من بشائر العيد الأول للثورة قرار السيد عبد الله حامدوك، رئيس مجلس الوزراء، بأن يكون علاج مصابي ثورة ديسمبر داخل وخارج السودان على نفقة حكومة السودان. وهذا ربما أول اشتغال حكومي ساطع بشهداء الثورة وجرحاها تجاوز القصاص لهم إلى العناية بهم. وأخذت على القرار ثلاثة أمور. أولهما تسمية رئيس الوزراء ب"معاليك" في الأنباء. وهي كلمة من فسق الإنقاذ وانجعاصتها وددت لو حررنا لساننا منهما. أما الأمر الثاني فصدور القرار من رئيس مجلس الوزراء لا من مجلس الوزراء. ويعيدني هذا إلى أيام "الرئيس القائد" الذي بوسعه اتخاذ أي قرار وللتو حتى في مثل تغيير اسم قرية مثل "العار" ل"العال". وهذا منزلق يغري رئيس الوزراء أن يرتجل القرارات ارتجالا لا يرجع فيها إلى الوزراء المختصين. وبلغ "الرئيس القائد" من ذلك أن صار يهدي المال العام ويتبرع به "قطع أخضر" لا "يعتمده" وهو الأصل في أداء الحكومة. ورأيت قرار رئيس الوزراء بالفعل وجه وزراء الصحة والعمل والضمان الاجتماعي ومجلس الوزراء بمتابعة القرار. فأوجدهم بعد القرار لا قبله. ولم أجد وزير المالية بين الوزراء المنتدبين لتنفيذ القرار وهو الذي بيده مفاتيح المال. أما الأمر الثالث فمتصل بالثاني وهو خلو القرار من خلق مؤسسة بشخصية اعتبارية بالدولة تتولى هذه المهمة من استقبال طلبات العلاج، وفحصها، وإجازتها، وتحويلها لجهات الاختصاص الطبية والقومسيون الطبي لوضع كل مصاب حيث ينبغي له أن يكون. ولا أعتقد أن لجنة الجرحى والمصابين والمفقودين بقحت جهة اختصاص في المسألة بعد أن عبأت الحكومة سياسياً لأخذ علاج مصابي الثورة تحت جناحها. وهو غاية ما يناط بها. تسوقني مسألة مؤسسية ضحايا الثورة إلى اقتراح خطر لي خلال محاولتي استنقاذ "مؤسسة الشهيد" الإنقاذية من الحل-البل بعد أصوات تنادت إلى ذلك. وكنت قلت إن هذه المؤسسة هي أول عناية "بروقرطية" (في معناها الحسن عند ماكس فيبر) بشهداء (مهما كان رأيك فيهم) في تاريخ السودان. فلم يحظ رتل الشهداء منذ المهدية و1924 و1964 و1985 وما بينها (الجمعية التشريعية 1948 جودة 1956، الأنصار في المولد عام 1961) بعناية من الدولة تُوفي الشهيد والمصاب والمفقود حقهم كاملاً غير منقوص. وحز في نفسي أن الدعوات للتبرع الأهلي لمثل ضحايا هبة 2013 وغيرها ضاعت أدراج الرياح والجراح طرية. لقد أعادني إلى وجوب مؤسسة في الدولة للشهداء والمصابين والمفقودين كلمة أخيرة قرأتها من أسرة شهيد شكت من خمول ذكر ابنها في الإعلام. فقالت والدة الشهيد أحمد عبد الفتاح إنها لا تبكي على استشهاده بل على نسيان ذكره: "أنا بقعد جنب التلفزيون كل يوم عشان يمكن اشوف صورة ولدي شهيد، بس ولدي ما معاهم". وواصلت حديثها قالت إنها لو "بتعرف في الفيسبوك كان نزلت صورتو عشان الناس تترحم عليه".وسأل من نقل وجع هذه الأم من لجان المقاومة في سوق ليبيا أم بده، حيه، أن تصل أهله وتعزي أسرته. فلو قامت بيننا هذه المؤسسة لعرفت الأسرة بمن تتصل وترفع شكواها. اقترحت أن نبدأ بالعناية الرسمية بضحايا ثورتنا بمؤسسة الشهيد القائمة ليومها في الدولة. وأن نوسع من مهامها لتعنى بالجرحى أو ما يمكن تسميتهم بقدامى المحاربين. وأن نعتمد قوائم من فيها من تركة الإنقاذ كالتزام من الدولة تجاه أسر لم يكن لها خيار فيما اتفق لأبنائها وبناتها بعد إجراء مراجعة دقيقة لها. وأن نضيف إلى هذه القوائم سائر شهداء الثورة السودانية ضد الإنقاذ. وأن تقوم عليها إدارة ممولة من الحكومة بحيث لا تكتفي بذلك بل أن تبرع في تنويع مصادرها. قال أحدهم إنه لا وجيع للمستضعفين مثل الدولة. وليس مثل ضحايا الثورات من مستضعفين بيننا حسب تجربتنا التاريخية. وسترى أن الإنقاذ حين وضعت ضحاياها بين دفتي الدولة الزمتنا بهم. فالدولة، متى عدلت، لا تفرق بين الخلق. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.