كمٌّ هائلٌ من المداد سُكِب في القضية التي أثارها الشيخ الدَّموي عبد الحي يوسف بهجومه على الوزيرة ولاء البوشي وتكفيره لها. وكذلك هجومه على الأستاذ محمود محمد طه ووصفه له بالكفر والزندقة. هذا الكم الهائل من التعليقات، كما هو متوقع، فيه الغث وفيه الثمين. وفيه من يخلط الغث بالثمين. ولكن هناك صنف رابع يحتاج تصنيفه لإرجاع للبصر، كونه ملتبسا، يبدو من الوهلة الأولى على غير حقيقته. وعند التدقيق يظهر أنه دفاع ناعم عن الشيخ الدموي. أما الغث فنماذجه تملأ الأسافير بطنين الذباب الالكتروني الذي عندما تقع عليه يجعلك تريد أن تتقيأ. وواضح أن جل مصادره من أشباه الشيخ الدموي الذين ينافسونه في العنف والجلافة والبذاءة. أما الثمين فنماذجه أيضا كثيرة والحمد لله. الكتابات الرصينة أكّدت على أمور جوهرية. أولها أن الشيخ الدموي هاجم أمرا سكت عنه في الماضي إبان حكم المخلوع البشير، الذي اعترف أنه كان يحشو فم الشيخ بالدولارات مما أسكته عن الكلام المباح. ولأهل دارفور مثل بليغ يقول "الدبيب الفي خشمه جرادة ولا بيعضي". فالشيخ إذن منافق، ومرتشِ، وشيطان أخرس. هو منافق لأنه إن كان لعب البنات لكرة القدم أمرا منكرا اليوم، فهي قطعا أمرٌ منكرٌ بالأمس. فلماذا سكت عنه بالأمس وتكلم فيه اليوم إن لم يكن منافقا؟ والشيخ "مرتشٍ" لأنه أخذ المال نظير خدماته للمخلوع. وهو شيطان أخرس لأنه سكت عما يراه الحق. والشيخ أيضا عالم سلطان يُفَصِّل له الفتوى على هواه. وقد شهد عليه رفاقه من علماء السلطان أنه أفتى للمخلوع بجواز قتل ثلث سكان السودان ليخضع له الثلثان المتبقيان ويصبحون له عبيدا. والأمر الجوهري الثاني هو أن تكفير الشيخ للأستاذة ولاء البوشي يُعَرِّض سلامتها وربما حياتها للخطر. فقد يتعرض لها أحد أتباعه من المهووسين الدمويين ويُنَفِّذ فيها ما يراه "حكم الشرع" الذي تقاعس الحاكم عن تنفيذه، كما يؤمن السلفيون الجهاديون. والأمر الجوهري الثالث هو أن الشيخ بتبنيه لخطاب الكراهية هذا إنما يثير الفتنة ويهدد أمن المجتمع. والأمر الجوهري الرابع هو أن تضامن مجلس الوزراء مع الوزيرة أمر طبيعي كون الهجوم على الأستاذة ولاء جاء بصفتها الاعتبارية كوزيرة للشباب والرياضة، وليس بصفتها الشخصية، وهي عندما افتتحت دوري السيدات إنما كانت تنفذ سياسة الدولة. كما أن الشيخ لم يتوقف عند مهاجمته للوزيرة بصفتها الاعتبارية، بل انطلق من ذلك للهجوم على الوزيرة لأنها تحدَّرت من أسرة جمهورية، كما هاجم الأستاذ محمود محمد طه. علما بأن الشيخ الدموي لا يساوي شسع نعل الأستاذ محمود. أما الذين يخلطون الغث بالثمين فأوضح نماذجهم الجبوري الذي علق على الموضوع في تسجيل صوتي. فالجبوري كان دقيقا في التنبيه لخطر الشيخ الدموي ولكنه كان بعيدا كل البعد عن الحق والعدل عندما شبَّه الوزيرة ب"عجوبة الخَرَبَتْ سوبا"، بصورة تَنِمُّ إما عن جهل بالرواية الشعبية أو تَعَسُّف تجاه الوزيرة. أما النوع الملتبس فنموذجه مقال الدكتورة ناهد قرناص بعنوان "ما استخاروا". فقد فاتت على الدكتورة جميع الأمور الجوهرية الأربعة التي فصلناها أعلاه عندما انتَقَدَتْ مجلس الوزراء على تضامنه مع الوزيرة بحجة أنهم بذلك يعطون "الشيخ مدخلا قويا لمهاجمتهم". وهذه لعمري حجة عجيبة تجعل من الشيخ الدموي معيارا تُقَاُس عليه الأعمال. ولكأن الدكتورة تدعونا جميعا لممارسة "الاستخارة" لندرك ما يرضى عنه الشيخ المتطرف فنأتيه وما لا يرضى عنه فندعه. وبنفس هذا المنطق المعطوب يمكن أن يُقَال إن لعب النساء لكرة القدم أعطى الشيخ "مدخلا قويا" لمهاجمة اللاعبات والوزيرة والحكومة والجمهور. وعلى ذلك فجميع هؤلاء الناس برضو "ما استخاروا"، ولو كانوا "استخاروا"ربما أغلقوا هذا الباب الذي جاب لهم الريح النتنة من قِبَل الشيخ، ولمنعوا لعب البنات للكرة. والدكتورة تعلم أن الشيخ من جماعة "سد الذرائع" والقاعدة التي يؤمن بها هي أن جملة الحياة المعاصرة حرام وأن الحلال استثناء. وأن الدكتورة "إن استخارت" فسوف تجد نفسها تعيش في عالم يحاصرها بالحرام من جميع أقطارها. وقبل موضوع الاستخارة هذا شَكَّكَت الدكتورة في قانونية تضامن مجلس الوزراء مع الوزيرة بقولها "ولا أدري صحة الموقف قانونا"، في حين كان في إمكانها التحقق من ذلك بسهولة، بمكالمة تلفونية مع أقرب قانوني. فالموقف القانوني لمجلس الوزراء، الذي يضم وزيرا للعدل، صحيح لا غبار عليه. والتشكيك فيه بهذه العبارة إما تزيُّد أو تحيُّز. لم تقف الدكتورة عند انتقاد موقف مجلس الوزراء وحسب بل ذهبت لانتقاد الوزيرة كونها رفعت القضية ضد الشيخ الدموي. لماذا؟ تجيب الدكتورة: "لأن الوزيرة صارت شخصية عامة. ولن يكون هذا أول هجوم على شخصها. وتفرغها لملاحقة كل من ينال منها سيضيع وقتها". إذن في عُرف الدكتورة يجب على الشخصية العامة أن تظل مستباحة ومفتوحة "للهجوم" ولا تسعى للانتصاف لنفسها حتى وإن نال هذا الهجوم من دينها وعَرَّض حياتها للخطر. كذلك تستخدم الدكتورة عبارة "وتفرغها لملاحقة كل من ينال منها". وبطبيعة الحال تعلم الدكتورة أن الوزيرة لا تتفرغ لملاحقة الشيخ الدموي، أو غيره ممن يهاجمها، وإنما تتفرغ لذلك سلطات النيابة والقضاء، فهي التي تقوم بأعمالها الموكولة لها في تحقيق العدالة. وهي أيضا تعلم أنه ليس مطلوبا من الوزيرة أن تحضر جلسات المحكمة. إذن فمن نافلة القول إن فتح القضية لا يؤثر على أداء الوزيرة. إن من واجب الوزيرة، وأي شخص آخر عاقل، ملاحقة كل من يهاجمها وينال منها. فحماية النفس والعرض مقدمة على ما سواهما. ويتساءل المرء يا ترى ما هي النتيجة التي تقودنا لها الدكتورة لو أن الوزيرة استمعت لنصيحتها و"استخارت"؟ النتيجة هي أن تتحقق للشيخ الدموي حصانة مطلقة، تضعه في مقام فوق البشر "لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون" مما يشجعه على التمادي في استباحة الجميع، والخوض في الأعراض وإثارة الفتن والقلاقل، وسفك الدماء. ولعل أغرب ما في مقال الدكتورة هو قولها الآتي:"لا أدري ما هي النتيجة المرجوة من الدعوى.. فالوزيرة واثقة من قناعاتها.. ولا تحتاج الى أمر قضائي.. أما إذا كان المراد هو حسم أمر الهجوم على الفكر الجمهوري أو أي افكار مغايرة للفكر السلفي.. لا أعتقد أن التقاضي هو الطريق السليم.. وإنما النقاش الهادئ والمحاججة السليمة.. ولا أعتقد أن المحاكم ستكون الحاضن لهكذا مناورات". وهو قول ينم عن أنها حقيقة "أوف بوينت". فالدكتورة على التحقيق تستهين بأمر التكفير وخطورته وبأمر خطاب الكراهية وإثارة الفتن وكأنها لم تسمع بمجزرة مسجد أنصار السنة، ومجزرة الجرافة، ومقتل قرانفيلد. وكأنها لا تعلم بأن الحرب أولها كلام، وأن خطاب الكراهية تسبب في فتن ودماء، بلغت درجة الإبادة الجماعية في أماكن عديدة في العالم. فالدكتورة تترك كل هذا وراء ظهرها وتطلق لخيالها العنان في افتراضات فطيرة حول "إذا كان المراد من رفع القضية" هو تثبيت "قناعات الوزيرة" أو "حسم الهجوم على الفكر الجمهوري"، لتخلص لنتيجة مفادها أن التقاضي ليس هو الطريق السليم. وأنا حقيقة لا أظن بأن الدكتورة على هذا القدر من التسطيح والضحالة، بل أعتقد أنها حاولت أن تتذاكى علينا ولكنها أسرفت على نفسها، فجاءت محاولتها فاشلة للدفاع عن قضية خاسرة تنم عن تعاطف مع شيخ دموي أثلجت صدره مجزرة القيادة.