لانهم بذلك تشتدّ شوكتهم ويخشى جانبهم» (QI:234–233)
فالخير والشر من طباع البشر0
«ومن اخلاق الشرّ فيهم الظلم والعدوان بعض علي بعض فمن امتدّت عينه الى متاع اخيه امتدّت يده الى اخذه الى ان يصدّه وازع» (QI:233)
فالعدوان الاقتصادي من ابده البديهيات، ولكن كيف يمكننا ان نتمكّن من فهم واكتشاف جزئيات هذا النوع من العدوان بغرض التحكم في عملها؟ لقد عرفنا الفائض بانه نتاج «الاجتماع المثمر» وانه يمكن ان يصبح ايضا المدمّر للعمران وقلنا بان عدالة توزيع هذا الفائض قد تتلون بطبائع الاكوان والجهات التي تعلل وفرة العمران وقلته في ارجاء المعمورة، وكان ذلك من باب النظرية العامة0 ولكن هذه العدالة يتحدّد اطارها وتصبح ذات قرب منهجي عندما نحصرها داخل البٌنيات والتركيبات الاجتماعية كما هو داخل حدود العمران البشري0 وكلما دقّقنا الحصار كلما ظهرت التناقضات اكثر لمثا وواقعية، وبالتالي اسهل فهما وحلا، لذلك وجب ايضا ان ننظر الى هذا الفائض من منطلق الاحوال السائدة داخل العمران البدوي والحضري ببنياتهما الاجتماعية المحصورة في مناطق عمرانية محدّدة0 فبالاضافة الى كل المعارف السابقة، هناك اوجه او امور خاصة نعتمد عليها عند دراسة تطور العمران البشري في نطاقه المحدود وذلك بالرجوع الى:
«ما يعرض للبشر في اجتماعهم من احوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنايع بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة وتندفع بها الاوهام وترتفع الشكوك» (QI:66)
هذه هي الاوجه الاربع والاساسية التي نصل عن طريقها الى اعتبار الفائض العمراني والتحكم في اثار تناقضاته لضمان تطوّر العمران البشري ومنع اندثاره0 ان الاحوال الاربع السابقة تدخل في عداد العروض الذاتية للشئ، فما هي هي اذن النقائض التي يمكن ان تتولّد عن الملك والكسب والعلوم والصنائع؟
الوجه الاوّل هو الملك، وهو خاصيّة من خواص الانسان وتعريفه هو:
«الحاجة الى الحكم الوازع والسلطان القاهر اذ لا يمكن وجوده دون ذلك من بين الحيوانات كلها الا ما يقال عن النحل والجراد وهذه وان كان لها مثل ذلك فبطريق الهاميّ لا بفكر وروية» (QI:67)
والملك اعلى مرتبة من الرئاسة لانه يمثل الحكم الوازع والسلطان القاهر بينما «الرياسة انما هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم فهر في احكامه» (QI:252)، ولذلك فلهذا الملك نقيض اساسي هو العصبيّة، لان الحكم في ذاته وقبل ان تتطوّر احواله هو تغلب صاحب العصبيّة الراسخة على العصبيات الاخرى، فالغاية التي تجري اليها العصبيّة هي الملك0 يقول ابن خلدون «ان العصبيّة بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل امر يجتمع عليه» (QI:252) فلا بدّ ان يكون الحاكم متغلّبا بعصبيّته والا لم تتم قدرته على الملك الذي هو:
«التغلب والحكم بالقهر وصاحب العصبيّة اذا بلغ الى رتبة السؤدد والاتباع ووجد السبيل الى التغلّب والقهر لا يتركه لانه مطلوب للنفس ولا يتم اقتدارها عليه الا بالعصبيّة التي يكون بها متبوعا فالتغلّب الملكيّ غاية العصبيّة كما رايت» (QI:253–252)
فبالرغم من «ان طبيعة الملك الانفراد بالمجد والتوغل في الترف وايثار الدعة والسكون» (QI:299)، فان لهذه الطبيعة حدود حيث «اذا استحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة اقبلت الدولة على الهرم» (QI:302)
والسياسة التي يتحدّث عنها ابن خلدون في المقدُمة هي السياسة العقليّة، فو يقول «ان كلامنا في وظائف الملك والسلطان ورتبه انما هو بمقتضى طبيعة العمران ووجود البشر لا بما يخصّها من احكام الشرع فليس من غرض كتابنا كما علمت» (QII:3) ولكن هذا لا يمنع ابن خلدون من مناقشة الوظائف الخلافيّة للمقارنة والتمييز بينها وبين الوظائف السلطانيّة0 فالملك اذن منصب شريف وطبيعي للانسان فهو الذي يحث الرعيّة على التعاون ورد عدوان بعضهم على بعض0
«واحتاجوا من اجل ذلك الى الوازع وهو الحاكم عليهم وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم ولا بدّ في ذلك من العصبيّة لما قدّمناه من ان المطالبات كلها والمدافعات لا تتّم الا بالعصبية وهذا الملك كما تراه منصب شريف يتوجّه نحوه الطلبات ويحتاج الى المدافعات ولا يتمّ شئ من ذلك الا بالعصبيّات كما مر والعصبيّات متفاوتة وكل عصبيّة فلها تحكّم وتغلّب على من يليها من قومها وعشيرتها وليس الملك لكل عصبيّة وانما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعيّة ويجبي الاموال ويبعث البعوث ويحمي الثغور ولا يكون فوق يده يد قاهرة وهذا معنى الملك وحقيقته في المشهور فمن قصرت به عصبيّته عن بعضها مثل حماية الثغور وجباية الاموال او بعث البعوث فهو ملك ناقص لم تتمّ حقيقته» (QI:339–338)
الوجه الثاني هو الكسب، وتعريفه كالاتي:
«السعي في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب اسبابه لما جعل الله فيه من الافتقار الى الغذاء في حياته وبقائه وهداه الى التماسه وطلبه» (QI:67)
فاذا كانت العصبيّة هي نقيضة الملك فان الكسب، بمعنى الفائض المدمّر، هو نقيض المعاش فالكسب في ذاته وحقيقته هو وجه من وجوه المعاش وكذلك تكون الصنائع، فالمعاش:
«هو عبارة عن ابتغاء الرزق والسعي في تحصيله وهو مفعل من العيش كانه لما كان العيش الذي هو الحياة لا يحصل الا بهذا جعلت موضعا له على طريق المبالغة» (QII:276) «(ثم) ان تحصيل الرزق وكسبه امّا ان يكون [...] مغرما وجباية وامّا ان يكون [000] اصطيادا وامّا ان يكون [000] فلحا وامّا ان يكون [000] من الصنايع [000] او في موّاد غير معيّنة وهي جميع الامتهانات والتصرّفات وامّا ان يكون الكسب من [000] تجارة فهذه وجوه المعاش واصنافه» (QII:376–276)
ان وجوه المعاش متعدّدة، ومنها ايضا الشريفة وغير الشريفة والطبيعيّة وغير الطبيعيّة كما يشرح ذلك ابن خلدون:
«الفلاحة والصناعة والتجارة وجوه طبيعيّة للمعاش (اما الفلاحة) فهي متقدّمة عليها كلها بالذات اذ هي بسيطة وطبيعيّة وفطريّة لا تحتاج الى نظر ولا الى علم [000] (واما) الصنايع فهي ثانيتها ومتاخّرة عنها لانها مركّبة وعلميّة تصرف فيها الافكار والانظار ولهذا لا توجد غالبا الا في اهل الحضر الذي هو متأخّر عن البدو وثانٍ عنه [000] (واما) التجارة انّما هي تحيّلات في الحصول على ما بين القيمتين في الشراء والبيع لتحصل فائدة الكسب من تلك الفضيلة» (QII:278–277)
نري في هذه المقولة ايضا استعمال تعريف الذات عند القول بان الفلاحة متقدّمة بالذات، اي باعتبارها في ذاتها، على وجوه المعاش الطبيعيّة الاخرى والتي هي الفلاحة والصناعة والتجارة0 ان التنافس بين الكسب والمعاش يظهر جليّا من طبيعة توزيع وجوه المعاش بين المجتمعين، البدوي والحضري. والاعتماديّة التي بينهما0 ونحتاج لكشف هذا التنافس الى معيار قياسىّ مناسب، ولقد وجد ابن خلدون تعبيرا لهذا المعيار في مصطلح «الرزق» بمعنى الاستهلاك الحقيقي الذي تمّ فعلا صرفه وانقاقه على مصالح العبد وحاجاته0
الوجه الثالث هو الصنائع، والصناعة هي ملكة في امر عقلّي وفكرّي، اي لا بد للانسان من استخدام معارفه وافكاره للانشغال بها، ويقول ابن خلدون:
«اعلم ان اختلاف الاجيال في احوالهم انما هو باختلاف نحلتهم من المعاش فانّ اجتماعهم انما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي» (QI:220) ثمّ يستطرد قائلا «ثمّ اذا اتسعت احوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه ودعاهم ذلك الى السكون والدعة وتعاونوا في المزيد على الضرورة والانتهاء في الصنايع في الخروج من القوة الى الفعل الى غايتها» (QI:221)
والصنائع منها البسيط ومنها المركّب
«والبسيط هو الذي يختصّ بالضروريات والمركب هو الذي يكون للكماليات والمتقدّم منها في التعليم هو البسيط لبساطته ولانه يختص بالضروري الذي تتوفر الدواعي على نقله» (QII:306)
وبازدياد الانتقال والتخصص في الصنائع تتّسع الفجوة بين العمران البدوي والحضري
«وهؤلاء هم الحضر ومعناه الحاضرون اهل الامصار والبلدان ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنايع ومنهم من ينتحل التجارة وتكون مكاسبهم انما وارفه من اهل البدو لان احوالهم زايدة على الضروريّ ومعاشهم على نسبة وجدهم» (QI:222–221)
فالصناعات تكتمل بكمال العمران الحضري وكثرته0 والتناقض بين الضروري والكمالي هو اكثر الفوارق وضوحا بين العمرانيْن
«والسبب في ذلك ان الناس ما لم يستوف العمران الحضري وتتمدّن المدينة انما همهم في الضروري من المعاش وهو تحصيل الاقوات من الحنطة وغيرها فاذا تمدّنت المدينة وتزايدت فيها الاعمال ووفت بالضروري وزادت عليه صرف الزائد حينئذ الى الكمالات من المعاش» (QII:307)
وهذا الزائد ينتج عن نماء المكاسب لدى اهل الحضر اكثر منها لدى اهل البدو، مما يجعل اعتمادية العمران البدوي على العمران الحضري ماثلة الى حين0 وتُقاس حدة التناقض بين المجتمعين بحدّة الاعتماديّة، ويقول ابن خلدون:
«ان عمران البادية ناقص عن عمران الحواضر والامصار لان الامور الضرورية في العمران ليس كلها موجودا لاهل البدو وانما يوجد لديهم وفي مواطنهم امور الفلح وموادّها معدومة ومعظمها الصنايع وكذا الدراهم والدنانير مفقودة لديهم وانما بايديهم اعواضها من مغلّ الزراعة واعيان الحيوان او فضلاته مما يحتاج اليه اهل الامصار فيعوضونهم عنه بالدنانير والدراهم الا ان حاجاتهم الى الامصار في الضروريّ وحاجة اهل الامصار اليهم في الحاجيّ والكماليّ فهم محتاجون الى الامصار في الضروري بطبيعة وجودهم فما داموا في البادية ولم يحصل لهم ملك ولا استيلاء على الامصار فهم محتاجون الى اهلها ومتصرّفون في مصالحهم وطاعتهم متى دعوهم الى ذلك وطالبوهم به» (QI:277–276)
ان اعتمادية العمران البدوي على العمران الحضري تتصف في ظاهرها بالطابع الاقتصادي، ويكمن بي باطنها عامل سياسيّ هام لان البادية هي اصل الامصار وسكان البادية هم اهل العصبيّات الحيّة0
«وان لم يكن في المصر ملك فلا بدّ فيه من رئاسة ونوع استبداد من بعض اهله على الباقين والا انتقض عمرانه وذلك الرئيس يحملهم على طاعته والسعي في مصالحه اما طوعا ببذل المال لهم ثم يبيح لهم ما يحتاجون اليه من الضروريات في مصره فيستقيم عمرانهم وامّا كرها ان تمّت قدرته على ذلك ولو بالتضريب بينهم حتى يحصل له فريق منهم يغالب به الباقين فيضطرّ الاخرين الى طاعته بما يتوقعون لذلك من فسار عمرانهم وربّما لا يسعهم مفارقة تلك النواحي الى جهات اخرى لان كل النواحي والجهات معمور بالبدو الذين غلبوا عليها ومنعوها من غيرهم فلا يجد هولاء ملجأ الا طاعة المصر واهله فهم بالضرورة مغلوبون لاهل الامصار» (QI:677)
فاختيار هذه السياسة او تلك تجاه هذه الاعتمادية الاقتصادية والسياسية يتوقّف على الاهداف طويلة المدى التي يتطلع لها الرئيس تجاه ازدهار او فساد العمران0
الوجه الرابع هو العلوم، والعلوم مثلها مثل الصنائع، هي ايضا نتيجة الفكر الذي تميّز به الانسان عن غيره من الحيوانات، ويقول ابن خلدون بان «عالم الحوادث الفعليّة انهما يتمّ بالفكر» (QII;365) لذلك فان العلم يصبح من جملة الصنائع0
«وذلك ان الحذق في العلم واليقين فيه والاستيلاء عليه انمّا هو بحصول ملكة في الاحاطة بمادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من اصوله وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفنّ حاصلا وهذه الملكة هي غير الفهم والوعي لانا نجد فهم المسئلة الواحدة من الفن الواحد مشتركا بين من شدا في ذلك الفن ومن هو مبتدئ فيه وبين العامي الذي لم يحصل علما وبين العالم النحرير والملكة انما هي للعالم والشادي في الفنون دون من سواهما فدلّ على ان هذه الملكة غير الفهم» (QII:376)
فالعلم من اساسيات الصنائع واذا انقطع سند العلم عن منطقة انقطعت عنها ايضا الصنائع، والعكس الصحيح، لاعتماد بعضهم على بعض0
«واذا تقرر ذلك (فاعلم) ان سند العلم لهذا العهد قد كاد ان ينقطع عن اهل المغرب كلهم باختلال عمرانه وتناقص الدول فيه وما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها كا مرّ» (QII:377) وان «العلوم انما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة والسبب في ذلك ان تعليم العلم كما قلناه من جملة الصنائع وقد كنا قدّمنا ان الصنائع انما تكثر في الامصار وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة لانه امر زائد على المعاش» (QII:383)
فاذا استوجدت الصنائع نستطيع تعلّمها وحذقها بالفهم والوعي، فالعلم من جملة الصنائع، وتطور الصنائع يحدث بالعلم، فعلى رجال العلم اعطاء ارشاداتهم لرجال السياسة0 وكما قلنا سابقا فان العالم النحرير ليس بالطبيعة رجل سياسة والعكس الصحيح، ويقول ابن خلدون «ان العلماء من بين البشر ابعد عن السياسة ومذاهبها» (QIII:268)
ويحتاج رجال العلم الى معارف متعدّدة وكثيرة لحذق صناعاتهم، فيحتاج صاحب فن التاريخ مثلا:
«الى العلم بقواعد السياسة وطبايع الموجودات واختلاف الامم والبقاع والامصار في السيّر والاخلاق والعوايد والنحل والمذاهب وساير الاحوال والاحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغايب من الوفاق او بون ما بينهما من الخلاف وتعليل المتفق منه والمختلف والقيام على اصول الدول والممل ومبادئ ظهورها واسباب حدوثها ودواعي كونها واحوال القائمين بها واخبارهم حتى يكون مستوعبا لاسباب كل حادث واقفا على اصل كل خبر وحينئذ يعرض خبره المنقول على ما عنده من القواعد والاصول فان وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا والا زيفه واستغنى عنه» (QII:44–43)
ان المقوله اعلاه تتضمّن الكثير من خطوات منهج البحث الخلدوني الذي ذكرناها سابقا، وهي التي تتمثل في الافعال الثلاثة التي هي «العرض على الاصول» و«القياس بالشبيه» و«السبر بمعيار الحكمة، وبالوقوف على الطبائع، وبتحكيم النظر والبصيرة»0 فاستنباط تفاصيل الاصول الذاتية والعرضية، كما ذكرنا في مثال هطول الامطار، يليه تبويب وحصر المعلومات التي نتوصل اليها، ثم تحليلها. وفي حالة عالم التاريخ في المقولة اعلاه نجد ان معرفة تفاصيل الاصول الذاتية والعرضية ينتج عنه العلم بالقواعد والطبائع وباختلاف الاحوال والاحاطة والمماثلة والتعليل والقيام والاستيعاب الخ، وبما ان الاصول هي نقطة البداية يتحتم علينا ان نعود اليها مرة اخرى بعد الانتهاء من بحوثنا لكي نحكم بما نقبله وما نرفضه، وهذه الخطوة الختامية هي التي يسميها ابن خلدون «تحكيم النظر والبصيرة»0
ان احوال العمران الاربع السابق شرحها هي: الملك والكسب والصنائع والعلوم، وهذه تمثّل الاصول العرضيّة العمرانيّة، وهذا يعني بان الاصول العرضيّة تعتمد على ما يقترن به البحث، اي السياج الذي يتمّ البحث داخله، فالاحوال الاربع السابقة تختص بمحيط العمران، وتختلف من محيط الى اخر0 هذه الاحوال الاربع تمثل اهم مناطق البحث والتمحيص داخل سياج العمران وذلك لما تحمله من تناقضات هامه لتطور العمران او اندثاره: فالعصبيّة نقيضها الملك ومركبهما الجامع هو الملك العادل، والفائض المدمّر نقيضه المعاش ومركبهما الجامع هو الكسب العادل الذي يقود عادة الى نماء الصنائع وتجويدها وتوزيعها وبالتالي نشر العلوم وتقليل التناقض بين الضروري والكمالي وتخفيف حدّة اعتماد العمران البدوي على الحضري0
فاذا اخذنا بالمفاهيم الفلسفية للطريحة والنقيضة والجميعة (او الشئ ومُضاد الشئ ومركُب الاشياء)، فاننا سنجد بان الاخيرة، اي الجميعة في تطوّرها تصبح طريحة جديدة0 ولذلك عندما يستسلم المُلك مثلا للترف والانغماس في النعيم، تقوم العصبيّة من جديد لتصبح نقيضه وتسعى الي تبديله بملك آخر0
ويستطرد ابن خلدون حديثه عن الاحوال الاربع ليقول بان للانسان:
«في كل هذه الاحوال امود تحدث من حيث الاجتماع عروضا ذاتيا له فلا جرم ان انحصر الكلام في هذا الكتاب في ستة فصول (الاول) في العمران البشريّ على الجملة واصنافه وقسطه من الارض (الثاني) في العمران البدوي وذكر القبايل والامم الوحشيّة (الثالث) في الدول والخلافة والملك وذكر المراتب السلطانيّة (الرابع) في العمران الحضريّ والبلدان والامصار (الخامس) في الصنايع والمعاش والكسب ووجوهه (السادس) في العلوم واكتسابها وتعلّمها» (QII:68–67)
وليس هذا التخطيط عشوائيا، فابن خلدون يقول:
«وقدّمت العمران البدوي لانه سابق على جميعها كما يتبيّن لك بعد وكذا تقديم الملك على البلدان والامصار واما تقديم المعاش فلان المعاش ضروريّ طبيعيّ وتعلّم العلم كماليّ او حاجيّ والطبيعيّ اقدم من الكماليّ وجعلت الصنايع مع الكسب لانها منه ببعض الوجوه ومن حيث العمران كما يتبيّن بعد والله الموفّق» (QI:68)
فاذا كانت هذه الاحوال هي التي توضح خط سير العمران البشري
«فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الاخبار بالامكان والاستحالة ان ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران ونميز ما يلحقه من الاحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضا لا يعتدّ به وما لا يمكن ان يعرض له واذا فعلنا ذلك كان لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الاخبار والصدق والكذب بوجه برهانيّ لا مدخل للشك فيه» (QI:61)
وهنا تظهر اهميّة تحكيم الواقع وبها تكتمل قواعد او خطوات التحليل الخلدوني0 ونكرّر بان اولها العرض على الاصول، وثانيها القياس بالشبيه، وثالثها السبر بمعيار الحكمة واذا فعلنا ذلك تمكننا من الوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الاخبار0
«فاذا نظرنا اصل الشئ وجنسه وفصله ومقدار عظمته وقوته اجرينا الحكم في نسبة ذلك على احواله وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه» (QI:329)
فالنظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران يرتبط ايضا بعاملي المكان والزمان، فلننظر الى حتميّة التغيّر هذه0 فقانون التغيّر من القوانين الهامة التي اتت بها المقدمة، وفيه يقول ابن خلدون انه:
«(ومن الغلط الخفي في التاريخ) الذهول عن تبدّل الاحوال في الامم والاجيال بتبدل الاعصار ومرور الايام وهو داء دوي وشديد الخفاء اذ لا يقع الا بعد احقاب متطاولة فلا يكاد يتفطّن له الا الآحاد من اهل الخليقة وذلك ان احوال العالم والامم وعوايدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقرّ» (QI:44)
والتغيير هنا شامل وتدريجي، مستمر وتراكميّ0 شامل لانه يشمل كل اوجه العمران، تدريجي ومستمر وتراكميّ لانه لا يتفطّن له الا القلائل0 فالاختلاف:
«انما هو اختلاف على الايام والازمنة وانتقال من حال الى حال وكما يكون ذلك في الاشخاص والوقات والامصار فكذلك يقع في الآفاق والاقطار والازمنة والدول» (QI:44)
فالتغيير ظاهرة اجتماعية حيّة بالرغم من عدم تجسيدها للعيان، وبه تتبدّل الاحوال تدريجيا حتى المباينة بالجملة0 ويقول ابن خلدون، بالرجوع الى مصادره، بانه قد كانت في العالم امم كثيرة،
«وكانوا على احوال خاصّة بهم في دولهم وممالكهم وسياستهم وصنايعهم ولغاتهم واصطلاحاتهم وساير مشاركاتهم مع ابناء جنسهم واحوال اعتمادهم للعالم تشهد بها آثارهم» ثم جاءث من بعدهم امم اخري «فتبدّلت تلك الاحوال وانقلبت بها العوايد
الى ما يجانسها ويشابهها والى ما يباينها ويباعدها ثم جاء الاسلام بدولة مضر فانقلبت تلك الاحوال اجمع انقلابة اخرى وصارت الى ما اكثره متعارف لهذا العهد ياخذه الخلف عن السلف» (QI:45–44)
وهذه التغيّرات ادت الى ذهاب امم وانقلاب احوال وعوائد نسِي شأنها واغفل امرها والسبب نجده إما في الطبيعة الانسانيّة التي قلّما تتفادى الوقوع في المغالط، او في طبيعة الثقافات والعوائد الغازية، او في امور مخفيّة اخرى،
«والقياس والمحاكاة للانسان طبيعة معروفة ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذهول والغلط عن قصده وتعوج به عن مرامه» (QI:46)
فباثتثناء الكوارث الطبيعية، تتبدّل الاحوال، وفقا لابن خلدون، بعامليْي: بالانهزام والاستعمار من قوى خارجيّة، او بالتبدل الداخلي للاحوال0 فاستعمال القوّة يؤدي الى تغييرات واسعة وشاملة، وعصرنا يذخر بالامثلة في محاكاة عوائد وملابس واعتقادات المستعمِر على حساب العوائد الاصليّة والمتوارثة من جيل لجيل0 اما التبدّل الداخلي متمثله القوى الداخلية التي تقود التبدّل، ولهذا مخططونه ومنفذون يجمعهم ابن خلدون في مصطلح «اهل الملك والسلطان» فهو يقول بان:
«عوايد كل جيل تابعة لعوايد سلطانه كما يقال في الامثال الحكميّة الناس على دين الملك واهل الملك والسلطان اذا استولوا على الدولة والامر فلا بد وان ينزعوا الى عوايد من قبلهم وياخذون الكثير منها ولا يغفلون عوايد جيلهم مع ذلك فيقع في عوايد الدولة بعض المخالفة لعوايد الجيل الاول فاذا جاءت دولة اخرى من بعدهم ومزجت من عوايدهم وعوايدها خالفت ايضا بعض الشئ وكانت للاولى اشدّ مخالفة ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهي الى المباينة بالجملة فما دامت الامم والاجيال تتعاقب في الملك والسلطان لا تزال المخالقة في العوايد والاحوال واقعة» (QI:46–45) ولهذا السبب لا يتفطّن الانسان بسهولة لمسار التبدّل «فربّما يسمع السامع كثيرا من اخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغيّر الاحوال وانقلابها فيجريها لاول وهلة مع ما عرف ويقيسها بما شهد وقد يكون الفرق بينهما كثيرا فيقع في مهواة من الغلط» (QI:46)
خاتمة
العمران البشري يحتوي على مدلولات الاحوال المعاشة وتناقضاتها الاجتماعية التي نتجت عن دراسة مجتمعات بعينها، اما الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم فهو يحتوي على النظريات العامة، وهذه النظريات والمدلولات هي ما يسميها ابن خلدون طبائع وبراهين0
لقد اظهرنا في هذه المقالة بنية عمران العالم النظرية، وحصرنا نطاق العمران البشري، البدوي منه والحضري، وناقشنا احوال العمران الاربع بتناقضاتها، وشرحنا حتمية تبدّل الاحوال، ولكننا لم نقم بفك التناقضات كلية، فان حل تناقضات العمران يتطلّب ايضا فهم ديناميكية الاحوال داخل البنيات العمرانيّة المختلفة، اي ايجاد مركز القوى او «المفتاح» الذي يبدّل احوال العمران ويفك التناقضات0 فما دام للاجتماع المثمر نقيض لدود هو الفائض المدمّر فان «المفتاح العام» لفك هذا التناقض هو «العدل في قيَم الاعمال» كيفما يمارسه المركز0 وبما ان عمران العالم اشبه بالعمران البشري كالماء بالماء منه، فان فك تناقضات احوال العمران، وهي الاحوال التي تتعلّق بالملك والكسب والصنائع والعلوم، هي التي ستقود الى تطوّره وعدم اندثاره0
ان معرفة ابن خلدون بحياة البداوة مخابئ ضعفها وقوتها هي التي تجعله يبني تطوّر وتدهور العمران على تحركاتها0 فالبداوة اصل الحضارة وسابقة عليها، لذلك نجده يشرح لاهل الحضارة ما قد كانوا يجهلونه من مسار الاحوال لانغماسهم في اطوار الترف وتسلّقهم اياها بسلب الناس قيمهم حتى يأتي تدهور حضارتهم0 لذلك يقول ابن خلدون:
«وقد سبق لنا فيما سلف ان الكسب الذي يستفيه البشر انما هو قيم اعمالهم ولو قدر احد عاطلا عن العمل جملة لكان فاقد الكسب بالكليّة وعلي قدر عمله وشرفه بين الاعمال وحاجة الناس اليه يكون قدر قيمته وعلي قدر ذلك نمو كسبه او نقصانه» (QII:289) ويقول في مكان اخر «ان المكاسب انما هي قيم الاعمال فاذا كثرت الاعمال كثرث قيمتها بينهم فكثرت مكاسبهم ضرورة» (QII:235)
ان نظرية القيمة عند ابن خلدون بها مصطلحات عديدة مثل الضروري والكمالي، والمكاسب، والحاصل والمقتنى، والمكسوب والمتموّل، والمعاش والرزق، ،والرياش والذخيرة، والمفاد والمفاد المقتنى منه، والقنية، والكسب والربح، ورأس المال0 فاذا رجعنا الى ثنائية التعريف الخلدونية، لوجدنا ان المكاسب في ذاتها هي الحاصل والمقتنى لانهما يمثلان الرزق والكسب ويجسدان العمل الانساني عامة بما فيه من سعي واقتناء، واما المكاسب فيما تعرض من احوالها فهي المكسوب والمتموّل اي ماهية الاعمال المنتجة، او ما تؤول اليه هذه الاعمال من الصنائع ومن غير الصنائع، وبدخول المكسوب والمتموّل يدخل مصطلح المعاش، وهو اعمّ من مصطلح الرزق، ويشمل على وحدات الرزق الى حين استهلاكها، وينتج منه كذلك الرّياش والمتموّل، اي ما يجمع في شكل ثروة نقديّة او عينيّة0
فالمعاش والرياش والمتموّل نتاج اعمال انسانية معروفة المنشأ، ومقيّمة عينيا او نقديا0 ولكنه بما ان المعاش، وهو اهمها لحياة الانسان، قد يُقدّر في البداية تقديرا نظريّا، فان معرفة الرزق في شكل استهلاك حقيقي تمّ فعلا استهلاكه وانفاقه على مصالح العبد وحاجاته، يمكّننا من ايجاد ما يفيض من مقدار المعاش، وبالتالي نصل الى المكاسب الصافية، اي فائض المعاش، ثمّ الى مجموع الرّياش ومجموع الكسب0 وبما ان هذه الفوائض يمكن حسابها في شكل وحدات نقديّة وعينية، فاننا نحتاج فقط لكيفية تقييم هذه الاعمال الانسانيّة، او هذا الدخل العام بعد اقتطاع النفقات والاستهلاك0
فاذا كان هذا، فاننا نحتاج ايضا الى تجسيد العلاقة بين المنتِج والمستهلك، فالعلاقة في ذاتها علاقة تبادل، ولكنها فيما تعرض من احوالها فهي علاقة استفادة بدفع واستلام الاعواض، وهنا نقابل بين المنتِج والمستهلِك مصطلحيْ المِفاد والمِفاد المقتنى منه ومصطلح القنية، وبما ان العمل الانساني المنتِج من اهم ركائز نظرية القيمة الخلدونية، يصبح مصطلح القنية، ذاك المعيار المتغيّر والمتوقف على تبدّل احوال العمران، احسن معيارا لتقييم هذه المفادات، فالقنية لذلك هي القيمة التي تُدفع لتملّك هذا المفاد او الاستفادة منه، وهي ايضا قيمة العمل الانساني0 ونود ان نلفت نظر القارئ الى ان ابن خلدون لم يذكر في نظرية القيمة التي اتي بها مصطلح الربح، بل ينتظر به الى حين الحديث عن التجارة، ولقد تفادى مصطلح الرباء في كتاباته0
توجد اهم مصطلحات المقدّمة في عنوانها الاساسي وهو: «طبيعة العمران في الخليقة وما يعرض فيها من البدو والحضر والتغلب والكسب والمعاش والصنايع ونحوها وما لذلك من العلل والاسباب» (QI:56) وتناقش العناوين الفرعيّة المرتّبة تحت العنوان الاساسي هذه المصطلحات في صيغة نظريات وقوانين عامة او طبيعية، فاذا تمعنّا في هذه العناوين وترتيبها المنطقي، والتزمنا بصرح المصطلحات الدقيقة الذي بناه لنا المؤلف، ثم اعدنا قراءة مدخل المقدمة، اي الصفحات من ص QI:1 والى ص QI:55 لاستطعنا استخراج مدلولات الذات والعرض وترتيبيها باهميتها ونوعيتها، ثم فرز الطبائع والنظريات التي نتجت آنذاك من تطبيق هذه المدلولات على الواقع0 اذن فهناك منهج بحث خلدوني بخطواته وقواعده ونفترض بان عدم اكتشاف تفاصيله ربما يرجع لعدم اهتمامنا بمضمون المصطلحات الخلدونيّة ودقة تركيباتها0 يقول ابن خلدون «ان ما اضرّ بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التواليف واختلاف الاصطلاحات» (QIII:248) والسبب في ذلك هو ان لكل «امام من الائمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختصّ به شأن الصنايع كلها فدل على ان ذلك الاصطلاح ليس من العلم اذ لو كان لكان واحدا عند جميعهم» (QIII:377)
والله الموفق
د0 عبد المجيد العركي
جامعة اوسلو المهنية بالنرويج
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
/////////////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.