كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    الديوان الملكي السعودي: خادم الحرمين الشريفين يغادر المستشفى بعد استكمال الفحوصات الروتينية    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول مفهوم الدولة وأنواعها وتعاطى كل نوع مع القضايا المصيرية للسودان - الشريعة الإسلامية مثالاً (2-4) .. بقلم: حسين أحمد حسين
نشر في سودانيل يوم 22 - 01 - 2019

سيتناول هذا المبحث مفهوم الدولة المتعلق بتوصيف ما تقوم به من مهام، كما أنَّه يتطرق لأنواع الدولة؛ الدينية منها والعلمانية والمدنية. وسننظر فى ميراثنا من كل نوع، وكيف أجاب كل نوع على أسئلة السودان المصيرية خاصةً تلك المتعلقة بالشريعة الإسلامية؛ كونها أكثر قضايا السودان المصيرية حساسيةً في الشأن السوداني.
فالدولة بالمفهوم أعلاه هى: "حزمة الإجرآءات القانونية والمؤسسية المعبرة عن مجتمع بعينه، على بقعة أرض بعينها، بالكيفية التى تُكسبها إعترافاً دولياً وسيادةً على تلك البقعة من الأرض" (لنستحضر ولادة دولة الجنوب - رغم قيصريتها - حتى نتبيَّن تعريف الدولة).
هذا التعريف البسيط يخضع بالطبع لشروط التشكل الإقتصادى الإجتماعى التى تُفَسِّر لنا صيرورة الدولة ومسيرة نضجها منذ ولادة الحاجة إليها قبل نحو 10 ألف سنة حتى يوم النَّاس هذا؛ فالدولة قد بدأت ثيوقراطية/دينية، ثمَّ أصبحت علمانية بأنواعها المتعددة، ثمَّ وصلت في الوقت الراهن إلي مرحلة الدولة المدنية.
فالتعريف أعلاه يُمثل الشروط العلمية لإنجاز مهام الدولة فى أىِّ مكان، وعلى أىِّ دين/لا - دين كانت؛ لا يهم أنَّها في مكة المكرمة زادها اللهُ تشريفاً ورفعةً، ولا يهم أنَّها في موسكو زادها اللهُ بيريسترويكا وغلاسنوست.
كما أنَّ الدولة بهذا التعريف ليست معصومة من التعاطى مع معتقدات النَّاس. بل إنَّها تتأثر بمعتقدات شعبها وتؤثِّر فيها، فى إطارٍ من الجدل الحميم والمحتدم. ويجب ألاَّ يتوقع السياسى الناضج إجابة سهلة على عواقب إقحام الدين فى الدولة أو فصله عنها؛ فالمخاض طويل. والمهم فى كل ذلك هو أنْ تتعاطى الدولة مع معتقدات شعبها بالطريقة التى لا تخل مطلقاً بالحقوق الأساسية لكافة مواطنيها وأن تتعامل معهم على قدمِ المساواة.
ثانياً، الدولة العلمانية
إنَّ من نافلة القول أن نبيِّن للنَّاس بأنَّ أهل السودان كما كان لهم ميراثٌ مهم من الدولة الدينية (وعلى فكرة أهل السودان قد عرفوا التوحيد قبل نزول الأديان الثلاثة المعروفة: اليهودية، المسيحية والإسلام)، فهم أيضاً أصحاب ميراث عظيم فى فصل الدِّين عن الدولة (العلمانية)، بل هم الأسبق فى ممارسة التجربة العلمانية تاريخياً.
وليس ثمة عجب فى ذلك، فالدولة الكوشية هى أوَّل من عرِف الدولة بمعناها المؤسسى المتداول الآن، وهى أول دولة عظمى (Supreme Power) عرفتها الإنسانية. وقد إكتوتْ دولة كوش بتناقض الدولة بمعناها القطرى ومعناها الأمبراطورى، وبسلطة الملك الإله. وبالتالى قد أغنتها التجربة باكراً أنْ تكون أوّل الواصلين إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة.
أمَّا فى الوقت الراهن، فحينما تُذكر كلمةُ العلمانية أو العلمانى، تجد الإسلامويين قد تحسَّسَوا بنادقهم، دون أن يُدركوا ما معناها، ودون أن يكلِّفَ أحدُنا – نحنُ دعاتُها – نفسَهُ عناءَ شرحها للنَّاس وتبسيطها لهم، حتى صارت المعانى عندنا كلَّها أنصافاً وحمَّالةَ أوجه، وصارتْ بذلك لقمةً سائغةً للأيديولوجيا تُجيِّرُها أنَّى شاءت؛ والأيديولوجيا لا تُكافحُ بالأيديولوجيا المضادة، بل بالحقيقة.
فمن أكثر المفردات التى تُتَاجر بها سلطة الإنقاذ فى السودان هى مفردة العلمانية، ومن الأخطاء الشائعة المُتَعمَّدة مُتاجرةً، أنْ تصفَ شخصاً ما بأنَّه علمانى. فالعلمانية هى وصف للدولة لا للأشخاص، ولكن يحقُّ لنا أن نسمِّى الأشخاص الذين يُدافعون عن علمانية الدولة بدعاة الدولة العلمانية. خاصةً وأنَّ من بينِ دعاتها أُناسٌ متدينون غاية التَّديُّن، ونعتهم بالعلمانيين (أى المُبتعدين عن الدين) من قِبَل الإسلام السياسى مسألة غير دقيقة ومغروضة وتكفيرية وإقصائية فى نهاية التحليل.
العلمانية إصطلاحاً
العلمانية فى الإطار النظرى (وهى تكاد تكون غير موجودة فى الواقع، خاصةً بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي) تعنى إبعاد الدولة كليةً من التدخل فى شئون المؤسسات الدِّينية وعدم تبنى دِين بعينه ليكون الدين الرسمى للدولة. وتعنى أيضاً عدم التدخل البات للمؤسسات الدينية فى الشئون السياسية. إذاً، العلمانية هى مرتكز يقوم على فرضيتين: الأولى هى الفصل القاطع بين الدولة والمؤسسات الدينية، وعدم تدخل أىٍّ منهما فى شئون الآخر. والثانية هى مساواة جميع النَّاس - بمختلف أديانهم ومعتقداتهم - أمام القانون الذى لا يتأوَّل ديناً بعينه (National Secular Society - What is Secularism?).
مدخل للعلمانية وأنواعها
يذهب المصطلح تاريخياً فى رحلة مخاضات عديدة منذ ولادته فى الفلسفة اليونانية القديمة، غير أنَّ ثورة التنوير فى أوروبا قد أكسبته زخماً جديداً يمتد أثره إلى يومِ النَّاسِ هذا. وهذه الأُطروحة تُعنى بتطوُّر المصطلح المتناغم مع تطور التشكل الإقتصادى الإجتماعى وتطور القوى المنتجة فى المجتمعات المحددة كما أسلفنا.
فمثلاً عند قدماء اليونان، كل ما يُناقض/يُقابل السلطة الدينية يُسمى علمانى؛ وهذا اشتقاق مفاهيمى متعلق بالجماهير فى مقابل النخبة الدينية. أما عند العرب وبنى عمومتهم، فاشتقاق المصطلح إشتقاق لغوى؛ يعود لمفردة العِلْم؛ أى لكلِّ ما هو أرضى/دنيوى (وليس العلم بمعناه الحديث). وقد طوَّر الأنجُلوساكسونيون المفهوم من واقع تجارب مريرة مع السلطة الدينية حتى بلغنا بصيغته الحالية.
ولقد انطوت العلمانية منذ ولادتها الجديدة فى عصر التنوير حتى اليومِ على كثير من التحوير المناظر أو المغاير للتعريف الإصطلاحى أعلاه. فمثلاً، البريطانى جورج جاكوب هوليوك (1851) يرى فى العلمانية "نسقاً من الأخلاق مرتكزاً على الفعل العقلانى الرشيد، والنَّافع للجميع فى العالم الذى نتقاسم عيشه". والبعض من أمثال تشارلز برادْلاف - المنتقد اللدود لهوليوك - يرى فى العلمانية "إنتباذ اللاهوت، والرفض الصريح لوجود الإله وكلِّ ظاهرة لا يمكن التحقق من وجودها المادى". كما أنَّ البعض الأخر لا يرى العلمانية كمركّب أخلاقى ولا لاهوتى، ولكن يتصوَّرها كمركّب سياسى؛ بحسبان أنَّ العلمانية تركِّز بشكل شبه كامل على العلاقة بين الكنيسة والدولة (الدين والدولة).
وعلى عكس الإعتقاد السائد خاصةً فى ذهنية الإسلامويين، فإنَّ المفهوم السياسى والمفهوم الأخلاقى للعلمانية لايعنيان بالضرورة إرجاعهما لمجرد الفصل الحرفى بين الدين والدولة؛ والذى من الممكن أن يكون أحد خيارات البرنامج السياسى العلمانى والأخلاقى العلمانى. ولكن هناك وجوداً لإنواع أخرى للمفهوم تتراوح ما بين: علمانية تصالحية (Accomodationism)، علمانية معارضة لدعم الدولة للكنيسة (Disestablishmentarianism)، علمانية الحياد المطلق للدولة (Strict State (Neutrality، العلمانية الفرنسية (French laïcité)، والعلمانية اللا – أدرية (Non – cognizance) (وقائع مؤتمر العلمانية على المحك: جامعة جورج تاون/ فبراير 2013).
ووجب علينا أن نشير هنا إلى أنَّ الكثير من الدول قد إتخذت من العلمانية بتنوعها المذكور أعلاه فلسفةً للحكم. فالبعض نحا بها نحو المفهوم الإخلاقى (سمّاها نسقاً من الأخلاق)، لم يُسمِّها فى دساتيرِهِ، ولم يُسمِّ ديناً بعينه للدولة (كبريطانيا التى ليست لها دستوراً مكتوباً، ولكنَّ الملكة هى رأس الدولة ورأس الكنيسة). والبعض الأخر ذهب بالعلمانية مذهباً إلحادياً، يُنكر الإله ويحرِّم التعاطى مع الإديان (الإتحاد السوفياتى سابقاً)؛ وإنْ تعامل مع الإلحاد تعاملاً عقائدياً (كأنَّه دين). والكثير من الدول تبنَّى العلمانية السياسية؛ سمَّاها فى دساتيرِهِ، ولم يتبنَّ ديناً للدولةِ بعينه (أمريكا، كندا، فرنسا، كوريا الجنوبية، الهند، وإسرآئيل) ولكنَّها تعاطت مع الأديان بشكل أو آخر. كما أنَّ هناك دولاً تبنَّتْ العلمانية التصالحية وإن نّصَّتْ دساتيرُها على دينٍ بعينه للدولة (مالطا، اليونان، مصر) (راجع المرجع أعلاه، والموسوعة الحرة).
فالشاهد، ما من دولة إلاَّ وقد كان لها تماس مع الأديان، وحتى التى تبنَّتْ الإلحاد إتخذتْ منه ديناً. كما أنَّ العالم بسقوط العلمانية الإلحادية فى الإتحاد السوفياتى السابق، قد أصبح خالياً بالتمام من أى دولة علمانية إلحادية تناصب الدين العداء. وحينما نصبغ على الدول التى تبنَّتْ العلمانية السياسية صفتها الكالفينية، سنجد أنفسنا أمام عالم ليس فقط خالياً من الدول الإلحادية، بل هو فى غاية التَّدَيُّن؛ تديُّن سمته الشره فى التراكم الرأسمالي وليس اللِّحَى. وليس أدلَّ على ذلك من صعود الأحزاب اليمينية؛ المسيحية واليهودية والإسلامية إلى سِدة الحكم فى معظم بلاد العالم فى الثلاثة عقود المنصرمة.
العلمانية فى محك التشكُّل الإقتصادى الإجتماعى
من الواضح أنَّ المفاهيم تتطور بتطوُّر إحتياجات المجتمع؛ تلك المرتبطة بتطوُّر قواه المنتجة فى الواقع الذى يعيش فيه ذلك المجتمع. ومن المؤكّد فى وضعية إقتصاد مشاعى/عبودى؛ قائم على الجمع والإلتقاط، فإنَّ المجتمع لا يحتاج لِأكثر من واعظ دينى (ومن شاكله) لتنظيم حياة النَّاس؛ فكانت النخبة الدِّينية هى كلَّ ما تحتاجه مجتمعاتهم. أمَّا أنْ تكون النخبة الدينية هى كل ما نحتاج فى رأسمالية ما بعد الحداثة، فذلك أمرٌ لا يستقيم.
لا غروَ إذاً، أنَّ نرى فى اليونان القديمة - إمتداداً إلى أزمنة نمط الإنتاج الخراجى - أنَّ الشعبوى، أى كل ما يرتبط بالجماهير/الشعب يكون علمانياً مستحقراً فى مقابل الإكليروس (النخبة الدينية)؛ فكان العلمانيون/الجماهير يأتمرون/يُحكمون بأمر الإكليروس (صلاح نيوف: مفهوم الإكليروس والمثل الأعلى العلماني، إيلاف، 25 مايو 2007).
وظلَّ هؤلاء يسيطرون على مجتمعاتهم حتى ظهور الميركانتالية التى حاول الإكليروس مقاومتها بأبشع أنواع الحروب التى عرفتها الإنسانية - الحروب الصليبية. ولكن هيهات، فالتاريخ يذهب فى اتجاه واحد فقط، ولابد للتطوُّر من أن يشقَّ طريقه رغم أنف السيادة السابقة للأيديولوجى.
لقد قوّضتْ الرأسمالية الميركانتالية الإقطاع، واستُبْدِلَتْ نٌخبةٌ بِنُخبة، فحدد المجتمع البرجوازى إحتياجاته: سياسى/رأسمالى، عالم/إنتربرينير، وعامل/ماكينة. أما الإكليروس فاعتقلتهم طريقةُ تفكيرِهِم فى دور العبادة، حتى إشعارٍ آخر.
ومع علو كعب السياسى، أى علو سلطة الدولة على الأيديولوجيا الدينية، أبان الثورة الصناعية وانتشار الفكر الماركسى وابتخاس الديالكتيك الهيقيلى، بدأ النَّاسُ يبتعدون عن الدِّين، خاصةً عن الكاثوليكية الممعنة فى الزهد. ولو لا الإصلاحات التى أحدثها مارتن لوثر على البروتستانتينية؛ تلك التى رأى فيها ماكس فيبر إلهاماً عظيماً للرأسمالى (خاصةً البروتستانتينية - الكالفينية)، والتى جعلته عابداً مُتنسِّكاً وهو يُمعظم من أرباحه، لهجرَ النَّاسُ المسيحيةَ بالكلية.
وفى تلك الفترة، بدأت العلمانية السياسية، اللا - أدرية، والإلحادية تطغى بشكل واسع وسافر؛ أكثر من الأنواع الأخرى من العلمانية: كالأخلاقية/العلمانية البريطانية، التصالحية، علمانية الحياد المطلق للدولة. ولعلَّ العامل الذى شجعَ على انتشار هذه الأنواع من العلمانية هو تبنى السياسي (الدولة) لها، وانقسام العالم فى حالة من التنافس بين علمانية إلحادية تبناها الإتحاد السوفياتى ودول المعسكر الشرقى لِأكثر من 70 سنة، وعلمانية سياسية تبنتها دول المعسكر الغربى خاصة بعد إصلاحات مارتن لوثر.
وبالطبع استمرَّ هذا الوضع المحتدم من التنافس بين أنواع العلمانية المختلفة على أشَدِّهِ حتى سقوط الشيوعية عام 1989م، وعودة الأديان إلى البِيَعِ والكنائسِ والمساجدِ فى أوروبا الشرقية. وعند هذا الحد، أُسْتُبْدِلَ التواكل الشيوعى بالبروتستانتينية - الكالفينية النَّهِمة، التى بدأ معها تلاشى العلمانية الإلحادية (التى باتت توجد كمجرد احتمال)، وذيوع العلمانية السياسية والأنواع الأخرى من العلمانية: كالأخلاقية والتصالحية والعلمانية البريطانية، بين الذين اكتَوَوْا بجحيم الدولة العلمانية الإلحادية خاصةً فى شرق أوروبا ودول العالم الثالث.
ولقد أصبحتْ الرأسمالية العالمية على أيّامِنا هذى، أكثر شراهةً بتحوُّل العلمانى الروسى الملحد إلى علمانى سياسى يتنسَّكُ بالإمبريالية فى أوكرانيا وسوريا والعراق وربما السودان، كما تنسَّك من قبل فى أوروبا الغربية فى الشتآءات التى أعقبتْ البروسترويكا - خاصةً فى بداية الألفية الثالثة - حيث رفض الدُّب الروسى بيع الغاز لأوروبا الشرقية والغربية معاً بالطريقة القديمة المدعومة من قِبَله، وباعه لهم بسعر السوق التنافسى آنئذً، وعاجلاً غير آجل (Cash on delivery). وقد كادتْ أن تحدثَ كارثة إنسانية للدول الشرقية التى تغربنتْ حديثاً، لو لا دعم الإتحاد الأوروبى لها.
أيضاً، فإنَّ هذا العلمانى السياسي الجديد النَّهم، قد أملى على أوروبا الغربية شروطه حينما بادر بتسديد ديونه عليها فى 2006 عقب طفرات البترول والغاز والذهب، والبالغ قدرها، أى الديون، 400 مليار دولار. وفى البدء رفض الغرب تسديد الروس للديون دفعة واحدة (إذْ أنَّ خدمات تسديد الدين أهم من أصل الدين)، ولكنَّ الدب الروسى قال لهم: "هذه نقودكم، خذوها أو أتركوها للأبد". فاضطرتْ الدول الغربية لأخذها راغمة؛ وهكذا خرج هذا الدب الروسى من ربقة الديون للغرب الرأسمالى حتى إشعار آخر.
إذاً فلينتبه الضعفاء، فالرأسمالية العالمية بعلمانيتها السياسية وهى بهذا الشره الرأسمالي (وهى فى حالة عبادة قصوى بحسب معايير ماكس فيبر) لا تجد حرجاً فى تبنى أيِّ دين (It can accommodate religions) يضيفُ تجلياً وفتحاً رأسمالياً جديداً إلى النظام الرأسمالى العالمى. وهنا يسقط العجب فى شأن زواج المتعة بين الرأسمالية العالمية/العلمانية السياسية والأخوانوية الكالفينية فى مقابل الدِّين السلفى الذى تتبناه العروش العربية التى يعِدّها الغرب غير مواكبة لرأسمالية ما بعد الحداثة. بل إنَّ الأخوانوية أكثر شراهة من الرأسمالية الغربية نفسِها وذلك لعقليتها اللُّصة، ولكونها مستجدة نعمة، وتحسبُ أنّها تُحسِنُ صنعاً وِفْقَ ما تتعبَّد به من فقه الضرورة.
ولعلَّ الإرهاص بتمدد العلمانية السياسية على حساب العلمانية الإلحادية (روسيا لا تنتج للإستخدام فقط ولكنها وإنْ سمَّت نفسها إشتراكية فهى تنتج للتبادل مع العالم الرأسمالى. وفائض القيمة التبادلى هذا هو الذى عجل بالتحول إلى الرأسمالية كما يقول رودَنِشتاين رودِن وسمير أمين وبسام طيبى وغيرهما)، قد بَكَّرَ بظهور أول ثورة إسلامية فى العالم العربى والإسلامى حتى قبل سقوط الشيوعية بعشر سنوات؛ وهى ثورة الخُمينى على نظام الشاه، والتى سلَّحها الإتحاد السوفياتى من الألف إلى الياء، فى مقابل تسليح أمريكا لنظام الشاه.
فتلك الثورة الإسلامية، وذلك السقوط المدوى للشيوعية والتحوُّل للعلمانية السياسية، قد كانا ملهمين وكافيَيْن للعديد من الحركات والصحوات الإسلامية المتشبعة بالكالفينية (الجبهة الإسلامية القومية فى السودان مثالاً)، لتشعلها حرباً إنتهازيةً على العلمانية بوصفها كلها إلحادية بالرغم من وجود أنواع أخرى للعلمانية وهى ليست بالطبع إلحادية كما بيَّنا؛ والأهم من ذلك أنَّ هذا الحركات والصَحَوات الإسلامية تعلم ذلك. ولكنَّها راحت تَصِمُ بالكفر كلَّ من يتكلم عن العلمانية؛ حتى تلك التى تتبنَّى ديناً رسمياً للدولة (كمصر وغيرها).
هذا التحوُّل بالطبع يواكب جدلياً التحوُّل على مستوى التشكُّل الإقتصادى/الإجتماعى فى الأطراف، وهو هيمنة الإقتصادى مع اكتمال تمدد النظام الرأسمالى هناك، وبداية الإبتزاز غير المباشر للعمل (سياسى/رأسمالى، عالم/إنتربرينير، عامل/آلة). وسيظل الإقتصادى مهيمناً فى الأطراف، مصحوباً بهيمنة تدريجية للنظرى/للعلمى الذى هو فى الأصل قد ساد فى المركز منذ زمنٍ ليس بالقصير؛ حيث صار النَّاس يعتقدون فى العلم أكثر من إعتقادهم فى الأديان.
وقد حاولت الجبهة الإسلامية القومية جاهدة أنْ تُخرج تديُّن أهل السودان الصوفى من زهدِهِ، بزرع الروح البروتستانتينية الكالفينية فيه، وبالتالى إضفاء صفة العلمية على طريقة تديُّنها، وذلك بتدريب آلاف من كوادرها على حساب الشعب السودانى الذى سرقت تعليمه وصحته وحاربت خياراته العلمانية ومن يدعو لها. وعليه صار الأخوانوى متعلِّماً ومتديِّناً على الطريقة الكالفينية، ومن ثمَّ ما عاد يرى من حاجةٍ لعلمانية الغرب مع علمية الجبهة الإسلامية القومية ودولتها الدينية التى تعتقد فى العلم والدين معاً.
وبهذا السلوك باتَ من الواضح أنَّ الدولة الدينية ضيقة الصدر بمن هم ليسو على شاكلتها، وغير متصالحة مع الأقليات الدينية (ففصلتها، ببساطة لأنَّها لا تدعو إلى سبيل ربها بالحكمة والموعظة الحسنة)، وبغيضٌ لديها الحديث عن العلمانية ودعاتها. ورغم تعدد أنواع العلمانية وإنتفاء العلمانية الإلحادية من الوجود، إلاَّ أنَّ الدولة الدينية راحت تصمها كلها بالكفرِ إصراراً وترصدا ولحاجةٍ في نفسِ يعقوبها.
إذاً ما تفعله الدولة الدينية بالعلمانية باطلٌ أُريد به باطل، والغرض من كلِّ ذلك هو أنَّها تُريدُ أن تتأبَّدَ فى لحظتها التاريخية، بعيداً عن المنغِّصات. ولحسنِ حظ الدولة الدينية الأخوانوية (وسوء حظها فى المدى الطويل) أن العالم الغربى منذ سقوط الشيوعية وانحسار العلمانية الإلحادية ونبرها الأيديولوجى المُبْغِض/المُغالِب لكلِّ ما هو دينى، بدأ يبحث عن غريم للشيوعية؛ ولعلَّه قد وجده فى هذه الأخوانوية المنوط بها الآن تثوير التشكل الرأسمالى فى بعض الدول خاصةً الغنية بالموارد. الأمر الذى جعل صوت الأيديولوجيات الدينية يعلو من جديد، وجعل الأخوانوية تتغنَّى بمعزوفة مناصرة الغرب لها المؤقتة والغير محمودة العواقب. ويترافق مع ذلك تشدُّد دينى مسيحى ويهودى على مستوى الكوكب كما أسلفنا؛ نتج عنه صعود العديد من الأنظمة اليمينية المتشدِّدة فى أوروبا وإسرائيل (راجع مؤتمر العلمانية على المحك المذكور بعاليه).
والسؤال الذى يطرح نفسه: هل من قراءة فى مسطورات التاريخ والتشكل الإقتصادى الإجتماعى تُضفى على الدِّين الأهمية التاريخية التى يمرُّ بها الآن فى الشرق (وفى الغرب على نحوٍ ما) وفتنته بالمال والسلطان - حتى طُمِسَ جوهرُهُ بالفساد والدموية - خارج كونه البديل الغريم للشيوعية؟
والمحصلة، أنَّنا إذا أخذنا العلمانية فى الإطار النظرى: "منع الدين من التدخل فى شئون الدولة ومنع الدولة من التدخل فى الشئون الدينية بغرض مساواة جميع النَّاس أمام القانون، والتعاطى مع معتقداتهم بالطريقة التى لا تخل مطلقاً بحقوقهم الأساسية"، سنجد أنَّ جميع دول العالم تتخلَّف
عن هذا التعريف المثال بدرجات تعكس مدى تطور القوى المنتجة فى المجتمعات المختلفة؛ الأمر الذى يجعلها جميعاً دولاً دينيةً بالمِعيار النسبى. وقد شهدنا بعاليه دولاً أقرَّتْ العلمانية فى دساتيرها، لكنَّها لم تجد بُدَّاً من التعاطى مع الدين؛ وشهدنا دولاً أُخرى تبنَّتْ العلمانية الإلحادية (كعقيدة)، ثمَّ تركتها وتعاطت مع الدين عقب العام 1989م؛ وثمَّة دول أُخرى فى العالم وصلت حد تديُّن الدولة بصعود اليمين اليهودى/المسيحى والتيار الإسلاموى المتشدِّدَيْن.
ميراث أهل السودان من الدولة العلمانية
كما جاء فى (1-4)، فإنَّ الإله آمون المصرى كان يخوِّل الكهنة بالقتل المقدس، الذى بموجبه يُعزَلُ الملوك والحكام، وبه يُقتلون. غير أنَّ الملك أركامانى قد ثار على الإله آمون وتمرَّدَ عليه، وأجهز على كلِّ الكهنة الثيوقراطيين الذين كانوا يحتكرون لِأنفسِهم الحق المطلق فى التكلُّم بإسم الإله وتفسير وَحْيِهِ، وقام بتحريم قتل الملوك الطقوسى.
لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، بل إنَّ الملك أركامانى قام بفصل السلطتين الدينية والدنيوية التى كان يحتكرها الكهنة النَّبَتِيُّون، فآلت له سلطة الدنيا وعين لسلطة الدِّين الحارسة لدولته الإله الأسد أباداماك (بروفسير أسامة عبد الرحمن النور: مجلة أركامانى الإلكترونية).
كان ذلك أوَّل ميراث لِأهل السودان (إن لّم يكن للإنسانية جمعاء) من ممارسة فصل الدين عن الدولة، الذى أفرزه واقعٌ مهمٌّ هو إستحالة أن يكون لفردٍ/أو جماعةٍ ما، إحتكار تفسير الوحى الإلهى واحتكار الحديث بإسمِ الذات الإلهية غير الأنبياء المرسلين. وكل من يسعى لذلك من البشر بإدعاء معرفة (لم يتلقَّاها من الله خالصة كالأنبياء) بمراد اللهِ فى خلقِهِ من غير مؤسسات جماعية حرة، وديموقراطية ومؤسسات رقابية تُعاير إدِّعاءه، فإنَّه يُساهم فى إنحراف الدِّين عن لحظةِ الرحمة (كان هذا الأمرُ نبوةً ورحمة، وكائنٌ خلافةً ورحمة) بدرجةٍ أو بأُخرى؛ وَعِىَ ذلك أم لم يعِ.
ولم يقف على أىِّ حال ميراثنا كسودانيين من الإرث العلمانى عند تلك التجربة، فقد تلتها فترات أُخرى من فصل الدين عن الدولة ولو بدرجات متفاوتة ونسبية. وإذا تجاوزنا الرِّدة عن إرثنا العلمانى ما بين 550 - 1500م (فترة الممالك المسيحية: نوباتيا، المَقرَّة، عَلَوَة؛ حيث جمع ملوك النوبة المسيحية فى السودان بين سلطتى الدولة والدين من جديد)، فإننا نجد – مثلاً - أنَّ ملوك السلطنة الزرقاء، لم يجمعوا بين السلطتين السياسية والدينية بذات درجة الممالك المسيحية، حيث كان شيوخ الطرق الصوفية على رأس المؤسسة الدينية وكانوا أقرب وألْصَق بالجماهير منهم بالملوك (حيدر إبراهيم على: الإنتلجنسيا السودانية بين التقليد والحداثة: المستقبل العربى 1987م، تاج السر عثمان: الميدان، ديسمبر 2013).
ولعلَّ عدم وجود طبقة دينية متماهية فى السلطة والسلطان، قد مهَّدَ الطريق ليبتدع سلاطين السلطنة الزرقاء "ما - يشبه - الدستور – العلمانى" المعتمد على الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية (تاج السر عثمان، المرجع أعلاه). وكأنِّى بالشريعة هنا ترمز للمؤسسة الدينية، والأعراف المحلية ترمز للسلطة السياسية فى إطارين شبه مستقلين، لا يتدخل أحدهما فى شئون الأخر إلاَّ فى حدودٍ ضيقةٍ ومعروفة (كالأحوال الشخصية)، وربما كان تدخلاً حميداً ((Benign.
لقد إستمرَّ منوال العلمانية "الزرقاء" فى ظل الحكم التركى؛ ذلك المتداعى الزائل بظهور الميركانتالية وهيمنة السياسى على الأيديولوجى. وفي الحقيقة ما كانت تركيا "المريضة" آنئذٍ تهتم بالدِّين مقدار إهتمامها بحكمها المتهافِتْ والمحاولات اليائسة لتثبيته.
وفى هذا الأثناء حاول الأيديولوجى فى السودان الإنتصار لنفسه فى لحظة قاتلة من تاريخ التشكُّل الرأسمالى العالمى المهيمن (هيمنة الرأسمالية التجارية) متمثلاً فى الدولة المهدية التى كانت تسبح عكس التيار بكلِّ المقاييس. ولذلك لم تكن المهدية لتعيش طويلاً، فقد كانت مجرد فَوَاق صيرورة (Hiccup) فى ظل شراهة الرأسمالية الميركانتالية التى إكتسحت كل العالم.
هذا الواقع عجّل برحيل دولة المهدية الدينية بالطبع، وعودة العلمانية من جديد، متمظهرة فى الحكم الثنائى الإنجليزى المصرى فى السودان. واستُعيدَتْ/استُلهِمَتْ العلمانية الزرقاء من جديد، ولكن بشروط رأسمالية متجاوزة للميركانتالية. وهنا لم تعد السلطة الدينية ذات تأثير كبير فى المجتمع، إذا ما قارنَّاها بسلطة فئة التجار (الأجانب بخاصة والمحليين على وجهٍ عام) فى المرحلة الأولى من الإستعمار. بل إنَّ المستعمر بإيحاء من الرأسمالية المستبطنة للبروتستانتينية الكالفينية، قد قام بدعم الفئات الدينية فى الفترتين الثانية والثالثة من الإستعمار لتقوم هى الأخرى برسملة كل المجتمع السودانى نيابة عنه فيما بعد كما جاء آنفاً.
غير أنَّ تلك المجموعات الدينية (كما جاء بعاليه) ذات الخلفية الصوفية الزاهدة لم تلتقط الروح الكالفينية فى الرسملة، فراح يغذيها الإستعمار الجديد تثويراً بطموحات العسكريين النَّزقِة تحالفاً مع أُؤلئك التُجَّار، إلى أنْ أطبقتْ الفئات المتشبعة بالروح الكالفينية (الجبهة الإسلامية القومية)، فأسرفت فى الرسملة فوق ما تطمع الرأسمالية نفسُها ومؤسسات الدولية المعنية بالتمويل.
هذه الجبهة الإسلامية القومية الكالفينية عطْلتْ دستور السودان شبه العلمانى السودانوى المنحدر من كوش والسلطنة الزرقاء، واستبدلته بدستور المودودى وحسن البنا: "الحاكمية لله"، و "المستخلفة فيه" الجبهة الإسلامية القومية الكالفينية بإنقلاب عسكرى منذ أكثر من ربع قرن.
خاتمة
هل يستطيع العقل الإسلاموى أن يُثبتَ لنا وجود دولة علمانية واحدة بالمعنى الحرفي للعلمانية الإلحادية التى يتخوَّف منها بعد العام 1989م فى محك التشكل الإقتصادى الإجتماعى العالمى؛ أى خارج نطاق أيديولوجيته الدينية؟
والإجابة هى: أنَّ الإسلاموى يعى تماماً بعدم وجود العلمانية التى يتخوف منها فى كل العالم (العلمانية الإلحادية) منذ نهاية الحرب الباردة. ويعى بأنَّ الحزب الشيوعى السودانى كحزب متهم بالعلمانية لم يتبنَ مُطلقاً العلمانية الإلحادية منذ بواكير نشوءِهِ، وبذلك هى مسألة شخصية لمن يريد أن يعتنقها وليست بالرسمية داخل مؤسسة الحزب. وفى هذا الإطار الشخصى فإنَّ عدد الملحدين من أبناء الجبهة الإسلامية القومية (1200 ملحد "إسلاموي") يفوق عدد جميع الملحدين فى كل السودان؛ ناهيك عن عددهم بين أعضاء الحزب الشيوعي السوداني.
وبالطبع يعى الإسلاموى كلَّ ذلك، ولكنَّه يتخذ من العلمانية فزَّاعة أيديولوجية يستدر بها عطف النَّاس البسطاء ويُجيِّرُهُ لجهة تأبيد نظامه ولحظته التاريخية وسرقة هؤلاء النَّاس البسطاء (قال عضو البرلمان المستقل الطيب إبراهيم: إنَّ السودان ليس ببلد فقير، ولكن أفقره الشعب السوداني بسياساته). ومتى كان الشعب السودانى يصدر السياسات أيَّها العاطلون عن المواهب، العاطلون عن الوطن!
أقول ما أقول، وقد يكون بإمكان دولة العلمانية السياسية مساواة جميع النَّاس أمام القانون بمثولهم أمام قانون وضعى يُتّفق على تطبيقه على الجميع، ولكنَّه لن يرفع الحرج العَقَدى عمَّن يُريد تطبيق معتقداته على نفسه (عمَّن يُريد تطبيق الشريعة الأسلامية على نفسه) أفراداً أو أقليات/أغلبيات، مما يجعل الحقوق الأساسية لهؤلاء الأفراد والأقليات على المحك. وإذا كان بالإمكان لدولة العلمانية الإلحادية أنْ تتنزل فى أرض الواقع من جديد – وذلك خيارٌ محتمل كما أسلفنا – فكلُّ ما هو دينى سيكون على المحك وهو مصدر خوف كل المتدينين في السودان.
ونرجو أنْ تبتدع العلمانية السودانية حلولاً تُجيبُ بها على مثل هذه التساؤلات بشكل ديموقراطى غير متعسِّف، حتى لا ينفر منها المتدينون المدافعون عنها (الفكر الجمهورى مِثالاً)، أو يتخذونها شأناً مؤقَّتاً وحتى إشعار آخر.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
//////////////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.