ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصورة والفيديو.. على أنغام أغنية (حبيب الروح من هواك مجروح) فتاة سودانية تثير ضجة واسعة بتقديمها فواصل من الرقص المثير وهي ترتدي (النقاب)    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    هل رضيت؟    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عرضان لكتاب "عبيد الحظ / الثروة وحرب النهر، 1896 – 1898م" .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
نشر في سودانيل يوم 17 - 10 - 2019

عرضان لكتاب "عبيد الحظ / الثروة وحرب النهر، 1896 – 1898م"
((Slaves of Fortune and the River War, 1896 -1898
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذان عرضان لكتاب "عبيد الحظ / الثروة وحرب النهر، 1896 – 1898م" بقلم الأمريكي ستيفن ميلر (أستاذ التاريخ بجامعة ميرلاند الأمريكية)، والفرنسية إلينا فيزاديني (الباحثة في معهد الدراسات الإفريقية بفرنسا). والكتاب من تأليف رونالد م. لاموث (أستاذ التاريخ بجامعة وسيلي الأمريكية)، وقد صدر في نوفمبر من عام 2011م عن دار نشر جيمس كري وآخرين.
خصص المؤلف كتابه كما قال، ليس لتاريخ حرب النهر من وجهة النظر البريطانية، بل من وجهة نظر جنود الخط الأمامي من السودانيين العاملين في الجيش المصري من الذين وصفوا بأنهم استخدموا بحسبانهم "مجندين، ومترجمين، وسفراء عرقيين" خلال تلك الحرب، وكانوا هم "المنتصرون الحقيقيون في معركة كرري". ويحاول المؤلف في هذا الكتاب إعادة كتابة التاريخ السوداني من وجهة نظر مغايرة بقوله إن الجنود السودانيين الذين شاركوا في حملة "استعادة" بلادهم هم "كائنات اجتماعية" و"ممثلون تاريخيون" ساهموا في تغيير واقع وتاريخ ومستقبل أوربا وأفريقيا، تماما كما تغيرت حياتهم بواسطة القوى الاستعمارية الغربية. ويشير المؤلف في كتابه لفكرة "الرق العسكري" في تلك الحرب.
نشر العرض الأول في العدد الثالث والخمسين من مجلة التاريخ الإفريقي J. Afr. Hist الصادرة في عام 2012م. ونشر العرض الثاني للكتاب في عام 2013م بالعدد الثاني العشرين من مجلة Digest of Middle East Studies
المترجم
****** ***** ******
العرض الأول
يبقى كتاب ونستون تشرشل "حرب النهر" بالنسبة لغالب عامة القراء، ولقليل من المؤرخين، هو الكتاب العُمْدَة في شأن الحملة التي شنتها بريطانيا العظمى في السودان ضد قوات الخليفة عبد الله في 1898م. وكان ونستون شيرشل، ذلك الشاب اليافع عديم الخبرة قد انضم لحملة كتشنر آملا في أن يكتسب شهرة في أوساط الجيش البريطاني كضابط صغير في رتبة ملازم، وكمراسل حربي للصحيفة المحافظة "مورنق بوست Morning Post". وكان يؤمل أيضا في جمع مادة كتاب يمكن له بيعه لعموم الجمهور البريطاني المتعطش لقصص البطولات والأعمال الخارقة في البلدان (الاستوائية) النائية. وأتاح النصر في أم درمان لتشرشل الحصول على التفاصيل الحقيقية لتلك المعركة، وهي ما استفاد منه لاحقا روائيون مثل جي. أ. هنتي وأتش. وآر. هاقارد في تصوير أفعال الجنود البطولية الجسورة، مثل الهجوم العظيم الذي شنته الفرقة 21 لانسر، والمقاومة الباسلة الشرسة التي أبداها "الدراويش". وتوصل تشرشل في الختام إلى أن الحضارة و"أسلحة العلم" قد دمرت "البرابرة".
وأعاد رونالد م. لاموث في كتابه المعنون (عبيد الحظ / الثروة وحرب النهر، 1896 – 1898م) النظر في قصة حملة السودان البريطانية، وبصورة أعم، في وضع السودان ضمن مشروع بريطانيا الامبريالي، منذ إعادة تنظيم الجيش البريطاني – المصري بعد عام 1882م إلى يناير 1900م، حين تمرد الجنود السودانيون في ثكنات أم درمان (أنظر مقال مارتن وليام دالي المترجم بعنوان "تمرد الجيش المصري في أم درمان في يناير وفبراير من عام 1900م". المترجم). وخلص لاموث أن العامل الحاسم في هزيمة الخليفة لم يكن هو الجيش البريطاني، ولا الأسلحة الحديثة، ولكنه كان الانضباط وحسن تنظيم وقدرات وشجاعة جنود كتائب المشاة السودانيين، وهو الأمر الذي تجاهله تشرشل بصورة شبه كاملة وهو يكتب عن تلك الحرب.
حاول كتاب "عبيد الحظ / الثروة" أن يفعل أشياء كثيرة. فالكاتب (لاموث) شديد الاهتمام بالتاريخ الاجتماعي للجنود السودانيين. فقد درس أوضاعهم بحسبانهم من "الرقيق العسكري"، وتابع تطورات أوضاعهم عبر السنوات، وتعمق في معرفة هوياتهم الإثنية والدينية والمكانية (أي مناطقهم الأصلية التي أخذوا منها. المترجم). ولعل لاموث كان يطمح في كتابة "تاريخ عسكري جديد". فقد سُمح مثلا للجنود السودانيون بإعفاءات خاصة تتيح لهم جلب مرافقين (مدنيين) لمعسكراتهم. وتعرض لاموث بالنقاش للعلاقات العامة والخاصة بين أولئك المدنيين والجنود. فقد كان مسموحا لهم بجلب نساء للمعسكرات يقمن بالطبخ والغسل والنظافة وإصلاح ما يتلف أو يتمزق من الملابس، وبناء العشش، وصنع المريسة، وتوفير سبل الراحة.
وفي مناقشته لنظرية "العرق العسكري" والعلاقات البريطانية – السودانية يضيف لاموث إلى علم التأريخ الامبريالي. فهو يرفض النظرة التقليدية للجنود البريطانيين البيض (التي تكونت بفعل الحساسيات والادراك الفيكتوري) الذين يتداخلون ويتفاعلون مع السودانيين وهم لا يرون فيهم إلا أناس أقل مكانةً اجتماعيةً منهم. وعوضا عن ذلك يركز الكاتب على العلاقات المعقدة المتصفة بالصداقة الحميمة وبالتنافس بين الجنود البريطانيين والسودانيين. وأخيرا يقدم لاموث أفكارا جديدة حول معركة أم درمان، ويعرض لموضوعات عسكرية تقليدية مثل التكتيك والقيادة.
ولا يحاول مؤلف الكتاب إخفاء نقاط الضعف التأريخي الكبيرة في كتابه "عبيد الحظ / الثروة: الجنود السودانيين وحرب النهر"، التي كان من ضمنها محدودية عمق المصادر الرئيسة التي استخدمها في كتابه. وكانت تلك المصادر قد ضمت مصادر منشورة، وأخرى غير منشورة مثل مذكرات وذكريات وتاريخ الحملة، وتقارير صحفية، إضافة إلى مواد رسمية موجودة في لندن سبق للكثيرين الاستفادة منها من قبل. واستخدم لاموث أيضا أوراق الجنرال ف. ريجلاند وينجت المودعة في مكتبة السودان بجامعة درم. ومعلوم أن وينجت قضى غالب سنوات عمله على ضفاف النيل. غير أن لاموث للأسف يقر بأنه لم يعثر في دار الوثائق بالخرطوم غير وثائق بريطانية. ولم يتمكن في القاهرة من أن يجد طريقا للحصول على وثائق مهمة تتعلق بموضوع بحثه، إذ لم يتمكن من الحصول إلا على قليل جدا من الوثائق المهمة، كان من ضمنها المذكرات التي خلفها بعض الجنود السودانيين المسترقين.
لا شك بأن هذا الكتاب يعد مساهمة مهمة لتاريخ حملة بريطانيا العظمى بين عامي 1896 – 1898م. فقد حول لاموث التعاطف التقليدي الذي كان يلقاه الجنود البريطانيون وحامياتهم نحو تعاطف مع الحاميات السودانية. وتحدى لاموث مقولات ونستون تشرشل عن الجندي البريطاني العادي (في الأصل تومي اتكنز Tommy Atkins. المترجم) ضد "الفيزي ويزي" بتذكيره للقارئ أن حوالي ثلثي عدد القوات البريطانية (التي حاربت في جيش كتشنر) كانت مكونة من الجنود المصريين أو السودانيين، وأن الجنود المسترقين حاربوا في صفوف جنود الطلائع البريطانية، وحارب بعضهم أيضا في جيش الخليفة.
لقد رسم المؤلف لوحة بالغة التعقيد لرجال حاربوا معا ومارسوا الرياضة معا، ونافسوا الحاميات البريطانية في الحصول على أوسمة الشرف في المعارك التي خاضوها، وعملوا كمحاسبين وحمالين وفراشين ومجندين عسكرين، وكانوا نادرا ما يرون بأسا في خدمتهم في الجيش البريطاني المصري.
سيتعلم قراء التاريخ العسكري من غير المتخصصين (والخبراء من الأكاديميين) الكثير من هذا الكتاب.
***** ****** ******
العرض الثاني
ما زال علم تدوين تأريخ السودان (Sudan Historiography) يصارع حتى يتوافق / يتعايش مع ماضيه الكولونيالي / الاستعماري. وهذا ما يكسب كتاب رونالد ام. لاموث (عبيد الحظ / الثروة وحرب النهر، 1896 – 1898م) أهمية خاصة، فهو مؤلف يستحق أن يجد له مكانا مميزا ضمن الأدبيات الكثيرة الأخرى المنشورة عن جيوش الرقيق في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والشرق الأوسط. غير أن ما قدمه المؤلف في كتابه من ملاحظات يعد حادا ومثيرا للمشاعر بصورة خاصة، في سياق تقاليد وأعراف مدونات السودان الحديث التأريخية التي تركز – بصورة شبه تامة – على دور أو مصلحة صفوة الشماليين السودانيين. ويقدم لنا لاموث في كتابه هذا منظورا مختلفا لدور مجموعات العامة (من غير الصَفْوَة) في إقامة الدولة (السودانية) وذلك بشرحه للدور المهم والأساس الذي أداه الجنود الأرقاء حتى قيام الحكم الثنائي (الإنجليزي - المصري).
ويجد القارئ في هذا العمل المجود في مجال "التاريخ العسكري الجديد" سردا وتحليلا تاريخيا مفصلا للجنود الأرقاء في غضون سنوات "استعادة" الجيش الإنجليزي – المصري للسودان بين عامي 1896 و1898م. ويهدف الكتاب إلى فضخ زيف سلسلة من الأفكار الراسخة حول تلك الفئة الاجتماعية – المهنية، مثل القناعة بأن الجنود الإرقاء هم رجال "لا هوية لهم (أو "منبتين قبليا") لا حول لهم ولا قوة، ومجرد أدوات أو أذناب تعاونوا مع الإمبراطورية، وأنهم من أعراق تعشق القتال والحرب" (صفحة 7 من الكتاب)، أو أنهم ينحدرون من خلفية عرقية واحدة. وعلى نحو مماثل، يقوم الكاتب في مؤلفه هذا، خلافا للنزعة العامة التي تصور المسترقين على أنهم عناصر هامشية أو مهمشة في المجتمع، بتوضيح أن هذه الفئة كانت، بأشكال مختلفة، فئة صَفْوَية لها صلات وثيقة بالقوى الحاكمة، سواءً أكانوا من المصريين أو الأتراك أو البريطانيين، وأن هذه الصلات كانت قد أدت دورا مهما وضَرُورِيّا في الحفاظ على الدولة وترسيخها. وأخيرا يؤكد المؤلف – محقا – على وضع الجنود الأرقاء، ويذهب إلى أنهم كانوا أبعد ما يكونوا عن المسترقين الذين يسخرون للعمل في الزراعة والأعمال المنزلية. وكتب في الصفحة الثالثة من مؤلفه أن وصف المرء بأنه من "الجنود المسترقين" في شمال شرق أفريقيا لم يكن يشير لوضعه القانوني بحسبانه "عبدا"، بقدر ما كان يشير إليه باعتباره "جنديا" فحسب. وهنا يؤيد لاموث ما ذهب إليه د. بايبز (في مؤلفه المعنون "الجنود المسترقون والإسلام Slave Soldiers and Islam " الصادر عام 1981م) من أن هؤلاء الأرقاء قد أعتقوا / حرروا أنفسهم بأنفسهم. ولا ريب أن الهيبة والعظمة (البريستيج) التي اكتسبتها مهنة الجندية قد أفلحت في تحويل وصمة الرق عند أولئك الجنود المسترقين إلى هوية إيجابية. فهو يصفهم في الصفحة الثامنة من كتابه بأنهم: "جنود ماهرون وفخورون وأصحاب خبرة، ويمكن الاعتماد عليهم، ويجمعهم التضامن والحظ / الثروة؟ وعقيدتهم الإسلامية وولائهم للخديوي ولقائدهم. وتلك الخصال هي التي قربت أولئك (الجنود المسترقين) من بعضهم البعض".
قسم المؤلف كتابه إلى مقدمة، وخمسة فصول وخاتمة. وقدم في الفصل الأول استعراضا مفيدا لتاريخ الجيش المكون من مسترقين، منذ عهد الحكم التركي – المصري، و"النظام الجديد" الذي ابتدعه محمد علي، وقام فيه بتدريب جنوده المسترقين وفقا للنمط النابليوني، ومرورا بعهد الثورة المهدية، ثم تجنيد كتائب جديدة من الجنود السودانيين للتحضير للهجوم البريطاني – المصري و"استرداد" السودان.
وفي واحد من أكثر أجزاء الكتاب إثارة وأهمية يروي المؤلف في هذا الفصل حياة ضابطين كبيرين هما "علي جفون" و"عبد الله عدلان". وقد حظي الرجلان بتاريخ مهني متفرد وطويل، إذ عملا في أماكن متفرقة مثل الأبيض ومصوع وكسلا والاستوائية، أو أماكن قاصية مثل المكسيك، التي حاربا فيها باسم نابليون الثالث (يمكن مراجعة المقال المترجم بعنوان "مذكرات جندي سوداني - علي جفون، المنشور في المجلة الأميركية The Cornhill Magazine في عام 1896م، والمقال المترجم بعنوان "قصة حياة اليوزباشي عبد الله عدلان" المنشور في مجلة "السودان في مذكرات ومدونات "Sudan Notes and Records في عددها الثاني والأربعين والصادر في عام 1961م. المترجم).
ولم يخل ما أورده المؤلف في هذا الفصل من نقاط مثيرة للخلاف والجدال، منها ما يوضح حالة من الحالات العارضة للعنف المجاني (غير المسوغ) للجيش، كما في هذا المثال الذي جاء في الصفحة رقم 21 من الكتاب: (لجأ المتمردون لكهوفهم طلبا للحماية، وظللنا "ننظف" تلك الكهوف منهم لأكثر من أسبوعين .... وقتلنا كل من أسرناه من أولئك المتمردين ... وكنا نقتاد كل من نقوم بإلقاء القبض عليهم في مخبأهم مباشرة إلى السَيّاف ليضرب أعناقهم. وقمنا لاحقا يوضع رؤوس أولئك المتمردين في صفوف منتظمة، وفي مكان ظاهر أعلى الجبل). ويتغاضى المؤلف (أو يجَمَّلَ) ذلك "العنف الاحتفالي" الذي قامت به الدوريات العسكرية. وكان سيكون مفيدا للقارئ لو بحث المؤلف (في هذا الفصل) في أمر أصل ووظيفة تلك الوحشية.
وتعود في الفصل الثاني من الكتاب مسألة العلاقة بين الجنود وبقية أفراد المجتمع السوداني، والحالات والمواقف التي قاتل فيها أولئك الجنود شعبهم، أو حتى من أفراد عائلاتهم. وأوضح الكاتب أن علاقة أولئك الجنود بوطنهم كانت علاقة يسودها الغموض والازدواجية، كما يوضحها مثال عودة (أو عدم عودة) الضابط علي جفون إلى أرض الشلك (حيث وطنه وقبيلته الأصلية). ومما لا ريب فيه أن مهنة أولئك المسترقين (العسكرية) كان لها أكبر الأثر في تغيير وتعقيد العلاقة بينهم وبين مواطني بلادهم. واختتم الكاتب فصله الثاني بمقتطف من بابكر بدري رائد التعليم النسوي الشهير بالسودان يدور حول زواج أحد بنات عمه / خاله من أحد الجنود المسترقين في غضون أيام الفتح (الغزو) البريطاني – المصري، حين رفض المفتش البريطاني سماع شكوى بابكر بدري واعتراضه على تلك الزيجة. ولعل هذا من أدلة قوة وضع الجنود المسترقين النسبية في مجتمع تلك الأيام، ومتانة علاقتهم بالدولة الكولونيالية (الاستعمارية). ومما يؤسف له أن المؤلف لم يبرز هذه النقطة بصورة واضحة أو يتوسع في نقاشها بمزيد من التفصيل.
ويعطي الكاتب للقراء صورة حية وغنية في فصله الثالث لحياة الجنود المسترقين اليومية، ويصف أنواع ملابسهم وما يتلقونه من حصص غذائية (جرايات) ومرتباتهم ومعاشاتهم، وتجمعاتهم الليلة، بل وطريقة دفنهم لموتاهم. ولعله من أكثر جوانب هذا الفصل أهميةً وإثارة هو الجانب الذي كان يميز تلك الكتائب السودانية فيما يعرف ب "أتباع المعسكر camp followers" (قد تترجم أحينا ب "مومسات المعسكر". المترجم)، وهن النساء (والقريبات) اللواتي كن يرافقن الجنود في حملاتهم. وتأتى أهمية مناقشة هذا الجزء من أنه يلقي الضوء على سلطة ونفوذ ودور قطاع تم تجاهله بصورة منهجية، أو صور على أنه فئة مهمشة تتكون من ثلة من "أشباه المومسات". فعلى سبيل المثال كانت أولئك النسوة يقمن في عديد المرات بالتوسط لمساعدة القادة البريطانيين في التغلب على حالات العصيان التي كان يقوم بها بعض أولئك الجنود. وبالإضافة لذلك فإن وجود أولئك النسوة في المعسكر كان ضروريا لأولئك الجنود (الذين لم يكن مسموحا لهم بجلب زوجاتهم)، وربما كان ذلك مما ساعد في إزالة سبب من الأسباب التي قد تدعوهم للعصيان أو التمرد.
ويناقش الفصل الرابع الروابط التي جمعت بين الضباط البريطانيين وجنودهم. وعلى العكس من الصورة النمطية عن الحدود التراتيبية الجامدة الثابتة بين المجموعتين، فقد كانت تلك الروابط شديدة التعقيد والمرونة، وتميزت في بعض الحالات بتضامن كبير وأُلْفَةٌ شديدة، وفي حالات أخرى بتضاد وتنافس حاد.
أما في الفصل الخامس فقد قدم المؤلف سردا مفصلا لمجريات "حرب النهر"، ودور الكتائب السودانية في انتصار الجيش الإنجليزي – المصري. ويحاول المؤلف في هذا الفصل تفكيك صورة معركة أم درمان عام 1898م، تلك الصورة الذهنية الراسخة في ذاكرة البريطانيين الجمعية، خصوصا نتيجة لما أحدثه عندهم ما أورده ونستون تشرشل في كتابه" حرب النهر" عن أن تلك المعركة قد كُسبت نتيجة مهارة القادة البريطانيين ومدافعهم المكسيم.
وأخيرا يختم المؤلف كتابه بسرد قصة حدث مهم وهو تمرد (الجنود السودانيين) عام 1900م، وهو حدث يؤكد على وضعية أولئك الجنود غير المضمونة. فقد كان بإمكان أي تغيير في سلوك وموقف وسياسة "قادتهم/ حماتهم" أن يحدث تغيرات مهمة في حالة ودور تلك المجموعة من الجنود. لقد كانت صلة أولئك الجنود بالدولة هي المكمن الأعظم لقوتهم، ومكمن ضعفهم أيضا (للمزيد عن ذلك التمرد يمكن الرجوع للمقال المترجم بعنوان: " تمرد الجيش المصري في أم درمان في يناير وفبراير من عام 1900م بقلم المؤرخ مارتن دالي. المترجم).
وفي ختام هذا العرض أخلص إلى أن هذا الكتاب هو إضافة مهمة لعلم تدوين تأريخ السودان الحديث. وأقدر جدا التعاطف الرقيق الذي أبانه المؤلف في كتابه تجاه من كتب عنهم من (الجنود المسترقين)، وحياتهم من منظور جديد وزوايا مختلفة. ولا بد لي من الإشادة بالمؤلف لسعة معرفته ودقته واهتمامه بالتفاصيل التي بانت جلية في تناوله لهذا الموضوع المهم.
غير من أن واجب من تعرض (يعرض) الكتاب أن تقترح (يقترح) بعض التعديلات التي يؤمل أن تحسن من جودته. وكما يدرك المؤلف، فقد كان هذا الكتاب نتاجا لمصدر واحد هو الروايات البريطانية لحرب النهر. ورغم أن المؤلف قد بذل جهدا واضحا في أن "يقرأ بين السطور" فيما كُتب في الوثائق والمكاتبات الاستعمارية، إلا أني أرى أنه كان يجب عليه أن يذهب لما هو أبعد وأعمق في دراسة وتحليل ومناقشة تلك الوثائق، والبحث عن "البذرة الأرشيفيةarchival grain "، والالتفات إلى قواعد ومعايير اشتمال واستبعاد المصادر، وما تذكره تلك المصادر بصورة منهجية، وما تصوم عن ذكره، وسبب صومها (خاصة بالنظر للطبيعة النمطية لكثير من الأوصاف التي ترد في تلك الوثائق والمكاتبات). وهذا أمر في غاية الأهمية لأن هنالك صلة عميقة بين الماضي (كما تم سرده في هذا الكتاب) والحاضر. وهذه صلة ألمح إليها المؤلف نفسه في بعض المواضع (انظر مثلا صورة جون قرانق والضابط الثائر علي عبد اللطيف في صفحة 202 من الكتاب).
أما نقطة نقدي الثانية فهي أن الكتاب يفتقر لمناقشة متماسكة ومستمرة ومقبولة للعلاقة بين تلك "الصفوة العسكرية" وبقية أفراد الشعب. غير أن هذا يمكن أن يكون نتيجة للمصادر المستخدمة. فلا بد أن العنف الشديد الذي عرف عن أولئك الجنود، وحقيقة أنهم كانوا يحاربون نيابة عن حكام أجانب (الحكم التركي – المصري، والحكم البريطاني – المصري) قد تركت أثرها في إدراك وإحْساس هؤلاء "الجنود الشجعان". ويذهب المؤلف لاموث إلى أن أفراد الشعب من الطبقات الاجتماعية الأخرى (خاصة الصفوة النيلية المسيطرة) كانوا ينظرون لأولئك الجنود ك "أرقاء" في نهاية المطاف (الفصل الثاني). وقد يكون من الممكن أن يكون التركيز على الأصول المسترقة لأولئك الجنود الأقوياء المهابي الجانب هو تعبير عن الغيظ والضغينة التي كانوا يشعرون بها تجاههم، أو لمنافستهم لهم.
وعلى الرغم من هذا النقد، فإني شديدة الثقة في أن كتاب "عبيد الحظ / الثروة/الثروة" سيكون مصدرا مهما لأي قارئ له اهتمام ليس فقط بتاريخ السودان الحديث، بل لكل من يرغب في فهم أفضل للعلاقات المعقدة بين الدولة والجيش.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.