منذ أمد بعيد نظمت الحضارة الانسانية الممارسات الطبية من خلال وضع ما يمكن ان نسميه دساتير للأخلاقيات، ويأتي أولها قسم ابقراط المعروف على نطاق واسع في القرن الخامس قبل الميلاد، ثم وصية صلاح الدين الكحال الحموي، هذا وقد طورت العديد من المجتمعات رموزًا ترشد الطبيب أخلاقياً، وبالتالي تحدد "الأخلاق المهنية"، أو ما يطلق عليه بلغة اليوم الاحتراف؛ وعلى الرغم من أن الاحتراف تم تعريفه وتدريسه في العديد من كليات الطب، إلا أن هذا التقليد لم يمارس لحماية الحقل من إساءة استغلال الطبيب له من خلال موقعه وفعله. وقسم ابقراط ووصية صلاح الدين هي مبادئ اخلاقية تتعلق بالمهن الصحية شاملة لقيم الدين، الفلسفة، الثقافة والعقائد على اعتبار ان هذه القيم هي منبع الأخلاق، وهى اخلاقيات لا يمكن حصرها بأي حال من الاحوال على جانب الممارسة الطبية فقط، وهي تشمل امور كثيرة تتعلق بالخدمة المقدمة والقيمة العادلة لها وحماية حقوق المريض، وأن لا تعامل الرعاية الصحية كأنها سلعة أو منتج الهدف منه الربح فقط؛ لكن نقول أن الطبيب (يبحث عن دخل)، فلا مشكلة في ذلك طالما ان نشاطه يتم وفق قيم ومبادئ واخلاقيات المهنة، ويقدم خدمة في بيئة السوق الحر؛ وهذه النظرة دافع عنها الاقتصاديون التحرريون امثال روبرت نوزك (Robert Nozick) وميلتون فريدمان (Milton Friedman) الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، حيث قال ميلتون أن المسؤولية الاجتماعية الوحيدة للشركات هي زيادة ارباحها بقدر ما لا يوجد خداع أو احتيال. اذا نظرنا الى خدمات الرعاية الصحية نجد فيها الطبيب مقدم خدمة والمريض مستهلك لتلك الخدمة، ايضا بناء المستشفيات وتطوير الخدمات الطبية وشركات التأمين الصحي وهى جزء من هذه النظرة الاقتصادية الخاصة؛ لكن هذا الفهم وصفه بيليغرينو (Edmund Pellegrino) بأنه تجسيد للرعاية الصحية، حيث اثيرت اسئلة مثل هل الرعاية الصحية سلعة مثلها مثل السلع التي تباع، وهل تتحكم اخلاقيات السوق في الرعاية الصحية، وقال بيليغرينو أن الرعاية الطبية ليست سلعة لأن السلعة التي تباع في العادة لا تمثل علاقة بين البائع والمشتري وهى علاقة عابرة، وهذا لا ينطبق على علاقة الرعاية الصحية وتفاعل الطبيب والمريض؛ ايضاً وصف السلعة بأنها ملكية خاصة اي ان البائع يملك ما يبيعه وهذا لا ينطبق على سيناريو الرعاية الصحية حيث لا يملك الطبيب كامل ما يبيعه بمعنى أن المعرفة الطبية تتكون في إطار عقد اجتماعي بين المجتمع بشكل عام والطبيب، وقال أنه من الأفضل وصف الرعاية الصحية على أنها تشتمل على علاقة ائتمانية تعمل لصالح مستخدمها أي المريض. دفعنا لهذه المقدمة بعض الممارسات السالبة، التي انتظمت حقل الرعاية الصحية في السودان، وهى ممارسات ذات اثر مادي وطبي على المريض وأهله، وسوف نورد هنا بعض الأمثلة الشائعة؛ مثل قدوم المريض لمقابلة طبيب محدد في مستشفى معين، ويدفع الرسم المقرر للمقابلة ويجلس منتظراً وعند السماح له بالدخول يجد طبيباً آخر غير الذى جاء من اجله، وهو دفع مقابل مادى لطبيب محدد (سلعة ان جاز التعبير)، واشبهه بما يعرف في العرف التجاري (I isn't as described )؛ وهو مبدأ يتعلق بحق المريض في العلم بنطاق الخدمة وتوفرها، ومن حق المريض على موظف الاستقبال اخطاره مسبقاً بعدم وجود الطبيب المعني. أيضاً نلاحظ وجود فواتير او اوراق ذات ترويسة تخص طبيب في مستشفى آخر أو معمل تحليل معين أو صيدلية، يتم تعبئتها بمعرفة الطبيب لصالح جهة اخرى دون استشارة المريض أو مرافقيه، وهذا الاسلوب يدفع المريض الى جهة معينة لإجراء الفحص المطلوب أو التحليل، أو لشراء دواء من صيدلية محددة، وهذه ممارسة قديمة وشائعة؛ واذا احسنا الظن ربما تكون ممارسة لأطباء يتمتعون بأخلاقيات مهنية وهدفهم الوصول الى تحليل ذو كفاءة لكن نقول يجب اخطار المريض بالسبب حتى يكون على دراية وعلم؛ كذلك هناك ظاهرة جد شائعة وهى عدم الالتزام بالمواعيد سواءً لمقابلة المرضى او لإجراء العمليات فكثيرا يأتي بعض الاطباء متأخراً عن الموعد بساعات ويتعلل بأنه كان في مستشفى أخر، ويفترض أن تكون الخدمة في مواعيدها حسب القيمة المدفوعة ومواعيد العيادة، كما يتم الغاء كثير من العمليات الجراحية ليس لأسباب طبية ولكن لأسباب اخرى لا علاقة للمريض بها؛ ايضاً هناك ظاهرة طلب تحاليل أو فحوصات فوق المعدل بهدف تشغيل قسم معين لزيادة الايرادات في المستشفى أو مساعدة عيادة صديق أو في اطار انشاء شراكات مع مستشفيات او عيادات اخرى لا دخل للمريض بها، او ان الطبيب قليل الدراية والخبرة؛ وفي كلا الحالتين هي تحاليل لا ضرورة لها في احيان، تستنزف موارد المريض واهله؛ وهناك ظاهرة عدم احالة المريض الى الطبيب الأكثر خبرة والمختص عندما تتجاوز حالة المريض قدرات الطبيب الأول المهنية لإبقاء المريض في عيادته او المستشفى الذى يتبع للطبيب؛ وهناك ظاهرة الاعلان عن مستوى خدمة يختلف تماما عن المستوى الفعلي للخدمة الطبية أو مكان اجراء الخدمة الطبية، او الاعلان عن وجود طبيب قادم من بلد ماء خاصة البلاد الاوربية دون الالتفاف الى قدراته المهنية حيث تجد معلومة البلد القادم منه تسبق المعلومات الاخرى، ومحاول اظهار هذه المعلومة على انها تشكل ميزة اضافية لقدرات الطبيب، ايضاً يدفع بعض الاطباء المريض الى شراء دواء بعينه ولا يقبل غيرها حيث يكون له مصلحة مع شركة الادوية في شكل تذاكر سفر او هدايا. هذه المقالة ليست للإساءة الى اطباء بلادي لكن لإلقاء الضوء على بعض الممارسات التي تضر بالمريض في ظل هذه الظروف الاقتصادية؛ فمن الواجب حماية حقوق المريض، وخاصة مع تزايد حالات الاعتداء على الاطباء التي نرفضها وندينها بشدة، لكن ربما لها مسببات يرتبط بعضها بما ذكرناه من ممارسات في الحقل الطبي. الانتباهة : 25/03/2019 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.