بماذا يحس الإنسان عندما يسمع أن رئيس الجمهورية عمر البشير يدعو الناس للتصويت له ليقوم ب " رد المظالم " ؟ ألا يحس الإنسان بأن هذا الرجل يرى الناسَ أمامه قطيعا ً من الأنعام وليسو بشرا ً يعقلون ؟ ألا يخال الإنسان أن ملائكة الرحمن المكلفين بهذا الرجل تحوقلوا واستغفروا الله بحزن عند سماعهم قوله "صوتوا لي ، أرد المظالم" ؟... ألا يخالهم يقولون " ربنا إنا نتبرأ من عبدك هذا ... فلم نكن نتوقع أن الإنسان قادر على بلوغ هذا المستوى من الجرأة في عدم مخافتك.... والجسارة في الإستخفاف بعبادك ... والشجاعة في مخالفة الحق والإلتفاف حول أبجديات المنطق ... .... " فهذا الرجل ، عزيزي العارف ، حكمنا أكثر من عشرين عاما ً ولم يعدل ولا مرة واحدة ... نعم ولا مرة واحدة ...( فإن علمتَ ، أخي القارئ ، أنه عدل مرة ً واحدة فقط ، أخبرني ، سأصحح موقفي وأستغفرالله وأطلب الصفح من البشير لإتهامي له بالباطل ...) وهذا الرجل هو نفسه الذي قاد ذلك "النهب المسلح" المشؤوم في ليل ٍ فاجع ٍ في يونيو 1989.... ووأدَ به ديمقراطية السودان وهي " طفلة ٌ " تترعرع دون العاشرة ... وأدها ، بتآمر ٍ مدبَّر وخيانةِ متقنة للدستور، وهي تتطلع لأيام شبابٍ وإنجابٍ وأحفادٍ وأمجاد للسودان وشعبه.... وأدها ويأتي اليوم ، نفس الرجل ، ويقول لها " قومي ... أنت حادينا !" ... فهل يمكن أن تكون بين الوائد والمؤودة مودة ٌ كما يدعي الرجل ؟ أم إنه الإستخفاف بالناس؟ أولى المظالم وسبيل ردها: كان ذلك "النهب المسلح" المشؤوم ، كما تعلم عزيزي العارف ، هو أول المظالم التي يجب أن ترد... بل هو ساسُها ومنبتُها جميعا ً. فالسلطة المنتخبة التي اختارها الشعبُ بحريته ، واتمنها لدى دستوره ومؤسساته الديمقراطية لخدمته ، هي حق ٌ قيمٌ عزيز ٌ على الناس ... وجب احترامه ورعايته وحمايته ، بنص الدستور ، خاصة من قِبَل الذين سلَّحهم الشعب من ماله وكلَّفهم برعايته واتمنهم على حمايته ... ومن هؤلاء العميد البشير... ولكن رغم ذلك صادر هذا الرجل ، بقوة السلاح متآمرا ً بليل ٍ كارثي ٍ ، صادر حق شعبه ، ذلك الحقُ العزيزُ المحرمُ المقدسُ عند كل الأمم ، فدمره ، ثم قبره ، بجبروت القوة العسكرية وبقهر أمن الدولة ... وحل مكانه حكما ً عسكريا ً- أمنيا ً جائرا ً ومغْرِضا ً ، روحا ً ونصا ً وتنفيذا ً ، لمصلحة فئة تآمرت ضد شعبها ... وأضحى البشير في كل مناسبة يشير إلي ذلك الحكم ب "حكمي". فكانت تلك أول مظلمة كبرى يحيقها هذا الرجل بشعبه الذي يخاطبه الآن ويَعِدُه ب "رد المظالم" ! فتلك المظلمة الأولى هي أم المظالم بكل المقاييس...فقد جمَّدت مسيرة السودان الديمقراطية لعقود ... وأدخلته في نفق مظلم ٍ ، جائر ٍ ، ماحق ٍ ، مهلك ٍ ، ومدمر... نفق ٌ إذا كُتبَ للسودان الخروج منه ، فسيخرج مبتور الأطرافِ ، ممزق الأحشاءِ ، مشوه الوجهِ ... يستهلكُ أبناءَه فيما بينهم ، لعقود عديدة قادمة ، في صراعات الأنانية والأطماع والأحقاد التي غرستها إنقاذ البشير وروتها بظلمها للأغلبية لتغني أقليتهم الحاكمة. هذا إذا لم يتمزق السودان في غياهب هذا النفق وطاماته وكوارثه ... السودان الذي كان قبل الإنقاذ موحدا ً قويا ً ومحترما ً بوحدة أهله ، يتمزق في مهالك هذا النفق ويتفكك ... وما إنفصال الجنوب إلا بداية ... و تتكالب عليه دول الجوار ، كل منها ينهش قطعة ً منه حسب قوة مخالبه ... وما حلايب والفشقة إلا "ضواقة قبل الوليمة" ... وبدخول السودان هذا النفق ، بدأ المؤرخون المصريون (بعد أن هضمت مصر حلايب) في جمع "الوثائق" عن ملكية مصر لمقاطعة البحر الأحمر الممتدة من حلايب إلى أرتريا ... وغدا ً سيبدأون في جمع "وثائقهم" عن ملكية مصر للمنطقة النوبية التي تمتد إلى أواسط السودان .... (قد يقول قائل هذا شطح بعيد ... وأقول : ألم يأخذوا حلايب ! فما المانع من أخذ غيرها ؟ بل ولا أستبعد ، في غضون الأعوام القليلة القادمة ، إن ظللنا تحت الإنقاذ ، أن نرى " ولائم الجيران" وهم يقضمون من لحمنا قطعة ً بعد قطعة ... من حسن بناننا والمعصم ... والسودان مكتوف "أم زوير" بملاحقة الجنائية وتبعات إنفصال الجنوب و مشاكل دارفور وغبن الأكثرية من نهب الإنقاذيين لموارد وثروات الوطن دون حياء . ولكن " الوثيقة " الكبرى التي لا تُجمع من مكتبات ولا تُعرض في محاكم دولية ، كما تعلمون ، هي "القوة" مقابل "الضعف" ... فالذي بدأ بحلايب والفشقة لا يتوقف إلا بالقوة ... ولا قوة للسودان إلا بوحدته ... ولكن وحدة السودان مزقتها الإنقاذ وإنتهت... ... ألم نر حتى تشاد تستأسد عليه وهو مقهور؟ هذه المظلمة الأولى لا ترد بإنتخاب هذا الرجل ... بل العكس ... ترد بعدم إنتخابه ... ثم بمحاكمته بالعدل والقسطاس المستقيم . [وليطمئن البشير وجماعته أن محاكمتهم لن تُلغى قبل بدايتها وتُمزق أجسادهم بالرصاصُ عشوائيا ً ويُتَعجلُ بدفنهم في قبر جماعي مجهول وقلوبهم لا تزال تنبض ... فيدفنون ليلة العيد في تسابق ٍ مع طلوع فجره ... لا ... لن يُفعل فيهم ذلك الفعل المقيت الخسيس كما فعلوه هم في زملائهم في يونيو 1990... لأن فعلتهم تلك يعافها ويتعفف منها حتى أقسى المجرمين قلبا ً ، وأكثرهم خساسة ً ، وأقلهم إنسانية ً ، وأحطهم قدرا ً، وأرذلهم مكانة... "فالسودانيون" أرفع من ذلك بدرجات عاليات ... (لذا قال رائعنا : " من أين أتى هؤلاء!" ) ستكونون ، يا أهل الإنقاذ ، في أيدي الشهام الكرام ، ستكونون متهمين فقط ، لا مدانين ، حتى تثبت إدانتكم بالقانون والعدل ... وسيكون لكم جميع حقوق الناس حتى تدانون أو تطلقون ، تماما ً كما وجهنا به رسولنا الكريم - صلوات الله وسلامه عليه - وكما قالت به مواثيق حقوق الإنسان .] ردُّ البشير للمظالم : أصِدْقٌ هو أم خِداع ؟ توالت ، كما تعلمون ، مظالم الإنقاذ على هذا الشعب فوق العشرين عاما ً حتى طفحت بها نفوس الناس وبطونهم بعد أن صبروا على مُرِّها وجَمْرها زمنا ً طويلا... وأخيرا ً فاضت بها أرض السودان وسماؤه حتى عمت روائحها الكرية أرجاء المعمورة كلها ... وظل الناس سنينا ً يلوكون مرارة المظالم وأنفاسُهم مقبوضة ً بأيدي أجهزة الأمن الحديدية ، لا يستطيعون للخلاص منها سبيلا ... ثم جاء أوكامبو ... واستطاعت أضواء العدالة العالمية ، أخيرا ً ، كشف بعض فعائل الإنقاذ ... فاضطرت الإنقاذ لترخي قبضتها على أنفاس شعبها لغرض واحد: إجراء الإنتخابات ( المراقبة دولياً كما يقولون) لأن هذه الإنتخابات هي المخرج الوحيد والأوحد من مطب المحكمة الجنائية. لهذا السبب تلقف أهل الإنقاذ إنتخابات أبريل بقوة خلافا ً لمبدئهم ، الرافض لأخذ رأي الناس ، وتلقفوها أيضاً لأنهم واثقون من قدرتهم على تزييف وتحريف خيارات الناس باستخدام جبروت الدولة وقواتها النظامية والأمنية ... إذن هذه الإنتخابات هي أيضا نهبٌ مسلحٌ تماما ً كإنقلابهم في 1989 ... ولكن هذه المرة ليس في ليل دامس بالكامل كما كان النهب الأول ... لأن الإنتخابات ، إسميا ً ، مراقبة ٌ دوليا ً ... وأقول إسميا ً لأن هؤلاء المراقبين غافلون عن نوايا الإنقاذيين وخبث مخططاتهم... والغريب أنه رقم مخطط الإنقاذيين المكشوف لهذه الإنتخابات ، فإنهم يخافون من عدم إتقانهم الفبركة والغش والتزييف ... فأحسوا بأنهم " قد " يحتاجون فعلا ً لبعض أصوات الناس ... فخرج علينا البشير ليقول : " أمنحوني أصواتكم ، أرد المظالم " .... ولأول مرة على الإطلاق يذكر كلمة مظالم ... فلم نسمعه أبدا ً يوما ً من قبل يقول برد المظالم ... والمؤلم أن ينطق بكلمة مظالم دون أن يؤمن بوجودها في الأساس ... فالقاصي والداني يعلم أنه في قرارة نفسه لم ير هذه المظالم ، ولن يراها أبدا ً... بل إنه لا يؤمن حتى بوجودها أصلا ً... بما فيها المظلمة الأولى ... أم المظالم كلها ... وبما فيها قتل الناس ... فإنه ، مثلا ، لا يرى مصيبة ً في قتل 10000 إنسانا ً في دارفور، إذ يستغرب ويستهجن قيام الدنيا وقعودها من أجل هذا العدد "القليل" الذي يعترف به من الأرواح المزهوقة! فإن كان فعلا ً يرى ، ولو جزءا ً قليلا ً منها ، ما أقدم على ترشيح نفسه أبدا ً ولو لغفارة عمارة ... وصدق الصادق الشجاع الزاهد التقي المتواضع "النضيف حقا ً" الدكتور: معتصم عبدالله محمود ... فقد قال الحق عن البشير في بلاط قضاء البشير نفسه ... ولكن البشير وقضاؤه الذي نصَّبه لا يرغبون في سماع الحق ورؤيته ، دعك عن العمل به. فهل ينوي البشير رد المظالم فعلا ً أم يخادع الناس لينجو من أوكامبو ويُحْكِمَ قبضته على رقاب الناس أكثر؟ لا يَرُدُّ المظالمَ ظالم ٌ : إن ردَّ كَ المظالم يا عمر لا يحتاج أن يصوتَ لك الناس لتكون " رئيسا ً منتخبا ً للجمهورية " ... يحتاج ردُّ المظالم أن تَصْدُق َ مع نفسك وتقبل الحق ، قولا ً وفعلا... أنزل إلى الشارع اليوم وأسأل أول من تقابله عن كيف تردُّ المظالم ... فسيخبرك كيف تردُّها ، كلها مجتمعة مرة واحدة ، اليوم وفي أقل من خمس دقائق ... نعم خمس دقائق فقط ... تقول فيها لشعب السودان إنك ظلمتهم في كذا وكذا وكذا ... وإنك آسفٌ تطلب الصفح منهم والعفو والرحمة من ربك ... وقدم لهم رقبتك وما تملك ... وتحمل كل المسؤولية عما فعلت. أما إن أردتَ أن تردَّ المظالم واحدة ، واحدة ، فإنك قد تحتاج إلى ألف عام وأكثر... أبدأها بالذهاب إلى أم مجدي وقل لها " إني ظلمتُ مجدي وظلمتُكِ بقتله في حر ماله ... وإني نادم على فعلتي وأطلب السماح منك... وهذه نفسي إن أردت ِ القصاص ...الخ " ثم بعدها إذهب إلى أم ٍ مكلومة ٍ مظلومة ٍ أخرى كأم مجدي .... وهكذا... فهناك ملايين مثلها. قد يَعْفَوْنَ عنك جميعُهن ... وقد يعفو عنك الشعب كُلُّهُ ... فلا تقنط من رحمة الله ... ولكن ، للأسف ، كل هذا سوف لن يحدث أبدا ً ... إلا إذا غيَّرْتَ ما بنفسك . لأن المظالم َ لا يردُّها ظالم ٌ أبدا ً ! ولا يَرُدُّ المظالمَ ظالم ٌ أبدا ً إذا كانت غاية ُ الظلم ِ أموالَ المظاليم ِ --------------------------------------------- توضيح : ظللت دوما ً أقرأ ما يكتبه الناس ولا أكتب ... كتبت اليوم لأقف مساندا ً زميلي د. معتصم (الذي طعن في لياقة البشير للترشح لرئاسة الجمهورية ودفع ، أمام المحاكم ، بعدم جواز ترشيحه لأسباب صحيحة ، صادقة ، موثقة ، كافية ، وقوية دستوريا ً وقانونيا ً ... أما إجرائيا ً، فدعواه سليمة المتن والصياغة والبنود والعرض والتقديم والتوقيت) . كتبت لأدعم د. معتصم في قولة الحق هذه وأدعو القارئ للتفكر فيما قاله . د. أحمد إبراهيم الحاج * كلية الهندسة - جامعة الخرطوم ، سابقا ً Ahmad Alhaj [[email protected]]