في تذكر الراحل العظيم الأديب الفذ الأستاذ الطيب صالح طيب الله ثراه *** [email protected] ماذا نَكْتُبُ بَعدَ رحيلِك يامَرْيودْ (2)؟ جَفَّتْ صفحاتُ الأدبِ الراقي رُفعِت كلُّ الأقلامْ واندثرَتْ كلُّ الأَحلامْ مِنْ أينَ لنا بالصَّبرِ لنجتازَ بحارَ الحُزْنِ وصحراءَ الظُّلُماتْ؟ مِنْ أينَ لنا بنَفيسِ الكلماتْ؟ لنُحدَّثَ عن "دُخْرِى الحوباتْ (3)" مريودْ "عَشا البَايْتَاتْ" هَرمٌ كانتْ عُدَّتُه الكلماتْ كانت تَعْشَقُه الكلماتْ تَتَبَرَّكُ فوقَ أنامِلِه في أدبٍ واستحياءْ تَنْثالُ خيالاً خِصْباً ونَماءْ تَتَفَّتحُ مِثْلَ شُجيْراتِ الياسمينْ حُبْلَى بأناشِيد البُسطاءْ وترانِيم المحرومينْ تَدْعوهُمْ من حالاتِ الصَّمْتِ وأوْديةِ النَّسيانْ إلى حالِ الوَعْي بأنَّ الإِنسانَ هُوَ الإنسان أيّاً كانَ وأَنَّي كانْ ويْحي يا مريودْ ... هذي قِيَمٌ كانت نَهْجَكَ في كلَّ الأزمانْ ناديتَ بها ضدَّ الظُّلمِ وضدَّ اللُّؤْمِ وضِدَّ الطغيَانْ ناديتَ بها ضدَّ الفَقْرِ وضدَّ القَهْرِ وضدَّ الحِرْمانْ ناديتَ بها ضدَّ العُنْفِ وضدَّ السُّخْفِ وضدَّ الهَذَيانْ ... من أجل البشريَّةِ جَمْعاءْ ... ليَعُمَّ العالمَ أمنٌ وسلامٌ وإخاءْ *** ماذا نَكْتُبُ بَعْدَ رحيلِك يا مرْيُودْ؟ غَيرَ عباراتٍ صادقةٍ في حَقَّ صديقٍ شَهْمَ وَوَدُودْ كان عزِيزَ النَّفْسِ ... عَفيفَ لسانْ ... ورقيقَ جَنَانْ ... وفصيحَ بَيَانْ ... قبساً مِنْ فَيْضِ الرحمنْ رجلاً في قامةِ أُمَّة ... يَسْعى بَيْنَ الناسٍ بروحِ الأُمَّة ويُضيءُ سِراجاً وهَّاجاً في الظُّلْمَة لا يَخْشَى في الحقَّ لَوْمَةَ لائمْ كان شجاعاً لا يُرْهبُهُ اللَّيْلْ ولا جَلَبَاتُ الخَيْلْ كان كريماً سَبَّاقاً لِلْخَيْرْ ... تَهَبُ يُمْنَاهُ ما لا تَعْلَمُ يُسْراه كانَ رَحيماً يَصِلُ الأَرْحَامَ ويَحْتَضِنُ الأَيتامْ كان يقول بأَنَّ مَتاعَ الدنيا أَتْفَهُ مِنْ أَنْ يَخْتَصِمَ الناسُ عَلَيْهِ وأنَّ الحاكمَ ذا الوَجْهَينِ لا يُرْجَى خَيْرٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ *** شَيْخِي وصفيَّي مَرْيودْ ... ما أنبلَ وُدَّكْ ... ما أعمقَ زُهْدِكْ ... ما أصْدَقَ وعدِكْ ... ما أَقْسَى فَقْدِكْ ... مَنْ ذَا يَحْمِلُ راياتِ الفِكْرِ الثاقِبِ مِنْ بَعْدِكْ؟ ها أَنْتَ رحَلْتَ .... وتركْتَ وراءَكَ هذا الإِرْثَ الرائعْ هذا العِطْرَ المنَثورْ أدباً مغزْولاً بحروفٍ مِن نُورْ معجوناً بمدائحِ أَهْلِ اللهِ وأنْغَامِ الطَّنْبُورْ يَتَدلَّى مِن عَيْنٍ في شُرُفاتِ الفِرْدوسْ تماماً مِثْلَ عُيونِ النيلْ مَشْحوناً بِتَراتيلِ الحلاَّجِ وأنْفَاس إبنِ العَرَبي وعبير الطّبقاتْ (4) *** هذا الأرْثُ الرائعُ باقٍ ما بَقِيتْ في الكونِ شمسٌ تَسْطَعْ أو نَجْمٌ يَطْلَعْ أَوْ صَلواتٌ تٌرْفَعْ أَوْ آذانٌ تَسْمَعْ وسَتَبْقى ذِكْراكَ هُنَا يا مَرْيُودْ نوراً يهدي عُشَّاقَك في كلَّ الأزمانْ في كُلَّ بقاعِ الأرضْ ... في وطنٍ أفْنَيْتَ العُمْر تُدافِعُ عَنْهُ في شَمَمٍ وإِبَاءْ واليوم تركتَ الساحة إلى جناتِ الخُلْدِ بينَ الشهداءْ يرحمُكَ اللهُ يا مريودْ ... يرحمك الله ... ولا نامتْ عينُ الجُبَنَاءْ. البحرين في 25 فبراير 2009 حاشية: "عشا البايْتَات" وهي على حذف مضاف بمعنى "مَدَبَّرُ عَشَا البَايْتَاتْ" أَيْ الرجل الذي يتولى رعاية النساء المُعدَمَات البائتات على الطوى وهو لقب أحد الشخصيات في رواية "مريود" – " "سعيد عشا البايتات القَوَى". كلمة مَرْيودْ عند السودانيين تعنى الشخص المحبوب وهي من كلمة أرادَ يُريدُ. وكان أصدقاءُ الطيب المقربون ينادونه بمريود تعبيراً عن محبتهم له. وأَظنُّ أنّ أولَ من ناداه بذلك هو الفنان السوداني التشكيلي الكبير الأستاذ إبراهيم الصلحي. ومريود هو عنوان رواية الطيب المشهورة وبطلها يدعى مريود كما كانت تدعوه حبيبته "مريوم" تصغير "مريم". دُخْرِى الحوباتْ: الدَّخْري هو الشخص المُدَّخر الذي يمكن اللجوء إليه في ظروف الشدة والِمحَن. والحوباتْ جمع حُوبة وتَعْنى عند السودانيين اللحظة المواتية للإنسان الموثوق به لينجز مهمة خطيرة وعسيرة. الطبقات إشارة إلى كتاب الطبقات للفقيه العالم وَدْ ضيف الله شيخ المؤرخين السوادنيين.