رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصورة والفيديو.. على أنغام أغنية (حبيب الروح من هواك مجروح) فتاة سودانية تثير ضجة واسعة بتقديمها فواصل من الرقص المثير وهي ترتدي (النقاب)    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    هل رضيت؟    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كنانة السكر .. بقلم: عباس أبوريدة
نشر في سودانيل يوم 01 - 04 - 2019

لم أكن راغبا ً في الإلتحاق بها ، فلم أسعى لمقابلة نائب مدير الشركة السيد "هيو" عندما جاء لكلية الهندسة بغية إستقطاب الخريجين الجدد منها ذلك العام .
ولكن إلحاح الأخ محمد عبد الرحمن الدومة -الذي لم يحضر المقابلا ت بسببب سفره للفاشر - أفلح في تغيير موقفي فذهبت معه لمكتب الشركة في العمارات لأقدم طلباً للسيد حمدنا الله وبعده طرنا أنا والدومة وعبد العظيم الحليو على متن طائرة الشركة الداكوتا حيث أجرينا المقابلة مع السيد كيلي والخبير فان فيك من شركة آركل الإستشارية في موقع الشركة في الصفية وتم إخطارنا بالقبول بعيد المقابلة . قضينا ليلة جميلة هناك وعدنا للخرطوم صباح اليوم التالي على متن الداكوتا نفسها لنشرع في الإعداد للرجوع لكنانة كنواة للمهندسين بالمصنع .
ما كنت بالطبع أعرف شيئا ً عن كنانة أو حنى مدينة كوستي سوى ما أسمعه من مراسلها عبد الساوي عبر برنامج الرياضة في إذاعة أم درمان ، وما أقرأه في الصحف عن مريخ كوستي وراعيه الوجيه منيب عبد ربه ، وكان أقصى حد بلغته مسيرتي جنوب الخرطوم لا يتجاوز الشجرة وسلاح المدرعات .
عدنا لكنانة أواخر شهر يونيو كمجموعة من المهندسين الجدد تنضم لمن سبقونا في الموقع وكان اكثرهم من الزراعيين من بقاع ٍ شتى من أهل السودان ومن غيرهم .
نزلنا كنانة وكان الوقت عصرا ً خريفيا ً منعشا ً ، كانت مساكننا تقوم على هضبة خرصانية متاخمة لمنطقة تحفها الأشجار وتبعد كمسافة قصيرة من مدرج المطار ، كانت في ما بدا لنا منطقة مراعي لقبائل تلك المنطقة التي إشتهرت بسلالة أبقار كنانة . المطر كان متواصلا ً ولكن ماإن تمسك السماء فلا تكاد تجد له أثرا ً ذلك أن الماء ينداح مع نزوله . كان مناسبا ً أن تكون في تلك المنطقة فنادق ومنتجعات خصوصا ً وهي ذات نسمات هواء عليلة وشمس ساطعة وحياة برية لا بأس بها .
كانت تلك المجموعة تضم من الخريجين الجدد :
من الهندسة الميكانيكية : جمال شوقي و محمد الخير صالح ويوسف أبوستة وعبد الماجد البشير وبكري محمد زروق
من الهندسة المدنية : عمر السيد والسماني إبراهيم مردس
أما الهندسة الكهربائية فكان منها عثمان عبدالله العدناني وإسماعيل أبوشورة ومحمد جعفر محمد من أبناء كوستي حي النصر وأحمد مبشر شرفي من أباء الجزيرة أبا .
وكنت أنا من خريجي الهندسة الكيميائية ومعي محمد عبد الرحمن الدومة وعبد العظيم الحليو والمريود محمد السني ( إبن الكريبة البار) ومحمد علي سليمان ومحمد تاج الدين وعبد الباسط البشير واحمد موسى رابح ومحمد أحمد عبد القادر وعلي السيد .
و من الكيميائيين وجدي يوسف غالي جودة الذي كانت عيني لا تخطؤه هو وتوأمه مجدي عندما كنت أسكن في داخلية بحر الجبل في البركس وكانا يمران من أمامها في طريقهم للمحاضرات ، كان تشابههم الشديد ودافاترهم الضخمة وسحنتهم المصرية ملفتة للأنظار ، كانت غرفتي تلاصق غرفة وجدي في المساكن الجاهزة في كنانة وكان لطيف المعشر ودمث الأخلاق ذو دعابة وثقافة واسعة ، علمت منه أن والده جاء للسودان من صعيد مصر معلما ً للغة العربية وتنقل بين العديد من مدن السودان من بينها كوستي الي عاد إليها الآن إبنه وجدي يجتر حبل الذكريات ويواصل ما انقطع إن وجد لذلك سبيلا .إستمرت علاقتي بوجدي عبر الرسائل أعواما ً عديدة بعد تركي العمل في كنانة .
كان الوحيد من بيننا من أبناء تلك المنطقة المهندس أحمد موسى رابح وتولى تعريفنا بأهل المنطقة من الصبحة ومن ساكنوهم حول موقع كنانة الذي كان يعرف بالصفية .
وكان قد سبقنا إلى هناك المهندس أبوعاقلة سليمان في قسم الهندسة المدنية مع فرانز بلوك وبيتر والمهندس محمد رحمة صابر مع الإستشاري هيوارد همفري .
في نهاية الإسبوع كان الموقع يخلو تماما ً من رفاقنا فقد كانوا كلهم من مناطق مجاورة حيث يقيم ذويهم في المنطقة وحولها في كوستي وربك وتندلتي وقري الجزيرة القريبة ، إلا أنا وعبد الماجد البشير و بكري محمد زروق إذ كانا ينحدران من منطقة بربر فقفزا سريعا ً من سفينة كنانة والتحقا بالسكة حديد في عطبرة . بقيت بعدهما لحين ولكن فكرة الرحيل لم تبارح ذهني خصوصا ً بعد ما وصلتني رسالة من المؤسسة العامة للبترول تفيد بقبولي وكان العرض جذابا ً مع تباشير الكشوفات النفطية الكبيرة لشركة شيفرون الأمريكية والتي وضعت السودان كدولة نفطية واعدة ، ولكن الأمر تعاظم بعد أن تفاجأت وانا اقرأ الصحف بإعلان من الأسرة تشكر المعزين في وفاة عمي الأكبر أحمد أبوريدة والذي كانت لي عنده مكانة ً خاصة ً. كان قد توفي قبل شهر ولم أسمع به لأن الموقع لم يكن به هواتف ولا بريد وكان اللا سلكي وسيلة الإتصال الوحيدة مع العالم الخارجي .
في ختام الإسبوع الأول ، زرت كوستي للمرة الأولى ، كان الجو خريفا ً وخريف كوستي له صرير وانزلاقات ووحل خاصة عند مدخل المدينة ، دخلتها وفي نفسي شيئ ٌ من قلق ٍ فلا الأمطار مما عهدناها ولا المزالق مما سمعنا عنه . دائما َ ما تكون المكتبات أول ما يسترعي إنتباهي في كل المدن التي زرتها ، فكنت ضيفا ً دائما ً على مكتبة مصطفى الفكي صالح في قلب المدينة ، فقد كانت تستأثر بمعظم وقتي في سوق كوستي واقتنيت منها كتيبات كثيرة أكثرها في الشعر والأدب المعاصر . كان يتوفر فيها ذخيرة وافرة من الإصدرارات الجديدة لأشهر دور النشر مثل دار العودة ومكتبة مدبولي كما كانت تعج بالعديد من أبناء المدينة نهارا ً وليلا ًومن مختلف الأعمار فقد كانت ملتقى المثقفين وهواة القراءة من أهل كوستي.
الجزيرة ابا وسرايا الإمام الهادي ومسجد الكون والجاسر استحوذت على إهتمامي عند أول زيارة ٍ للجزيرة بدعوة كريمة من المهندس شرفي ، زرت خلالها سرايا الإمام الهادي وتجولت في أرجائها وصليت الجمعة في مسجد الكون وواظبت على ذلك مرات عديدة .
وتحدثت - من حسن حظي - لمن شارك في الدفاع عن الجزيرة وأحد من شارك الإمام الهجرة إثرها .
كان لكبار إداريي الشركة ناديا ً خاصا ً به مسبح وملاعب وملحق به بقالة حديثة فيها أكثر ما أنتجته الأسواق الأوربية من السلع والتي تصل رأسا ً من نيروبي .
كما تم إفتتاح لبقية الموظفين ناديا ً كبيرا ً قرب منطقة الأسواق ، وحرصنا أنا وصديقي المهندس محمد أحمد عبداالقادر أن نعاود إصدار صحيفتنا الحائطية " ذات مرة " والتي كنا نتولى إصدارها في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم خلال سني الدراسة ، وكان ثالثنا في أسرة التحرير المهندس كمال أحمد محمد صالح الذي اختار السفر للجماهيرية العظمى وقتها .
لإعادة إصدار " ذات مرة " كان لزاما ً علينا الحصول على إذن كتابي من سكرتير الشئون الثقافية بالنادي وقتذاك الأستاذ ابراهيم السر الذي تفضل بالموافقة الفورية .
من ضمن أنشطة النادي ، قدمت قاضي كوستي المقيم في محاضرة عن الهجرة النبوية في ذكراها ، كنت وقتها أقرأ كتاب ميشيل هارت " الخالدون مائة أعظمهم محمد" الذي كانت تنشره في حلقات مجلة أكتوبر المصرية . استفدت بما أورده من أسباب جعلته يضع رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم على رأس قائمة الخالدين ، استفدت من ذلك في تقديمي للمحاضر والمحاضرة .
كما التقيت بالدكتور قلندر محافظ الخرطوم السابق والذي كان يشغل منصب المدير لمركز كنانة الطبي وعبد الرؤوف عربي وعبدالله حمدين من خبراء شئون الموظفين ومكي يوسف من أقطاب مدينة ربك وعثمان حسن كبير المساحين والأمين عباس من كبار المفتشين الزراعيين .
جاء إحتفال ذكرى الإستقلال في كنانة باهرا ً وباذخا ًفقد إستضاف نادي الموظفين فعاليات كبرى وكان الفنان محمد وردي على رأس القائمة كماجاءنا الشاعر كمال الجزولي والشاعر مبارك بشير والشاعر بشرى الفاضل ومعهم فرقة مسرحية قوامها طلاب وطالبات جامعة الخرطوم من كليات الصيدلة والعلوم والإقتصاد والآداب أدهشت بأدائها جمهور الحضور . ومن فرط إعجابه بالمكان فقد مدد الفنان وردي إقامته لأيام عديدة .
كان لكنانة قطارات بعرباتها وخط سكة حديد يربطها بكوستي ويتقل معداتها من بورتسودان ، وإدارة إطفاء وإدارة أسواق وشئون بلدية ومدارس ولكن لم يكن بها مسجدا ًجامعا ً ، ومن الطريف ان المسجد الذي كنا نصلي فيه الجمعة يسمى بمسجد الباكستانيين ، وبالسؤال عن ذلك عرفت أنه بناه مهندسي شركة باكستانية جاء ت لعمل الأعمال الكهربائية للمصنع فشيدوا ذلك المسجد على نفقتهم وكان عظيم المساحة ومبني بالمواد المحلية .
على غير ما عهدنا في العاصمة ، فقد كان التيار الكربائي مستقرا ً عبر مولدات خاصة بالمدينة ، كما أن المياه النقية عالية الجودة تتدفق بلا إنقطاع من المحطة الحديثة تحت إدارة خبير المياه الهادي آدم الذي كان له إسهامات في ضبط الجودة ورفع كفاءة معدات المعالجة .
"قراندمت" كان ميز الطعام بطابعه الغربي ونظام دخوله الصارم فقدكان متاحا ً لكبار الموظفين فقط ولكننا منحنا تصاريح بإستخدامه في الأسابيع الأولى لنا في الموقع ومع دخول شهر رمضان المبارك لم يكن هنا بد ا ً مما ليس منه بد كما قال العلامة طه حسين .
ظلم ذوي القربى بين ربك وكوستي،
كنت أرى المفارقة بين مدينتي عطبرة والدامر بادية للعيان والكثير يرى أن انهماإقتسمتا الموارد قسمة جائرة كما قال الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي في رأئعته "الليل" ، ولكني عنما رأيت كوستي وربك أدركت فعلا ً معنى القسمة الجائرة ، التشابه بين التوأمين هما إنهما على ضفتي نهر، عطبرة والدامر علي ضفتي نهر عطبرة وكوستي وربك على ضفتي النيل الأبيض ، كليهما يربطهما جسرا ً باليا ً خصص للقطارات فقط ثم أضيفت لجانبيه مسارات للسيارات والمشاة والأنعام ، لم أر ظلما ً وقع كالذي وقع على ربك من رصيفتها كوستي والتي نالت من هجاء الدكتور الواثق ما لم تنله عطبرة ولا ربك ولا الدامر.
لعل أقسى هجاء نالته الدامر ما جاء على لسان الشاعر توفيق صالح جبريل :
ألا يا دامر المجذوب لا أنت قرية ٌ
تبين بداوتها ولا أنت بندرُ
خرجنا قبيل الصبح منك وانت في
غلالة ظلماء ٍ فهل فيك من دروا
وصحبي فيهم باقر ٌ وقلندرُ
وما العيش إلا باقر ٌ وقلندرُ
إلي جنة في شاطئ النيل برَّة
تحوطها الأمواه إيان تنظر ُ
اما كوستي فقد كان هجاء الدكتور الواثق لها مرَّا ً مما أثار حفيظة أهلها فأقام بعضهم دعوى جنائية ضده ، مَثل َعلى إثرها أمام السلطات في قسم شرطة الخرطوم شمال ، ومن بعض أبياتها :
سُميتِ باسمِ غريبِ الدار نازِحها
ما كان كوستي على قدرٍ من الشَرَفِ
أورَثَها مِن طباعِ الرُومِ ألونةً
من الفسادِ تَراءتْ داخِلَ الغُرفِ
إنَّ الإمامَ الذي عَادُوا جزيرتَهُ
قد كانَ يَخشى على كوستي من التلَفِ
يخشى الزمان الذي قَدْ عادَ مُنقلباً
فكانَ يخشى عليهم غصةُ الأسفِ
أما تراني شددتُ الرحلَ مُنْصَرِفاً
أُحاذِرُ الناسَ في حِلي ومُنْصَرَفي
ربما لو زار الدكتور الواثق كنانة لأعجب بها وكتب فيها ما يخرجه من هجاء المدن إلى التغزل فيها والتودد إليها .
لم أكن أتوقع أن تكون مدينة ربك ( مجازا ً) بلا خدمات وعن يمينها مشروع عسلاية وعن شمالها مشروع كنانة وفي حضنها مصنع الأسنمت وعلى مشارفها إنشاءات جسر كوستي الجديد ، وفوق ذلك كله فهي معبر الذاهبين للجزيرة أبا معقل الأنصار والمقام تاريخي لإمامهم ، والمدخل لكبار الزعماء والسياسيين ومحبي إمام الأنصار وحوارييه ، ربك ليس بها شبكة مياه ولا كهرباء ، سوقها مؤقت وتحتل الشطر الأكبر منه تعريشات مؤقتة تكاد تعصف بها الرياح وتتساقط من سقوفها الأمطار في فصل الخريف ، لا منافسات ولا دور رياضة ولا أندية رياضية ولامستشفى ولا مدارس عليا.
ولأن المصنع كان في طور الإنشاء ، فقد تم إلحاقنا بالشركة المنفذة وهي البريطانية كبرنيل ، كانت فرصة لا تكررلإكتساب خبرا ت ٍ نادرة وجديدة . شهدت عملية بناء الخزانات الضخمة بملحقاتها وتجميع أوعية التبخير المتعددة المراحل وتوصيلها ببعضها البعض كما أتيح لي المشاركة في مراحل بناء نظام التحكم وتوصيا شبكة الأنابيب. كان العمل شاقا ً خاصة في شهر رمضان إذ كان يبدأ في السابعة صباحا ً ويستمر حتى الخامسة مساءا ً . علق في ذهني حوادث السقوط للعمال من أماكن مرتفعة بسبب عدم إلتزام البعض بإجراءات السلامة رغم وجود فريق متخصص يتابع على شئون السلامة مدار الساعة . اكثر الحوادث كانت بسبب الإجهاد وضعف التركيز وتجاهل الضوابط اللازمة لإتمام العمل .
صناعة السكر تحوي من العمليات الصناعية ما لا يتوفر في غيرها مثل المصافي الدوارة وعمليات البلورة وأجهزة الطرد المركزي ومعدات التجفيف وإزالة الألوان والتعبئة وإنتاج وتوزيع البخار والغليان تحت ضغط منخفض وحرارة منخفضة لتعزيز كفاءة الإنتاج .
"فان فيك" الذي كان يعمل مع الإستشاري شركة آركل الأمريكية ، قدم لنا محاضرات قيمة عن الصناعة الجديدة إحداها داخل إحدى المراجل البخارية تحت التشييد وكانت سانحة لا تكرر في تعلم تكنولوجيا التصنيع ليس من أفواه الخبراء فقط وإنما من داخل معداتها وأجهزتها .
إعتدنا رؤية خلاطات خرصانة شركة ماكل باين البريطانية تجوب الشوارع طيلة اليوم فقد كانت أعمال البناء في البيارات والمصنع تسابق الزمن ، كما كانت هناك كوكبة ً من مهندسي مؤسسة الري والحفريات لإنجاز البيارة الرابعة بعد أن فازوا بعقد تنفيذها .
فقد كانت العديد من الشركات الكبرى تعمل في الموقع منها تكنيب الفرنسية ومتسوبيشي اليابانية وكوبرنيل البريطانية ومايكل باين البريطانية كذلك وآركل الأمريكية وشركة كورية في الورش الميكانيكية.
موظفو كنانة كانوا من خبرات متفاوتة ومن فئات عمرية مختلفة ، ومن جنسيات عديدة ، جاءوا من بريطانيا وزامبيا وجنوب إفريقيا والهند وبنغلادش واليابان وألمانيا وفرنسا ، قابلت كثيرا ً من البريطانيين ممن عملوا في فترة ٍ سابقة بمشروع الجزيرة وكانوا سعداء بالعودة للسودان عبر بوابة كنانة . ومن الكفاءات الوطنية إستقطبت كنانة المهندس محمد البشير الوقيع مدير المشروع والذي كان قبلها على رأس مؤسسة السكر والتي يقع تحت إشرافها مصانع سكر الجنيد ة وسكر حلفا الجديدة وسكر سنار وسكر عسلاية ، كما جاءها عديدون من السكة حديد ومؤسسة الري والحفريات وشركة شل ومشروع الجزيرة وشركة شيفرون .
"Tell him this is cane!!!"
" أخبره هذا هو القصب !!! " عبارة لا أنساها وأذكرها كلما تحجج الناس بالإمكانيات لتبرير التقاعس عن إنجاز الأعمال . قصة هذه العبارة ، كما رواها لنا أحد كبار الزراعيين وقتها ، أن الشركة بعد أينعت قطاف قصب السكر في زهاء العشرين ألف فدان ، إستقدمت أحد مهندسي الري البريطانيين لدراسة الوضع ومن ثم تقديم توصاته ، ذهب ذلك الخبير مع مدير المشروع المهندس محمد البشير الوقيع ومدير الحقول الزراعية مستر بييرس ، وبعد جال الخبير ببصره يمنة ً ويسار ً إنتهى انه لا يجب أن يكون هناك قصب وذلك حسب ما هو متاح من الطاقة الكهربائية "there should be no cane at all!!"، فما كان من الخبير الزراعي مستر بييرس إلا ان رد مشيرا للقصب أمامه قائلا ً(!!!!!! tell him, this is cane).
أما السر في وجود المساحة الشاسعة من الزراعة رغم شح الكهراء فيرجع الفضل فيها لجهود المهندسين جمال شوقي والمهندس أحمد شرفي وتنسيقهما مع مهندسي الهيئة القومية للكهرباء بمدينة كوستي .
علمت من الإخوة في الأبحاث الزراعية أنهم إكتشفوا أن تربة المشروع تنقسم إلى قسمين : تربة النيل الأبيض و تربة النيل الأزرق ، لو تم ري تربة النيل الأبيض بماء النيل الأبيض لتحولت لصمغية في مدى عشرين عاما ً، ويحدث الشئ نفسه مع تربة النيل الأزرق إذا رويت بمياه النيل الأزرق ، لذلك شيدت كنانة محطات الضخ لترفع المياه لارتفاع اربعين مترا ً لتسقي تربة النيل الأزرق بمياه النيل الأبيض في المرحلة الأولى .
كان للعلم دورا ً مقدرا ً في نجاح المشروع ، كان إهتمام كنانة بالبحث العلمي كبيرا ً ، وكان ذلك دليلا ً على وضوح الرؤيا وصراحة الرسالة بالإستثمار في المستقبل ، فكان قسم الأبحاث من أوائل الأقسام التي أنشئت تحت إشراف الأسترالي "قلها" ومعه أبراهيم فقيري ونبيل ولفيف من الخبراء. فقد كانت رؤية كنانة أن تكون رائدة في تقديم المشورة في مجالات صناعة السكر المختلفة ، كانت تسعى لأن تكون بيت خبرة عالمي. إمتزجت فيها التنكلوجيا من مشارب شتى فكانت محطات الضخ من شركة اندريتزالنمساوية ونظام التحكم وأكثر المحركات من فرنسا وبريطانيا . أما اليابان فكانت حاضرة في المراجل البخارية من شركة متسوبيشي وكذلك التربينات البخارية الأربعة والتي كانت طاقتها خمسين ميجاوات تعادل حوالي ربع إنتاج خزان الرصيرص المصدر الرئيسي للكهرباء في السودان وقتئذ ٍ .
هكذا توفر لكنانة أحدث التقنيات من مصادرعديدة ، بعد أن كانت تقنيات بوكر وولف الألمانية السائدة في مصنعي الجنيد وحلفا الجديدة ، ثم جاءت تقنيات فليتشر و إستيوارت البريطانية في مصنعي سنار وعسلاية .
كانت كنانة بابا ً واسعا ً للإستثمار الأجنبي ودليلا ً ساطعا ً على الإدارة الفعالة والتي تمازج وقتها الخبرة الأجنبية المتخصصة مع الكفاءة السودانية الشابة الهدفة لمستقبل ٍ للوطن مشرق .
كانت مشروعا ً لتجمع سكاني كبير ، كان يتوقع لها أن تستوعب أكثر من مائة ألف ٍ من السكان ، أنظمة الري الحديثة والتصنيع فيها من شأنها أن تكون رافد ا ً للتعلم ومصدرا ً للإلهام ، كانت الغد الزاهر للسودان وبابا ً للإكتفاء الذاتي من سلعة الحاجة لها متزايدة وظروف انتاجها ليست في متناول الجميع ، صناعة السكر تشكل مدخلا ً لصناعات ٍ شتى منها العسل والورق ووقود السيارات وأنواع الحلوى والعلف الطبيعي .
كنت أراها نواة ً لحزام السكر الذي ذكره الخبير "فان فيك" مع سنار وعسلاية ولحق بهم مصنع ملوط الذي تعثر حتى بعد وصول معداته للموقع . كانت طاقة طحن القصب التصميمية تبلغ سبعة عشر ألف طن في اليوم تستلزم للقيام بها سبعة عشر ألف عامل ، كما كان الإنتاج المتوقع ثاثمائة وثلاثين ألطن في الموسم من السكر المكرر كان وقتها يفوق ضعف إنتاج مصانع السكر القائمة يحتاج نقلها لقطارين وباخرة يوميا ً، كما كان هناك مشروع لإنتاج الكحول من المولاس وكذلك الوقود من مخلفات القصب . في حين كانت الطاقة التصميمية القصوى لمصنعي عسلاية وسنار مائة وأربعين ألف طن في العام لكل ٍ منهما .
وجودي في كنانة أتاح لي فرصة التجوال بين مصانع السكر المختلفة ، قضيت فترة ً في سكر عسلاية وكان تحت الإنشاء وفترة ً أخرى في سكر سنار وثالثة في سكر حلفا الجديدة.
كما التحقت بمعهد السكر لدى إفتتاحه بكلية الهندسة بجامعة الخرطوم والذي تم إنشاؤه كهدية من حكومة ألمانيا ، كان في معيتي مهندسين من مصانع عسلاية والجنيد وحلفا وسنار وبالطبع زملاء من مصنع كنانة . كان البرنامج تحت إشراف خبير السكر الألماني البرفيسور ديليفير وشارك في المحاضرات أساتذة من كليات الهندسة والعلوم . كان من ضمن مشاركاتي فيه أن قدمت سمنارا عن إقتصاديات السكر في السودان شملت شئون السكر إنتاجا ً وإستيرادا ً وتوزيعا ً واستهلاكا ً وخططا ً مستقبلية ، كما قدمت عدة تقارير عن أبحاث شملت فترة التدريب العملي في مصنع سكر حلفا الجديدة .
فخر جديد للسودان كانت كنانة فقبلها كان السودان يرتب لكبار زواره زيارات لمشروع الجزيرة الذي لم يكن فخر السودان فحسب بل كان فخرا ً لكل إفريقيا والشرق الأوسط ، بعد أن أتت كنانة كانت محطة هامة لكبار زوار الوطن فهي مثال للإستثمار الناجح ونموذج للإستغلال الأمثل لموارد البلاد والتنمية المستقبلية .
قال خبير السكر الألماني البرفيسور ديليفير " لم يصرخ طفل في العالم من أجل الملح ، كل أطفال العالم يتهافتون على السكر" ، والسودان حباه الله بأنعم كثيرة من الأرض البكر والمياه الوفيرة والظروف المناخية المواتية والموقع الجغرافي الوسيط ، كل هذه تجعله في صدارة منتجي سكر القصب بل وسكر البنجر كما في الشقيقة مصر.
"إزرعوا المنطقة من الدويم إلى ملكال بقصب السكر وستحتكرون السكر في العالم " صاحب العبارة هو الخبير فان فيك من شركة آركل الإستشارية وقت كان كنانة في طور الإنشاء ، والحاجة للسكر تتزايد وتتناقص مصادر المياه ، وكانت الرؤيا بعيدة والآمال كبيرة . وإذا كانت النفوس ُ كبا را ً تعبت في مرادها الأجسام كما قال أبو الطيب المتنبي:
أين أزمعت أيهذا الهمام ُ *** نحن نبت الربى وأنت الغمام ُ
كل يوم ٍ لك احتمال ٌ جديد ٌ *** ومسير ٌ للمجد فيه مقام ُ
وإذا كانت النفوس كبارا ً *** تعبت في مرادها الأجسام ُ
كل عيش ٍ ما لم تطبه حِمام ُ *** كل شمس ٍ ما لم تكنها ظلام ُ
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.