بالضرورة أن المسرح السياسي في السودان لابد أن يشهد تغييرا كبيرا بعد التوقيع علي الوثيقتين، حيث ينتقل من الشرعية الثورية التي تحاول فرض شروط التغيير السياسي و الاجتماعي بالآدوات الثورية، ألي الشرعية القائمة علي التوافق الوطني تأصيلا علي شروط الآتفاق بين الجانبين في الوثيقتين، الذي يلزم كل الحركة السياسية في السودان أن تتقيد به، و تتحاكم عليه، هذه النقلة سوف تصحبها تحديات جديدة، و التحديات ليست بالضرورة تشكل عائقا لعملية الانجاز، بل هي تتطلب أن يقدم الكل مخزونه من الطاقة و المعرفية و الثقافية و الإبداعية للتغلب علي هذه التحديات، خاصة أن طريق التغيير من الشمولية التي استمرت ثلاثة عقود طويل و معقدة تتداخل فيها السياسة و الاقتصاد و الاجتماعي و الثقافي، و القوى الحاملة مشعل التغيير سوف تواجه أن المجتمع الذي تريد تغييره رصيده ضعيف في تراكم الثقافة الديمقراطية، و هي تحتاج أن تؤسس قواعد جديدة لهذه الثقافة الديمقراطية تتطلب سعة الصدر و فتح العقل و كثير من الصبر، و كما قال محمد أحمد المحجوب أن مشاكل اليمقراطية تحتاج لمزيد من الديمقراطية، و في ذات الوقت يكون دور الطليعة هو الدور الذي يحدد مسار التحول الديمقراطي. و كما يقول برهان غليون " أن وظيفة المثقفين ليست شيئا آخر سوى وظيفة إنتاج المجتمع نفسه من حيث هو آلية تختص بجميع وتوحيد الأجزاء و العناصر التي يتألف منها، و بث الروح الروح الجمعية فيها و تحويلها بالتالي إلي كيان حي قادر علي الحركة و التنظيم و التحسين و الإصلاح" فالتغيير من أجل التحول الديمقراطي يعتمد للزخيرة المعرفية و الفكرية عند النخبة، خاصة أن الفكر يفتح أفاق جديدة، و أيضا يفتح ملفات عديدة تحتاج لحوار حولها. فالتحديات عنصر أساس لإشعال العقل الإنساني، و الشمولية قد عطلت العقل السوداني سنين عددا، باعتبار أن الشمولية مكثت في السودان أكثر من منصف قرن بعد الاستقلال، فكل ما يقول الشعب أنه تخلص من أمراضها تأتيه علل جديدة أصعب من سابقتها، و لكنها جميعا قد خلقت هذا التراكم الثقافي الشمولي في البلاد، الذي يتطلب تضافر الجهود لكل القوى الحية في المجتمع، المؤمنة بالتحول الديمقراطي. و كما قال المبعوث البريطاني للسودان روبرت فيبرويزر " أن الطريق للوصول إلي الدولة المدنية التي ينشدها الشعب السوداني لن يكون بدون التحديات" و أيضا قال المدير العام لإدارة شؤون أفريقيا و أمريكا اللاتينية بوزارة الخارجية الألمانية فيليب أكرمان " أن بلاده سوف تواصل دعم السودان و مساعدته علي تجاوز تحدياته و خاصة التحديات الاقتصادية " فالتحديات هي الباعث علي العمليات الإبداعية في المجتمع عندما تكون هناك بالفعل مؤسسات تستوعب الكفاءات و المبدعين في المجتمع، باعتبار هؤلاء هم القادرين أن ينتقلوا بالبلاد من مرحلة الركود إلي مرحلة التفاعل و النشاط الإيجابي. فالسياسة و التغلب علي التحديات لا يتم من خلال الشعارات، أنما من خلال الاجتهاد الفكري الذي يسبر عمق المشكل لكي يكتشف مسبباته، و أيضا يساعد علي فحص الآدوات المستخدمة في عملية التنفيذ و الانجاز و مدي فعاليتها و قدرتها علي مقابلة التحديات، فالشعب السوداني يمتلك كل هذه العقليات التي يحتاجها للعبور لبر الأمان. و التوقيع علي الوثيقتين من قبل الجانبين "قوى الحرية و التغيير و المجلس العسكري" سوف تشكل علي ضوئها هياكل السلطة الثلاث " السيادية و التنفيذية و التشريعية" و أيضا سوف تفرز مؤسسات جديدة تقوم علي قاعدة الاتفاق الموقع عليه لإنجاز مهام الفترة الانتقالية، لذلك تصبح المسؤولية تضامنية من قبل هياكل السلطة بعيدا عن عمليات التمييز و التشكيك و النفور التي كانت قائمة قبل التوقيع، باعتبار أن الفترة الانتقالية لا يمكن أن تحقق أهدافها إلا إذا كان هناك بالفعل تجانس و تفاهم بين القوى التي يقع علي عاتقها أنجاز هذه الفترة، و أي محاولة للتشاكس أو فرض الرآى علي الآخرين من أي جانب علي الآخرين سوف تضر بعملية الانجاز، لذلك يصبح دور الصحافة دورا ضروريا في عملية المتابعة و النقد و كشف أماكن الخلل و تجاوز القانون و الانحرافات التي يمكن أن تتم. كما يجب أن يلعب الإعلام الدور المناط أن يلعبه، ليس باعتباره مؤسسات حكومية يجب أن تتلقي توجيهاتها من قبل السلطة التنفيذية، و لكن باعتبارها مؤسسات رقابية تقدم خدمة إعلامية متكاملة، تنقل رسائل من الجانبين السلطة التنفيذية و الجماهير، و أيضا هي من الآدوات الفاعلة في عملية تقديم و تدفق المعلومات التي تساعد علي المتابعة و التحليل السياسي، لذلك تتطلب أجهزة الإعلام تغييرا شاملا في السياسات التي كانت سائدة في الفترة الشمولية، إلي سياسات جديدة تؤهلها أن تلعب هذا الدور بأقتدار. أن بداية الفترة الانتقالية هي من أصعب الفترات لأنها مطالبة أن تعمل في جانبين بشكل متوازي، الأول تفكيك الدولة العميقة و مراجعة كل القوانيين التي تتعارض مع عملية التغيير الديمقراطي و في ذات الوقت عملية بناء الدولة الديمقراطية، و هي فترة لا تعتمد فقط علي هياكل السلطة لوحدها أنما فترة محتاجة لكل طاقات دعاة الديمقراطية خاصة النخبة التى تشتغل بالفكر و الثقافة، باعتبار أن تفكيك الثقافة الشمولية في المجتمع لا تحتاج فقط لإجراءات إدارية أنما تحتاج إلي إنتاج ثقافي ديمقراطي لكي يحل محل الثقافة الشمولية. و أتساع دائرة الحرية و تعدد المواعين الديمقراطية يساعد علي تفجير الطاقات الإبداعية لكي تنداح علي كل ميادين النشاط الاجتماعي. و أيضا بالضرورة يتطلب ذلك تغييرا شاملا في مناهج التعليم من الأساس إلي ما فوق، بهدف تغيير طريقة التفكير عند التلميذ من طريقة الحفظ و التلقين إلي طريقة الفهم و التطبيق التي تتطلب الإجابة علي العديد من الأسئلة. أن تاريخ التوقيع علي الوثيقتين " الوثيقة السياسية و الدستورية" من قبل "قوى الحرية و التغيير و المجلس العسكري الانتقالي" هو تاريخ بناء الديمقراطية الرابعة في السودان، و التي دفع الشعب مهرها غاليا جدا بعدد الشهداء الذين أغتالتهم يد الغدر و سدنة الشمولية، و هي التي تأكد فيها أصرار الشعب السوداني علي مواصلة طريق التضحيات من أجل أن تكون هناك دولة مدنية ديمقراطية. ثورة ديسمبر كانت ثورة وعي جماهيري حقيقي صمد فيها الشعب صمودا بطوليا لكي يحقق عملية التحول الديمقراطي، هي ثورة استمرت أكثر من سبعة شهور متواصلة النضال لكي يحقق هذا الشعب أهدافه المطلوبة. و ليس تشكيل هياكل السلطة يعني نجاح عملية التحول الديمقراطي بل هي خطوة ضرورية في عملية التغيير و لكن الصمود في وجه تحديات عملية البناء الديمقراطي و الاقتصادي و إنتاج الثقافة الديمقراطية هو المطلوب من قبل الجميع و هذا لا يمنع تعدد المدارس الفكرية. نسأل الله حسن البصيرة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.