muneef babiker [[email protected]] بسم الله الرحمن الرحيم أشكر كثيراً للأخ الكريم / الأستاذ أسامة االبيتي تمريره رابط مساهمته القيّمة في رصد وتحليل بعض ما ورد في مطبوعات أديبنا الراحل العظيم الطيب صالح (عليه الرحمة والرضوان) والتي كانت عبارة عن مداخلة تعقيبية على ما ابتدره الأخ الأستاذ "عبد المنعم عجب الفيا" في مقاله الطليعي عن ذات الموضوع... واستسمح الأستاذ "عجب الفيا" قبل الخوض في تفاصيل هذه المداخلة أن أعلّق على طريقة رسم اسمه وذلك استيحاءً مما قام به الأستاذ أسامة من تصحيح لبعض ما ورد من كلمات عامية في بعض مقتبسات أديبنا الراحل وما لذلك من دلالات في المعاني، فقد خطر لي - وأرجو أن يصححني أحد الأستاذين إن أبعدت- أن في هذا الاسم الجميل : "عجب الفيا" شاهدٌ إضافيٌ على عمق وشيجة اللغة العامية السودانية العظيمة بأصلها اللغوي المقدس ذلك أن عجب الفيا ما هو إلا ملهوج سوداني لعجب الفئة التي ربما تعني أن المسمّى هو عجبٌ في فئته ببروزه عنها أو هو- بما له من جلائل الصفات- مثار إعجابها و مصدر فخرها وتيهها على قريناتها من الفئات، والتركيب في الأسماء من مثل هذا النوع كثير في العربية ووليدتها العامية السودانية "فزين العابدين" و "عشا البايتات" و "صقر البرزن" شواهد من بين كثيرات على ذلك، وعموماً إذا صدق ظني بنسبة هذا الاسم إلى هذا الأصل العربي فربما كان من الأوفق أن يكتب المضاف إلى عجب هكذا "الفيه" وليس "الفيا" للدلالة الأوضح على أصله الفصيح اللهم إلا إذا كان المقصود بالفيا الفيافي وتحورت بسبب الحذف كما جاء في قول الحار دلو "الشم –الشمس- خوخت وبردن ليالي الحرّة " وعلى كلّ مهما يكن الأمر فتحياتي للأخ "عجب الفيا" والذي طالما أعجبتني مساهماته وما أظن إلا أنها مثار إعجاب كثيرين غيري "شهادة حقيّة" بأنه قد ورث قسطاً وافراً من بركة اسم جده الكريم .... وعوداً على اجتهادات الراحل المقيم الطيب صالح أجد نفسي موافقاً لما ذهب إليه الأستاذ أسامة البيتي في أن هذا الكاتب الفحل ربما يكون قد أبعد النّجعة في بعض هذه الاجتهادات خصوصاً في كتابه "في صحبة المتنبي ورفاقه" ولعمري ما هذا بمنتقص من قدره الشريف خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أنّ الأسلوب المتّبع في هذا الكتاب أكثر تحرّرية حتى من التحرّرية التي تُميِّز نهج الطيب في كل –أو جل- كتاباته بما يعكس طابع روحه الكبيرة في اتسامها بالصراحة والانطلاق والصدق والعفوية وتساميها عن التزمت والتحجر والتمالس المصطنع، أضف لهذا أن مادة الكتاب المذكور قد كتبت كخواطر في أمكنة وأزمنة متحركة و متحررة عن قيود العادية والبروتوكول ....إذاً فقد كانت للكتاب ظروفه التي هيأته لأن يحوي آثاراً من جموح خيول الخيال الأدبي لدى كاتبه العظيم أكثر مما حوته رصيفاته ... و لأن الطيب صالح كان أديباً أريباً جمعي الوجدان متواضع الجنان دائم الغبطة بمسامرة الإخوان متنزهاً عن لوث مذاهب من يعتقدون بأنه لا تعقيب على قولهم فإن من الوفاء له تتبع كتاباته وإبداء الآراء حولها –كما فعل الأستاذان عبد المنعم و أسامة - ولولا أني أخشى عواقب الرجم بالغيب لقلت أنه ربما يجد لذلك ارتياحاً لا أقل عن الراحة التي وجدها المتنبي في انشغال النقاد والرواة واجتهادهم في أوجه تأويل قوافيه إذ ينام ملء جفونه "عن شواردها ويسهر الخلق جرّاها ويختصم".... لأن ذلك كذلك أجدني سعيداً جداً بما تفضل به الأستاذان من إبداء ملاحظات على ما رواه هذا الكاتب العظيم في كتبه "لا سيما في صحبة المتنبي ورفاقه" و قد شجعني سبقهما هذا على محاولة إشراك القراء الكرام في إبراز بعض ما لديّ من تعليقات على ما جاء في عدة مواضع من هذا السّفر القيِّم .... ويطيب لي أن أدلّل عليها بمثال واحد وهو ما قاله في معرض دفاعه عن كافور المسكين الذي طالما ظُلم من نقاد شعر المتنبي في إنكارهم أو تعجبهم واستنكارهم ،في عصبية فائحة النتن، لمدح المتنبي له مع تهويلهم وتمجيدهم لما هجاه به بعد... يقول المرحوم الطيب صالح تعليقاً على هذا البيت في هجاء كافور المسكين : جوعان يأكل من زادي ويمسكني لكي يقال عظيم القدر مقصود " ولعله أراد جوعان يأكل من زادي ويطعمني فليس ألأم من مضيف يطعم ضيفه من زاده- أي زاد الضيف-" ثم مضى أديبنا يسوق شواهد على صحة ما ذهب إليه يمكن مراجعتها هنالك ؛ وفي نظري أن هذا المذهب وإن كان سائغاً إلا أنه أقل بلاغةً ممّا قصده أبو الطيب إذ أنَّه قصد "يمسكني" عمداً وشواهد بلاغة يمسكني وقصد أبي الطيب استعمالها بالذات كثيرة واكتفي بقليل منها هنا مبتدئاً بما أظنُّ أنه أقواها وهو أن المتنبي بما عرف عنه من زهوٍ واعتدادٍ شديدٍ بنفسه ربما اعتقد بأنّ كافور الإخشيدي كان يمسكه لأن وجوده معه مكرمة له - أي لكافور –يجني بسببها المنافع الجمّة من ثبات ملكٍ ودرورِ رزقٍِ وهكذا يتمكن من السيطرة على قدر كبير من الموارد المالية والمادية تفوق كثيراً ما يوليه لأبي الطيب من رفد وإن عظم، وبالتالي ، كما يصور لأبي الطيب خياله، يصبح كافور "هو الطاعم الكاسي" من الزاد المتولد بسبب وجود المتنبي معه وليس العكس ؛ وهنا نجد أن جموح خيال المتنبي في اعتداده الزائد بنفسه يأخذه بعيداً في هذا الاتجاه إلى الدرجة التي قد يرى فيها أن ما يجنيه كافور من الفوائض الاقتصادية تدفعه إلى حبس المتنبي وإجباره للبقاء بجواره عسفاً وظلماً ؛ وأول شاهد على هذا المذهب نجده في عجز البيت نفسه "كي يقال عظيم القدر مقصود" ومما يعضِّد ذلك قول أبي الطيب: إني نزلت بكذابين ضيفهم عن القرى وعن الترحال مردود ولا التفاتَ هنا إلى ذكر منع القرى للاعتراض على إيراد هذا البيت كمعضِّد للفهم المذكور سالفاً وذلك لأن المقصود هنا ليس وجود أصل القرى فمن المعلوم أن كافوراً كان قد أقطع المتنبي داراً على النيل مهيبة مهيأة بما يوفر له عيشاً رغيداً مع ما يلزمها من توابع الرِّفد الأخرى، وما ذكر المتنبي لمنع القرى هنا إنكار لأصل وجوده وهذا مما لا يخفى بل هو شاهد إضافي على أن جموح طموحه ومبالغته في تقدير ذاته يدفعه إلى إزدراء ما بذل له من عطاء بحيث يجعله في نظره كلا شيء مقارنة بتوقعاته التي لا تكاد تعرف سقفاً ... هذا وقد أورد أديبنا الطيب في ديوان صحبته لأبي الطيب ورفاقه كثيراً من الشواهد على التصاق هذه السمة الاعتدادية بشخصية هذا الشاعر الفذ ومن هذه الشواهد البيت الذي قاله في مدح سيف الدولة الحمداني: شاعر المجد خدنه شاعر اللفظ كلانا ربُّ المعاني الدقاق فانظر كيف يسوّي المادح نفسه بالممدوح ، وأي ممدوح إنه سيف الدولة الذي استعظم أهل العصبية المنتنة على المتنبي أن يمدح كافوراً بعده ؛ فلعمرك إن كان هذا هو موقف المتنبي مع الأمير الذي يعتقد أنه مكافئ له في شرف النسب وعلو المحتد فكيف يكون نظره إلى كافور أفلا يستكثر عليه ملكه حتى يصوّر له وهمه أنه مالك هذا الملك -وإن لم يكنه- وأنّ كافوراً هو المملوك رغم أنه في الواقع الملك ؟!!. ومن أقوى الشواهد على اعتداد المتنبي المفرط بنفسه قوله : إليَّ لعمري قصدُ كلِّ عجيبةٍ كأنّي عجيبٌ في عيون العجائبِ ومن كان يظنُّ أنَّه مقصد العجائب فلا أقل من أن يتصور أن كافور مقصود لأجله وهو المقيم في نطاق ملكه المحمي بشوابك رماحه، لا سيما إذا علمنا ما استكن وانطوى في نفسه المتعاظمة من إزدراء عجز سخاء كافور الجزيل عن استلاله.... رحم الله الطيب صالح فها نحن نقتات من "عيش مطاميره" الأدبية ما يقيم أودنا ويميرنا بل ويمرينا في هذه السنين العجاف المتطاولة الامتداد كأنها صحراء التيجاني يوسف بشير الصيهود وما ينتقص من عظم منته علينا ما يصادفنا من "سويدة" نادرة هنا وهناك فما توجد "السويدات" إلا في العيش الكثير الوفير. منيف عبد الباقي بابكر (د.)