كانت أبرار، ككل الفتيات المراهقات، معجبة بأبيها و ترى فيه الكمال. و كان هو على قدر المقام، و أهلاً لهذا التحدِّي... فما فكرت أبرار في شيء إلا و كانت بين يديها في اليوم التالي، و كأن أباها كان يقرأ أفكارها. و لكنها، لاحظت لفرط ذكائها، إن أباها ما عاد كفؤا بذات المنوال الذي كان عليه قبل شهور... فمثلاً تقلصت الجمع التي كان يرتاد فيها السوق من خمسة و أربع جمع شهريّا إلى اثنتين... فواحدة، كانت هي التي تقع في بداية الشهر... و انتبهت إلى أنه ما عاد يقرأ أفكارها كالسابق... و أنه بات يتأخر في تلبية ظلباتها، حتّى و إن صرَّحت بها... و أنه فارق عادته في أرسال محمد أخيها للبقالة، فصار يتكفّل هو بنفسه بمشوار البقالة بعد اليوم الخامس في الشهر، و حارت في تفسير ذلك، و لم تدُر ببالها الأسباب التي تدفع والدها بالذهاب بشحمه و لحمه للبقالة و عنده من الأولاد من يستطيعون أن يجلب له مياه المحيط، بوعاءٍ مخروم! لم يطف بخلدها، و لو للحظة، أن أباها كان يُفادي أبناءه تجربة الإستدانه و يجنبهم آداب الجرورة و ما تجلبه من مهانة، بل لم يكن لها أن تستوعب أن أباها يمكن أن يستدين. و ذات يومٍ، كثيف الغُيومِ... قصيرِ العُمر، شرع إسماعيل (صاحب البقالة في الرحيل)... و كان أن ترك أوراقاً و كراتين و أكياس و أغراض أخرى كثيرة بعد أن أكتمل رحيله عن المبني الذى كان يسع البقالة. و لَهى الأطفال و عبثُوا في مُخلفات البقالة، و أحضر مُحمَّد معه، من غنائم تلك المخلفات، كرّاس كانت ثلث أوراقه مستخدمة، و لكنه كان طامعا في الثُلثين! و أخذته منه أبرار على سبيل الفُضول... و بدأت تقلب أوراقه... وجدت أسماء أهل الحي، كلهم تقريباً، مكتوبة في الكرّاس، كل في صفحة على أنفراد، و كانت الصفحات مملؤة بالأرقام و المبالغ المالية التي كانت تفسرها الشروحات المقابلة لها و التي تحدد الأغراض التي تم شراؤها بالدين من إسماعيل... و فجاءة، و جدت الصفحة التي كانت تحمل اسم أبيها... عمر الإمام، و هالها أن يكون اسم والدها ضمن أسماء ناس الحي العاديين، بل و في أعلى صفحات دفتر الجرورة... فبكت! و في ذلك اليوم، عندما عاد أبوها من العمل، نظرت إليه فرأت، لأوّل مرّة، رأت فيه شخصاً جديداً، ليس له من صفات الكمال ما اعتقدت لسنوات، بل شخصاً عاديّاً يشبه جميع أهل الحي، و أدركت، في كشفٍ ربانيٍ مَهُول، أدركت كم ومدى معاناته: لا على تصريف أمور المعيشة فحسب، و لكن، لجعلها تبدو سهلة في أعين أسرته و أطفاله. فقد كان، هُنا: التحدي و كان، هُنا: الإنجاز... و لم تمهله حتى يطلب الماء، بطريقته المحببة: - أدوني شوية موية زرقا! و أسرعت، كصديقة يانعة هذه المرّة، نحو الثلاجة، لتصب له كوباً من الماء البارد القِراح، كان هو أعذب و أجمل ما دخل جوفه، منذ الصباح الباكر! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.