انطلقت في العاشر من ديسمبر 2019م، المفاوضات المباشرة بين الحكومة السودانية الانتقالية -حكومة الأمر الواقع وحركات الكفاح المسلح لإنهاء الصراع المسلح في السودان بغية إرساء دعائم السلام الشامل العادل والدائم كما يزعمون في تصريحاتهم الكثيرة جدا. ولأن جذور الصراع والمشكلات التي اقعدت بالسودان عقودا عن الإزدهار والتقدم والرقي، واشعلت الحروب العبثية، وقادت حركات الكفاح الثوري المسلح لرفع السلاح ضد الحكومات السودانية المركزية منذ الاستقلال المزيف، تتعلق بالهوية والثقافة الآحادية واللغة الواحدة المفروضة على الكل رغم تعدد اللغات في البلاد،.. فإن الحركة الشعبية لتحرير السودان أهم حركات الكفاح المسلح في السودان، رأت أن حسم هذه المسائل المعقدة والوصول إلى سلام حقيقي وعادل وشامل ونهائي، لا يتحقق إلآ من خلال تطبيق العلمانية. لكن ما هي العالمانية؟ العلمانية ليست "عقيدة أو دين" كما يحاول تجار الدين ودجاليه تصويرها، إنما هي حركة فكرية تعني صياغة قواعد عامة تحدد أسس إدارة الدولة وقواعدها بما يميز بين الحياة الخاصة للأفراد وبين الحياة العامة. إذن العلمانية التي تدور حولها اللغط والتشويش، تعني الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأديان والمعتقدات واحترامها، أي أنها لا ترفض الدين كما يزعم تجار ومخدري عقول الناس، إنما تعني العدل مع جميع المواطنين على حد السواء أياً كانت ديانتهم. وبالمعنى أعلاه للعلمانية، قدمت الحركة الشعبية لتحرير السودان رؤيتها لحل أزمات ومشكلات السودان المختلفة بصورة نهائية، إلآ أن هذه الرؤية اصطدمت بأصحاب الأفكار الدينية الذين يرفضون العلمانية بحجة أنها تتعارض مع الدين، وهم يدركون تماما أنهم يتكلمون فقط عن مفهومهم الخاص أو عن مفهوم بعض الفقهاء الدجالين للدين، ذلك أن القرآن الكريم نفسه والذي يعتبر مصدرهم الديني الأول، يرفض الإجبار والإكراه بصورة مطلقة من خلال هذه الآيات: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) و(وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ) و(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ). وإذا كانت العلمانية هي "اللا دينية"، لكنها لا دينية الدولة، لأن الدولة هي مجموعة من المؤسسات والهيئات والأجهزة التي تعمل وفق قوانين هذه الدولة، وليس لها دين خاص بها، وتقف على مسافة متساوية من جميع المواطنين على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم، والمواطنون بالنسبة لها أفراد فقط، ولا يعنيها أن يكونوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو غيرهم.. فلماذا ترفض حكومة "قحت" ووفدها المفاوض إلى جوبا الذي يدعي تمثيل الثورة والثوار، العلمانية التي انعكست في شعارات الثورة (حرية سلام وعدالة)؟ هل رفض حكومة "قحت" وهي بالضرورة نسخة من النظام السابق، للعلمانية في السودان يأتي من حرصه الشديد جدا على الدين الإسلامي الذي لديه رب يحميه ويرعاه.. أم لأن العلمانية تهدد امتيازاتها التأريخية التي اكتسبتها بالخداع والكذب والتضليل؟ عزيزي القارئ.. حكومة الأمر الواقع الرافضة لتطبيق العلمانية في السودان، لا تفعل ذلك حرصا منها على الدين الإسلامي الذي له رب جبار قهار يحميه، إنما تفعل ذلك خوفا على مكتسباتها وامتيازاتها التأريخية التي حصلت عليها (بالأونطة والبلطجة والإستهبال). نعم، إنهم يخشون على مصالحهم الخاصة وعلى بضائعهم القديمة الموجودة في مخازن الطائفية والإقطاعية ووولخ، لأن بتطبيق العلمانية ستصبح جميع الأفكار المتصلة بالمجتمع والحياة والسياسة عرضة لإعادة التفكير وفق العقل والمنهج العلمي. وبالعلمانية سيصبح الجميع على قدر المساواة في الحقوق والواجبات وبالتالي عدم وجود أي شكل من اشكال التمييز بين المواطنين، سلبا أو إيجابا. يخشون من العلمانية، لأنها تعمل على تحرير الدولة من سلطة رجال الدين وشيوخ الإفك والدجل، فهي لا تتيح إمكانية أن يُستخدم الدين كأداةً بيد السلطة السياسية الحاكمة، على نحو ما حدث في عهد النظام السابق (الإخوان المسلمين)، الذي وجد في الدين إحدى وسائل الضبط الاجتماعي لتكريس سلطته، وهو ما يتعذّر في ظلّ العلمانية، بما تقتضيه من فصل بين المجال السياسي والمجال الديني. بصراحة عزيزي القارئ.. ** حزب الأمة القومي الذي هو مكون من مكونات (قحت)، لم ولن يقبل بالعلمانية في السودان، لأن العلمانية ستقضي على زعامة الصادق المهدي لهذا الحزب بالضربة القاضية.. ** مكونات "قحت" من الأحزاب القوميجية العروبجية، لن تقبل بالعلمانية، لأن العلمانية ستقضي على أوهامهم في انشاء دولة عربية واحدة برسالة خالدة.. ** محمد حمدان دقلو (حميرتي)، لا يقبل بعلمانية الدولة السودانية، ليس لأنه "إسلامي"، لكن لأن لديه امتيازات حصل عليها في عهد النظام السابق ولا يريد فقدانها بقبول مثل هذه الدولة التي ستسن قوانينا وضعية تلاحقه في عدة جرائم جنائية في دارفور وجبال النوبة ومناطق أخرى من السودان، وعلى جرائم مالية واقتصادية ذهب (جبل عامر).. ** الشق العسكري في المجلس السيادي لا يريد دولة سودانية علمانية، لأنهم كالإسلاميين يرون في العلمانية كُفراً وإلحاداً.. ** الشق المدني في المجلس السيادي الحاكم، يمسك العصا في أو من منتصفه، وهو لا يمانع من قيام الدولة العلمانية التي تنادي بالفصل ما بين الدين والدولة، ومن جانب آخر لا يمانع من الدولة الدينية التي تجعل مرجعية الحكم منوطاً بمدى مطابقة نصوص دينية مقدسة وتفسيراتها.. وإزاء تهرب حكومة الفترة الانتقالية (قحت) من مسؤولياتها، ورفضها غير المبرر للعلمانية التي طالبت بها الحركة الشعبية لتحرير السودان كحل لإحتواء وإخماد النزاعات والصراعات الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية واللغوية في السودان، فإن حكومة "قحت" بمختلف دكاكينها ومخاذنها، تتحمل أي فشل لجولة المفاوضات الجارية في جوبا حاليا. وتتحمل أيضا كامل المسؤولية إذا ما صعدت أي سلطة دينية، أو سلطة القبائل والعشائر، أو العسكري إلى الحكم. ملحوظة: إن التمايزات الثقافية والعرقية والدينية واللغوية، وإختلاف الرؤى والمواقف السياسية، هي تمايزات حقيقية وواقعية في السودان، وكيفية إدارتها والتعامل والتفاعل معها سيقود بشكل أو بآخر، إلى الاحترام والتسامح والحوار والقبول والتعايش مع الأخر، لكنها بالضرورة تحتاج إلى "العلمانية" المفترى عليها من قبل قوى إعلان الحرية والتغيير (قحت). عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.