مليشيا التمرد تواجه نقصاً حاداً في الوقود في مواقعها حول مدينة الفاشر    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مؤشرات الفساد – الجزء 4 – شركتي معدات البترول وخدمات المكاتب .. بقلم: سعيد محمد عدنان – لندن – المملكة المتحدة
نشر في سودانيل يوم 17 - 11 - 2019

كانت تجربة سكر كنانة في عام 1980/1981، تبين فيه نوع فساد الشره، ولكن أخطر من ذلك هو فلسفة تطبيع بل وتمييز الأنانية والظلم عن طريق مبادئ ترتيب سياسة التمكّن والتمكين، وهو العهد الذي تمكّن فيه الاخوان المسلمون من التحكم في سياسات الدولة منهجياً. فقد تسبب الانقلاب الشيوعي عام 1971 في تحوّل النميري من المنهجية اليسارية الموالية للمعسكر الروسي من شيوعية وعروبية، إلى منهجية الصوفية الباطنية الانعزالية خاصةً، فكانت فرصة للإخوان بالدخول فيها والتعمق في المنقول من الفقه عن طريقها، وبدأ ممارسة وتطوير التسييس الدين، وهو الوقت الذي اشتطّ فيه الدكتور الترابي عميقاً شيئاً فشيئاً في القطبية الاخوانية (عنف سيّد قطب) وما يلحق به من تأويل للآيات المتشابهة بفقه الضرورة الذي ابتدعه للتمكين والحكم باللصوصية لتأسيس أرضية فلسفية لشكل كامل للتسييس الديني، الذي اقتصر في فكر سيد قطب على التدخّل القمعي باستغلال الجهاد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي وصمت بالإرهاب في النظام العالمي العقلاني المبني على الحوار، وذلك بتذليل نظام الغاية تبرر الوسيلة من كتاب الأمير للفيلسوف نيقولا ما كيافيلي الذي قصده كل راغبي السلطة السريعة (راجع: كتاب السياسة والنظم السلطانية للدكتور حسن الترابي)، اقتباس:
"ولئن كان الإسلام المتجدد يعود لأول العهد غريباً في بيئته - على سنة التجديد في ثقافات العالم - فإن ساحة المسلمين اليوم لم يعد منطمساً فيها ذكر الإسلام حتى يبدو كتابه منكراً تلزمه شارة تعريف وجهدة ترويج، فإن ارتكمت على المسلمين قرون إدبارٍ عن فقه سلطان الإسلام الراشد ثم ارتكزت غفلتهم عنه لما تمكّن عليهم السلطان الغربي واستعمر فيهم قوته ودعوته، ها هي اليوم تنتشر دعوة الإسلام السياسية ويظهر حقه، وأخذت تضمحل بين المسلمين فتنة المذاهب والقوى النازعة إلى شمالي الأرض. ولما يتحقق بعد هدي الإسلام السياسي واقعاً منبسطاً في كل دياره، ولكن بارت فيها شرعية النظم السلطانية المؤسسة كرهاُ على المسلمين تحمل شاعرا وأشكالاً منسوبة غالباً زوراً للديمقراطية وشيئاً ما أحياناً للإسلام. بل أن المارقين على الإسلام دين التوحيد بفتنة اللا دينية أو العلمانية العازلة لعالم الدنيا السياسي عن الغيب والهدى الديني، هؤلاء اليوم في اضطرابٍ يجادلون حول الإسلام، وأحياناً في اضطرار يزينون مذهبهم بكلماتٍ مبهمة تخادع بذكرٍ من الإسلام. وكذلك المتسلطون المستبدون بأهوائهم على الرعايا المسلمة المتلبسون زخرفاً ظاهراً من صور الديمقراطية، هم اليوم يرفقون شارات زيف ليؤكدوا مزاعم النسبة للإسلام، وكلهم يحملون أحياناً على دعاة الإسلام الشاهدين الصاعدين بحق رشده السياسي والسلطاني خشية أن يودوا بهم إلى حرج فانفصال من الشرعية وإطّراح، ويدّعون أن حشر الدين في السياسة ليس إلا سوء استغلال لمحرماته، يتوهمون أنهم بالمنافقة يسترضون جماهير الرعية. ومهما يكن فدعوى الإسلام السياسي ينتشر ذكرها بذلك من حيث لا يشعر الكارهون. أما الجماهير المسلمة فهم اليوم أكثر وعياً بالإسلام الحق وأرجح وقعاً في مسيرة السياسة وأحمس للولاء والعطاء في سبيل الله، ومنشور الدعوة الإسلامية السياسية اليوم في غنىً عن إعلان نسبته حذر الغربة وفي كفاية عن علامة تجارية طلب الرواج."
وكانت تجربتي الجديدة في شركة معدات المكاتب تجربة معايشة لفساد إملائي يحمل في طياته فساد الشره، وفساد الاستباحة بالابتزاز من منتوج الدكتاتورية من سياسات التمكّن الترابية، ولأول مرة أشاهد الضحية هي المؤسسة الإنتاجية وهي شركة خدمات المكاتب.
غادرت كنانة والتحقت بمصنع القطاني للعلف الحيواني لبضعة أشهر إلى حين قبولي في شركة معدات البترول، الخاصة بنقيب المهندسين وقتها السيد مصطفى عبد الرحيم، وذلك قبيل التحاقي بشركة خدمات المكاتب الخاصة بأخيه بابكر عبد الرحيم.
الباشمهندس مصطفى عبد الرحيم كان مشرباً بالضبط والربط الإنجليزي العريق، وخلال عملي معه كان وكأنني أعمل في إنجلترا، لنظامه ودقته وجديته، والتي سيّر بها ورشته في الخرطوم بحري. هذا مجالٌ مناسب لطرح محاسن عمله كمثال طيب، وربما المثال الطيب الوحيد في تجربة عملي في السودان، حيث لديه العمل يتم بأدق المقاييس العلمية، ويظل السيد مصطفى عبد الرحيم مترفعاُ جداً من مغريات الفساد ومطبات الجشع، فنال احترامي واحترام كل موظفيه لدرجة تحسسك بالحياء في أن تكون في أقل من حسن ظنه الذي أجده معياراً كبيراً للمهنيّة والمصداقية... ومبعث للرضا ذاتياً في الثقة بالنفس
أطلعني السيد الباشمهندس مصطفى بأنه ينوي إلحاق ورشة جديدة بورشته الحالية لتصنيع خراطيش الضغط العالي، واشترى المعدات واستدعى مهندساً بريطانياً ليدرب مهندساً ليقوم بإنشاء الورشة ويكون المشرف عليها، وكلّفني لأشرف على تلك الورشة، وسلمني كل الكتالوجات والكتب الخاصة بذلك فجلست عليها ودرستها، وجاء الخبير وقام بتدريبي وأحد الفنيين الذي اخترت ليكون معي في عمل الورشة.
نجحت الورشة نجاحاً باهراً، واشتهر إنتاجنا بالجودة العالية، فاقترحت على السيد مصطفى التوسع فيه واقترحت دعوة شركة سكر كنانة (والتي وصلني منها دعوة للرجوع للشركة وامتداح شديد من طاقمها الأجنبي بعد أن غادر فيلاسكو – وكان الاتصال من بديله المستر قارسيا، والذين وعدت بالزيارة)
وافق السيد مصطفى على زيارتي كنانة، حيث فُرش لي تقريباً البساط الأحمر وأُنزلتُ في استراحتها الفخمة، وهناك اجتمعت بالمستر قارسيا ومهندسيه وأطلعتهم على مقدرات ومستوى الورشة في مدهم بمستوى رفيع من خراطيش الضغط، كما وقدمت لهم دعوة لزيارتنا.
وفعلاً لبّى المستر قارسيا وإثنين من الخبراء دعوتنا، وقام السيد مصطفى بتوجيهي باستضافتهم في حفل في القرين فيلدج، حيث احتفينا بهم، وبعدها قمت باجتماعٍ معهم لاطلاعهم على منتجاتنا ومستوى الدقة وتأمين المستوى، كما وأوفيناهم بمستوى الأعمال الإنتاجية لعموم الشركة، حيث عبّروا برضاهم وأن منتجاتنا كلها تلزمهم وتحرّي المستويات لدينا جعلهم يوصون بشراء كل احتياجاتهم منا بدلاً من استيرادها، كما وأشادوا كثيراً بجودة المستوى.
وبعد رجوعهم لكنانة أرسلوا خطاباً يطلبون فيه مدهم بكل ما نستطيع من منتجاتنا وإفادتهم بتفاصيل ما يمكننا مدهم به. إلا أن السيد مصطفى أخطرني أن ذلك خرج بعيداً عما كان يرجوه، وقال إن مثل ذلك لاتفاق سيضعه في الاعتماد كلياً على كنانة ويدخله في مهب ريح "الجشع والفساد" من أيٍ من الطرفين، وهو يكتفي بالتقدم في الإنتاج وما يماشي طبيعة المهنة والسوق، وهو له الثقة في عمله ولا داعي لإتلافه!!
أعجبت حقاً بقولته التي فتّحت ذهني على معايير مهمة لم تخطر على بالي قبلاً، واتخذتها "بوصلةً" أتحرى بها عقلانيتي في المهنية والنزاهة، قبل فرحتي وحماستي
شركة خدمات المكاتب:
استدعاني ذات يومٍ الباشمهندس مصطفى وأطلعني أن أخاه لديه شركة (خدمات المكاتب) تعمل في جنوب البلاد وأن لديه بعض المشاكل فلجأ إليه، ويعتقد أنني يمكنني المساعدة في ذلك، وأخذني في سيارته للسيد بابكر عبد الرحيم – الذي شرح لي أنه نفَذ ستة مشاريع في الجنوب من محطات مياه، ومستودع بترول ومحطات وقود للعربات، وأن لديه مهندس خبرة (جربندي) وليس أكاديمياً نفذها له ولكنها لم تعمل، وأن جامعة جوبا شكته للمحاكم وأن الباقين ينوون عمل نفس الشيء
كان ذلك في بداية عام 1983، عند تمرد جون قرنق في بور، ووعد بتحسين مرتبي ليتناسب مع المهمة بمنحي بدل سفرية مميزة، أسماها "بدل سفرية المهندس سعيد عدنان"، فوافقت. أطلعني على بعض التوصيات: أن مدير عمله هناك هو ذاك المهندس (الجربندي)، عطا المنان، الذي له عشرون عاماً في جوبا ويعرف كل لغات الجنوب وله علاقات نفّاذة مع السلطات هناك، وترجاني أن أقبله رئيساً عليّ وألا أحرجه أو أجرحه، ووعدت بذلك، ثم طلب مني أن أكون عيْناً له على أمانة العمل وأن أتصل به سراً إن كان هنالك أمرٌ يتوجب معرفته سريعاً
سافرت لجوبا ونزلت معسكر الشركة ومُنحت "قطية" وتعرفت على المدير وبقية العاملين – أخذني المدير لضيافته في النصف الثاني من المعسكر والذي جعله منزلاً له واقترح عليّ أن أرحل لجزء من منزله يخصصه لي، ولكني تحفّظاً رددت عرضه، وكان ظريفاً مرحاً سهل السجية، وله طرائف عدة: منها احتفاظه بستة أسلحة أراني إياها: مسدس رفولفر (دوار)، مسدس صغير، خرطوش، طبنجة، سيف وقوس، وتزوج جنوبية ذكية وحسناء وبني لها منزلاً خاصها رغم أنه متزوج وله أولاد كبار في أعمارهم، لكنهم يعلمون ويوافقون على زواجه...كان يثير الإعجاب
بدأت عملاً دؤوباً أذهب كل صباح عند بزوغ الفجر لكل محطة عمل ومعي تيم من العمال وكنت أعمل معهم بيديّ وبما يتوفر لدينا من معدات وملابس واقية، ونرجع بعد أن يصبح الظلام حالكاً، وكلما أكملنا عملاً سلمناه لأصحابه حتى أكتمل كل العمل في جوبا وتم تسليمه كله، وتبقت محطة مياه في مدينة لوا، بعيدة نحو حدود السودان (قبل الانفصال) الجنوبية، بضعة أميال من نيمولي، فبدأنا الإعداد للسفر لها.
كانت حياتنا في جوبا نشطة جداً، فكان مدير المعسكر لديه علاقات واسعة كما ذكرت آنفاً، خاصة مع إدارة النقل النهري، فكنا نزورهم ونستقى أخبار البلد منهم، وكان أحد أصدقائي من زملاء الدراسة في خور طقت عقيد في السلاح الطبي اسمه خليفة، وكان مديراً للسلاح الطبي في جوبا ومعه زوجته هندية، أيضاً طبيبة، وكنت ألتقي ، كما وتوطدت علاقات طيبة بيننا وبين الجيش- وكان الجيش يدعونا لمشاهدة ما سجلوا من مشاهد بالفيديو لعمليات عسكرية أو غالباً للمناظر التي يلتقطونها بعد المعركة، ويحكون لنا كيف أن هؤلاء الشهداء لهم ثلاثة أو أربع أيام في العراء ولما تم نقلهم كانت رائحتهم مسك، وكيف كانت الأشجار تكبر باسم الله عند مرورهم بها وكيف اكتشفوا أن الموتى من المتمردين والذين جاءوا بمدافعهم ودباباتهم كانوا مربوطين عليها حتى لا يهربوا، ثم أرونا مدفعاً ضخماً قالوا أن صدام حسين أهداه لهم وهو يفتح لهم طريقاً في الجبل – كلها علامات الباطنية التي هيمنت على النميري تحت إرشاد الإخوان
وكان هنالك ما يزعج الشخص المستجد في جوبا– غياب الضمير وجرأة الفساد – هاتان الصفتان ترسمان الاندهاش الكوميدي في وجه "الدخيل"
كان للمدير علاقة قوية مع دار الهاتف –يستعمل خدماتها وكأنها خاصته، يطلب أي محادثة وتوصل إليه على الفور ولأي مدةٍ يرغب، بدون حساب – كما ولديه النفوذ أن يوصي حتى في غيابه إلا يسمح لشخصٍ معين بعمل اتصالٍ معين أو مطلقاً يوصي به، ويجلس الأمر للتنفيذ في كل ورديات كبانية جوبا
أول معاملات ذاك الاندهاش كانت في شراء البنزين: نذهب لحوش كبير فيه كمية من البشر يحملون جركانات وجوالين مليئة بنزين، ويتسابقون لاختطافك لتشتري منهم، الجالون بعشرين جنيه (والسعر الرسمي في الخرطوم 90 قرشاً – تعجبت ولكن كان التوضيح أن كل ذلك البنزين يأتي كحصة الجنوب لجوبا، ويتم توزيعه براميل لكل من له سلطة وحسب سلطته، ويقوم صاحب الحصة بتسليمها لسماسرته لبيعها له في السوق السوداء – أو الأصح في السوق، لأن كل السوق سوداء
وكانت تجارة خشب التيك والمهوقني والأبنوس وسن الفيل مزدهرة: سراً، وسراً لتجاوز دفع أي ضرائب، فكانت اللواري تأتي من زائير محملة بهذه الأخشاب، وكان المدير يأخذني معه لورشة الشركة حيث لديه تيم من أبرع النحاتين الزائيريين والكينيين المدربين على نجارة الأثاثات الإنجليزية العريقة، وأجدهم يعملون في بناء أثاثات فاخرة وعمل نحت بديع، في المهوقني والتيك، وبعضهم يشتغلون في العاج، بينما اللوراي تواظب على تفريغ شحناتها على أساس أنه مشتريات الشركة، ولكن المدير أسر إلي بأن كل ذلك يخصه هو، وأين يضعه؟ كان رده أنه يرسلها للخرطوم بالنقل النهري مجاناً، والخدمة بالخدمة. خلال وجودي هناك كان يحل علينا أجانب من منظمات الإغاثة المختلفة – خاصةً الهولندية – ويطلبون إقامة محطة وقود لهم أو محطة مياه إلخ، فيُطلب مني عمل حسابات التكلفة وأقوم بذلك مع مراعاة التوجيهات التالية:
تكلفة المواد وتكلفة التصنيع في الورشة في الشركة الأخت: شركة معدات البترول + تكلفة الترحيل بالنقل النهري + تكاليف الاستلام والتخزين في جوبا + تكاليف التنفيذ في جوبا + هامش الأرباح
ثم إضافة تسعة أضعاف الناتج كهامش للرشوة! نعم: للرشوة نصيب تسعة أضعاف دخل المشروع، لأن الدفع يجب أن يشمل رئيس حكومة الجنوب (انجلو بيدا)، جميع الوزراء، جميع أعضاء مجلس الشعب، بونص خاص لوزير المالية، بونص خاص لوكيل وزارة المالية وبونص خاص للصرافين والمراجعين
ثم مبلغاً مماثلاً لذلك المبلغ العملاق إضافياً – بالعملة الصعبة: الدولار الأمريكي
يعني مشروع ال 50 ألف جنيه يتحول إلى مشروع 500 ألف جنيه + 500 ألف دولار
في بداية عملي في جوبا، جاء السيد بابكر عبد الرحيم لزيارتنا، وبذلك جاء أغلب الوزراء ونواب مجلس الشعب (كان مجلس الشعب قليل العدد – أعتقد عشرة) لزيارته في المعسكر، كلٌ له مطلبه، وطلب مني السيد بابكر بأن أدعه يسترح في قطيتي لأنه "زائغ" من أحد الوزراء الذي طلب منه أن يبني له منزلاً فكان له ما أراد، والآن جاء يطلب سيارة جديدة، فأعطيته مفتاح القطية وخرجت، فقضى يومه فيها والوفود تنتظره في باحة المعسكر
رغم كل ذلك التناسق كان المدير يأتي حماقاتٍ مسرفة: ففي عصر أحد الأيام، أمر أحد العمال ليجهز كرسيين ومنضدة في باحة المعسكر بعد رشها، وأرسل لي لأحضر وجلسنا في الكراسي وجئ بالشاي وبعض البسكويت من عنده، وهو "مزهزه" ومبسوط، وجاءه شاويش من مركز الشرطة والذي كان يجاورنا، حاملاً في يده سوط "عنج" فأشار المدير إلى أحد الشبان بجلابية يجلس في ظل حائط الباحة، وأمر الشاويش أن يجلد ذلك الشاب حتى "يوسخ نفسه"! فقمت غاضباً وقلت للمدير هذه أشنع خطيئة ممكن أن ترتكب، ليس لقسوتها فقط، إنما لتغذية فساد السلطة في ذلك الشاويش المأجور ولبلادة القرار في وقتٍ فيه تمرد من قوم يتظلمون من سوء معاملتهم ومظلوميتهم، والهدف تافه: تنفيث حقد! وخرجت. كتبت للسيد بابكر باستيائي ذاك، ثم أوفيته بتفاصيل الأعمال التي قمنا بها وتكلفتها ودخلها
إكتمل الإعداد للسفر ل "لوا" وتحركنا ببطاح يحمل مولداً كهربائياً وعربة جيب وورشة كاملة ومعدات معسكر وأغراضنا الخاصة
هناك في لوا كانت المياه من البئر مالحة جداً ومرة، ولكن كان علينا أن نشربها، فقد علمنا من الأهالي أن لا مشكلة معها – وكان معنا أحد العمال المهرة اسمه خميس، جاء ومعه مواطن أعمى يطلب عملاً، وأجبت أن ذلك غير ممكن، فحكى لي قصة ذلك المواطن – ذلك المواطن مثابر جداً، فبينما الناس في لوا لا يعملون ويشربون الخمور البلدية كنشاطهم وهويتهم الاجتماعية، فإنهم يقومون بجمع الثمار والحبوب من النباتات الخلوية، أو ما يزرعون داخل بيوتهم وذاك يكفي مع ما لديهم من أغنام لقضاء احتياجهم الإجتماعي، ولكن ذلك الشخص فكّر أن يستصلح أرضاً أوسع ويزرعها، وفعل ذلك وجاءه دخل محترم منها، وغضب الأهالي: أيريد أن يتعالى على بقية المجتمع؟ أيقوم بتأسيس طبقية؟ فسمموه ولكنه لم يمت وفقد بصره. فوافقت على أن يعمل مورّد ماء من البئر على صفيحتين في كتفه للمعسكر ولأعمال البناء
شرح لي خميس عملية التسميم وكيف تتم: أنه في حالة قرارهم بتسميم شخص، يلبس الفاعل في إصبع يده مصران خروف، ولديهم سم زعاف يسمم عبر الجلد، فيمسح السم على إمعاء الخروف على الإصبع، ويصافح به الضحية أو يمسحه على عنقها، ويموت الشخص سريعاً وأحياناً يصاب بالعمى أو الكساح. أسبابهم التي يشرعون فيها بهذه العقوبة منها: إذا غريب غازل فتياتهم، أو حاول مواطن الارتفاع عن مستوى البقية، أو لم تكُ تعجبهم بشكل أو آخر، أو تصرفاً من معتوه لا يلوى على شيء، كله جائزٌ. وحكى لي أن امرأة عجوز أقبلت لتصافحه واستدرك في آخر لحظة احتمال إحتمال تسميمه، ولهذا حذرني
بعد تركيب الطلمبات وتشييد حامل الصهريج، قمنا لرفع الصهريج بالحبال برافعة "كرين" يدوية، ولكنها انكسرت، فطلبت من خميس مراقبة البص (اليومي والأوحد) القادم من نيمولي إلى جوبا، لأغادر فيه لإحضار بديل مناسب، ولما شوهد البص أُخذت بالجيب إلى شارع البص في انتظاره.
علمت أن رحلته تستغرق 8 ساعات لجوبا، وكان مزدحماً ومحملاً إلى درجة التكسيح، وقام الركاب الطيبون بإفساح مقعدٍ أمامي لي، وبدأت أشعر بألمٍ في بطني وأخذ الألم يشتد بانتظام، وأصابني الخوف أن يكون أحدهم قد سممني، وزاد الألم وبلغ حداً لا يحتمل، فكنت أتأوه وأتلوى، وأخيراً رقدت على أرض البص، والبص بطئ والطريق وعر، وكانت وكأنها رحلة أبدية حتي وصلنا مشارف بور حيث عبور الجسر، فأوقفنا للتفتيش فنزلت ووجدت بكاسي للإيجار للمدينة فاستأجرت واحداً وطلبت من السائق يأخذني فوراً لجوبا للسلاح الطبي وطلبت أن أرقد في الصندوق الخلفي لأنني لا أستطيع الجلوس، ووصلنا السلاح الطبي بالليل وأوقفنا، فطلبت من الحرس الاتصال بالعقيد خليفة الذي أذن لنا بالدخول واقتادونا لمنزله، فمارضني هو وزوجته الهندية، أخذ عينة من البول ثم حقنني حقنة ࢤاليوم فنمت، ولما استيقظت كانت نتيجة الفحص وصلت، بأني أصبت بالتهاب حاد في المجاري البولية. عزا ذلك للمياه المالحة التي كنا نشربها، وأعطاني مضادات حيوية وعقاقير أخرى، ولكنني أصبت بملاريا خبيثة رغم أننا كنا نتناول وقاية الملاريا وكنت أشرف شخصياً على توزيعها والتأكد من تناولها (حتى لا يبيعها)
أرسلت للوا البديل للرافعة وتم التشغيل بنجاح
كان المدير في الخرطوم، فواجهه السيد بابكر، الذي كان لا علم له بالمحصل الأجنبي من الدخل، فقام المدير بنفي ذلك وتذرّع بتوجيه تهمٍ لي مدعياً أنها السبب، فصدقه السيد بابكر وأرسل لي خطاباً يبين فيه إيقافي من العمل وأن أنتظر لجنة تحقيق، وكانت مهمتي في الجنوب قد انتهت وقد أعددت للرجوع لمراسم زواجي، فحاولت الاتصال ببابكر تلفونياً ولكن وجدت أني في حظر اتصال، وتوجيه لرئيس الحسابات ألا يصرف لي أي أموال ولا حتى مرتبي، فذهبت للمطار أبحث عن طائرة مسافرة للخرطوم، ووجدت طائرة "هيركيوليس" يقف بقربها ثلاثة ضباط على رأسهم عقيد، فاستأذنت أمن الطيران المدني أن أتحدث مع طاقم الطائرة وسمحوا لي، ولما ذهبت وجدت زميل الدراسة في خور طقت العقيد عامر الزين هو قبطان الطائرة، وتصافحنا وشرحت له فوافق بسفري معه، وسافرت للخرطوم
هناك قابلت السيد بابكر وشرحت له الملابسات والكذب الذي غذّوْه به، وطلبت رد حقوقي، ولكن رئيس الحسابات رفض، ونصح بابكر بالرفض، فتقدمت بشكوى لمكتب العمل وكسبت الشكوى وتم تعويضي حقوقي كاملة بما فيها الرفت التعسفي.
تم زواجي وأنا عاطل من العمل، ولكني كنت قد دخلت معاينات مهندسين للعمل في الشركة العربية السودانية للنشا والجلكوز وهي تحت الإنشاء، وبعد أسبوع من زواجي تم استدعائي وإخطاري بفوزي بالوظيفة، وكانت بدايتها تدريباً لمدة شهر في بلجيكا، وسافرنا أنا وعروسي بعد أن وافق البلجيك وقضينا شهر العسل هناك., في التدريب
قام بابكر بإهدائي قنينة عطر أكبر ما رأيت، هدية زفاف، فذهبت بعد رجوعي لأشكره، فاقترح على رجوعي للعمل معه وأنه مستعد أن يقابل كل طلباتي، فاعتذرت أنني في العادة لا أعود لمكانٍ لم أوفق فيه، فشرح لي أن ورشته في الجنوب سرقها مديره عطا المنان وإنه تغفّل حينما استهان بتحذيراتي، وحالياً ينشئ واحدة جديدة في الباقير حيث أنه "طلّق" شغل الجنوب وأنه يتوقع زيارة أجانب سيقومون بإنشاء الورشة له، ويحتاج إليّ في مقابلتهم، فوافقت على مساعدته ولكن دون مقابل
أخطرت زوجتي بتلك القصة، وجاء عطا المنان لزيارتنا ليهنئنا بالزواج ويطلب مني العمل معه، وسألته إن كان صحيحاً ما سمعت من بابكر أنه سرق منه الورشة، فأجاب وهو "يختج" بالضحك، أنه صحيح، وأخرج من جيبه ورقة "مروّسة" باسم شركته الجديدة وشعارها: نفس الإسم والشعار القديم مع تحريفات بسيطة، وحكي لنا "مكره" بأنه خطط لذلك من البداية، فالأرض التي أنشئت عليها الورشة كانت ملكاً له وأنه تأكد من تعامل الزبائن معه، وترك تعامل المرتشين مع بابكر.
وكانت أول تجربة أشهد ضحية الفساد فيها هو صاحب العمل – وخلافاً لفساد الشره والطمع سبباً – يكون فساد الاستباحة هو السبب – وذاك أخطر بكثير
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.