من محاسن الصدف أن يتوافق الاحتفال العالمي بيوم التطوع في 5 ديسمبر بذات الشهر المقرر فيه انطلاق الإحتفال بثورتنا المجيدة. فقد تجلت في هذه الثورة أنبل القيم الكامنة في كيان الشخصية السودانية ، فقد استنفرت الشخصية السودانية القوة التي لا معقّب بعدها وهي قيمة التطوع ، والتي مثلت الدافع والمحرك الأساس للثورة ورفدها بطاقة إيجابية من معين مكنون في أعمق أعماق هذه الشخصية المتفردة ، فإنبجست ينابيع العطاء الرقراقة ، وتُرجمت بأكثر من لغة معاني الشهامة. ولعل في مشهد ذلك الطفل من حي الموردة الامدرماني في أول أيام الثورة وهو يحمل بكل همة (كيس) السندوتشات للثوار وعلي محياه إبتسامة جذلي بروح العطاء تكلل وجهه الطفولي البريئ، عندما تدفقت الجماهير الثورية بتلك العفوية الرائعة. فقد كان ذلك موقف ملهم أعطي وحيا إيجابيا بأن الذي يجري ليس فورة غضب عابر ، وإنما حالة رفض مجتمعي للنظام الحاكم وباصرار وضع فيه كل الثوار أرواحهم تطوعيا فداء للتغيير تأسيسا علي شعار الثورة الأثير (رص العساكر رص الليلة ، تسقط بس) في تحدي واضح لآلة البطش التي اعملها النظام لقمع الثورة في مهدها ، فقد استمدت الثورة درجة عالية من التصميم من وحي التطوع عندما أخذ الشهداء يرتقون الي بارئهم ، والجرحى ينزلون بالمشافي. فتصاعدت لهجة التحدي في شعار يعكس حالة تطوع ببذل الروح إن إقتضي الأمر فكان هتاف الثوار .... (يا نموت زيهم يا نجيب حقهم). وهنا حُرقت كل مراكب التراجع ، وتفتحت مسامات الثورة بعد إغتسالها بدماء الشهداء الطاهرة ، وانعقد العزم علي مفارقة الخذلان علي خيار واحد بإحتمالين ( النصر أو الشهادة) فسرت في الجموع المائجة روح بمس إلهي يستمد جذوته من حرقة أنفاس أمهات الشهداء علي فلذات أكبادهن. فكان التبرع بالدم للجرحى عبر النداءات المختلفة، ثم تولي نفقات علاجهم من خلال ما بذله سودانيو الشتات بالخارج من حر أموالهم. وما نضح من نضالات لجنة أطباء السودان المركزية. وما انفتح من أبواب البيوت الحانيات للثوار أثناء مداهمات العسس لهم ليجدوا الملاذ الآمن والماء البارد. لم تخف علي المراقبين والمتابعين لمسار الثورة في منعرجاتها الحرجة ، تلك المجهودات الفردية و المنظمة التي كان يضطلع بها الناشط ناظم سراج ، من أجل تعبئة موارد المقاومة المجتمعية وما أحدثته من أثر فارق في توحيد الوجدان التضامني، ولما تحسس النظام خطورة ما كان يقوم به من نشاط، زج به ورفاقه في غياهب المعتقل، ليغل خطو الثورة والثوار و يحجم طاقاتهم التطوعية حتي يضرب الثورة في مقتل. إلا أن العزائم الماضية التي حُقنت بها شرايين الثوار ، قضت بألا تراجع حتي وإن امتلأت السجون و الزنازين بألف ناظم وناظم. فقد أخرجت طاقة التطوع مارد الشعب من قمقمه. فما كان له الا أن يحقق غاية ما خرج لأجله الشهداء تحقيقاً لشعار (تسقط بس). وهكذا انتصرت الثورة بتلك الروح التطوعية الوثابة والتي نُفخت في روع الثوار عبر لجان المقاومة في حملات ( حنبنيهو) حتي صار التطوع أساساً للثقافة الثورية ووقوداً لها في نفس الوقت. إن حجم التضحيات ببذل الجهد والمال وأغلي من ذلك بالأرواح والمهج في تلكم الملاحم الثورية، كفيل بأن يحرك حكومة الثورة في إطار فعاليات الاحتفاء بذكري الثورة لتكريم كل من أسهم في تلك الملاحم التي أخرجت أفضل ما في هذا الشعب النبيل ، فقد كان في قلب تلك الملاحم نفر من الجنود المجهولين ولاشك ، إلا أن شخصية ناظم سراج قد جسدت محورية فعل التعبئة حتي صار مرجعاً مؤتمناً لفعل التطوع بعلاج الجرحى ، وتأمين مؤونة المعتصمين أكلاً وشرباً علي أيام الإعتصام المباركات ، لذلك يتوجب إعلانه شخصية العام لأنه تجسيد و رمزية لكل تلك التضحيات النبيلة التي بُذلت بلا مَنّ ولا أذي فهو أهلٌ لذلك وبه جدير.