قرار المحكمة الذي قضى بإدانة وإعدام قتلة الشهيد المعلم أحمد خير المنتسبين لجهاز الأمن والمخابرات يعتبر سابقة لم تحدث مطلقا في تاريخ أجهزة المخابرات حول العالم.. لم يحدث في تاريخ أجهزة المخابرات في كل العصور القديمة ، الوسطى ، المعاصرة والحديثة أن تم الحكم بإعدام مثل هذا العدد من جهاز واحد وفي قضية واحدة .. هذا الحكم يؤسس لسابقة قضائية لا مثيل لها في التاريخ .. حتى جهاز النازي هتلر (الجستابو) أشهر وأقسى جهاز مخابرات في تاريخ البشرية لم تشهد محاكماته بعد الحرب العالمية الثانية إدانة مثل هذا العدد والحكم بإعدامهم في جميع القضايا التي أقيمت ضدهم في محاكمات نورينبرغ الشهيرة التي تم تشكيلها من قبل الحلفاء الذين وضعوا حدا لهمجية ووحشية عصر الرايخ الثالث .. وبحكم الواقع التعيس لجهاز الامن والمخابرات فالمؤكد أن منتسبي الجهاز لو تمت محاكمتهم في جميع القضايا والجرائم التي يفترض فتح ملفاتها ( قضايا التعذيب المفضي إلى الموت وقضايا الاغتيال السياسي وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية .. وغيرها) ، لو حوكموا في جميع هذه القضايا والجرائم المرجح أن يرتفع عدد المدانين والمحكومين بالإعدام إلى المئات وربما الآلاف.. الحكم الذي صدر في قضية الشهيد المعلم أحمد خير لا يمثل فقط إدانة قانونية وأخلاقية للنظام البائد وأجهزة أمنه وإنما يؤسس أيضا لترسيخ وتأكيد حقيقة كبيرة لا يجب تجاهلها مطلقا .. هذا الجهاز الدموي الموغل في الوحشية والهمجية لا يجب أن يكون نواة لجهاز مخابرات محترم في عهد ديموقراطي جديد يقوم على سيادة حكم القانون وصيانة حقوق الإنسان.. القرارات التي قضت بإعادة هيكلة الجهاز وتجريده من السلطات والصلاحيات الخاصة بالقبض والاعتقال وغيرها من سلطات وصلاحيات يجب إعادة النظر فيها فورا لأنها ببساطة غير كافية .. مثل هذه القرارات كانت ستكون صحيحة وموفقة لو تم تطبيقها في حالة جهاز أمن الدولة عام 1985 ولكن ضيق الأفق السياسي دفع القيادات السياسية في ذلك التاريخ إلى إصدار قرار بحل وتصفية الجهاز وتسريح منتسبيه.. الان التاريخ يعيد نفسه ولكن بشكل معاكس فبدلا عن حل وتصفية جهاز الأمن والمخابرات صدر قرار بتجريده من صلاحياته وبتحويله لجهاز لجمع وتحليل المعلومات وهذا القرار يشوبه خطأ استراتيجي كبير وذلك لاسباب كثيرة منها : أولا : جهاز الأمن والمخابرات هو جهاز عقائدي يُدين جميع أعضاءه بعقيدة حزب سياسي معروف ولا تتوفر فيه أدني صفة للقومية أو لعقيدة الدولة أو الوطن.. ثانيا: يفتقر الجهاز لعنصر الإحترافية Professionalism الذي يميز كافة أجهزة المخابرات حول العالم فبدلا من احتراف عمل المخابرات الحقيقي انتهج الجهاز على الدوام أسلوب استبدادي يقوم على العسف والترهيب وممارسة العنف وارتكاب الجرائم لإرهاب المعارضين وهي ذات الوسائل والأساليب التي تميز أجهزة الأنظمة الشمولية ويصعب إجتثاثها في جهاز ظل يمارسها بشكل ممنهج طيلة ثلاثة عقود .. ثالثاً : للجهاز سجل حافل بارتكاب الجرائم الوحشية والجرائم ضد الإنسانية علما بأن الاتهامات في هذه الجرائم طالت جميع قياداته وأغلب منتسبيه ولذلك فالجهاز غير مؤهل أخلاقيا للاستمرار في عمله ومن المرجح أن يتم فتح جميع الملفات التي تكشف النقاب عن تلك الجرائم خلال الفترة الإنتقالية ولذلك فإن جهاز الأمن سوف يظل في موقع الإتهام بصورة دائمة ومستمرة.. رابعا: يعتبر جهاز الأمن والمخابرات الجهاز الوحيد في العالم الذي يمتلك قوة مسلحة قوامها الآلاف من المقاتلين ، هذي بدعة لم تلجأ إليها أسوأ أجهزة المخابرات في التاريخ المعاصر والحديث وهي تجعل من الجهاز عنصر تهديد للدولة وللمواطن على السواء.. خامسا : يعلم القاصي والداني أن جهاز الأمن الحالي هو بمثابة الإسفين الذي دقته حكومة الإنقاذ لإجهاض أهداف الثورة وهو أحد أكبر قلاع الثورة المضادة ليس للحكومة الإنتقالية فحسب وإنما لجميع الحكومات التي يمكن أن تخلفها ، فلا يمكن لجهاز يشكل خطرا على الدولة وعلى سلامتها وعلى مكتسبات الثورة أن يكون حامياً لها .. ذلك من رابع المستحيلات.. سادسا : منذ إنشائه مطلع تسعينات القرن الماضي إنحرف هذا الجهاز عن عمله الحقيقي واتجه لتكوين إمبراطورية تجارية خاصة تضم المئات من المؤسسات والشركات العاملة في مجال البترول وتعدين وتصدير الذهب والسياحة والتجارة العامة وغيرها من أوجه التجارة بل وصل به الأمر إلى إحتكار توريد بعض السلع الضرورية مثل الدقيق وأصبح يمتلك المصانع والمطاحن وشيئا فشيئا تحول الجهاز إلي ما يشبه دولة داخل دولة مستفيدا من التسهيلات المالية والتجارية والقانونية التي تقدمها الدولة ، ولم يكن الغرض من إنشاء تلك المؤسسات التجارية الضخمة إستخدامها كواجهات أو أغطية للعمل الاستخباري وإنما كمؤسسات تجارية حقيقية تدر أموالا ودخلا خرافيا للجهاز علما بأن المؤسسات والشركات التابعة للجهاز لا تخضع للمراجعة أو الرقابة الحكومية بأي شكل كان ولا أحد يدري إلى أين تذهب تلك الأموال الطائلة.. ذلك غيض من فيض وكثيرة هي الأسباب التي تدعو للتخلص من هذا الجهاز قبل أن يتفاقم أمره ويستفحل خطره ويتحول بمرور الوقت إلى داء مزمن يصعب استئصاله .. ولا بد من الاشارة الى ان جميع القرارات التي سبق إصدارها بخصوص جهاز الأمن هي محض مسكنات ولا تمثل حلولا جذرية للقضاء على التهديدات الأمنية بالغة الخطورة الناجمة من بقاء هذا الجهاز على حاله .. وعليه فإن إعادة النظر في مصير هذا الجهاز والعمل على إجتثاثه من جذوره هي مسئولية تاريخية تقع على عاتق الحكومة الانتقالية بقيادة حمدوك .. فمتى يستبينوا النصح يا ترى .. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.