إن الدعوة لبلشفة الثورة السودانية، و فتح مسار جديد لها بذلك، لا تعني بالضرورة تبني النموزج القديم الجاهز للبلشفة في الإتحاد السوفيتي، بقدر ما هي محاولة مني لتقريب وجهة النظر للقارئ و المواطن، عن ما أتوقع و أفترض، أنه المسار المناسب للثورة السودانية، بإقترابها من ذلك النموزج القديم في بعض الجوانب، و تخطيه في جوانب أخري كثيرة، بحكم الصيرورة التاريخية و تغير حركة العصر و تراكم التجربة الإنسانية. كما إستفادت الثورة الروسية عام 1917 م من تجارب و خبرات الثورة الفرنسية السابقة لها عام 1789 م، و التي بدورها إستفادت من الثورة الأمريكية عام 1765 م، ها هي ثورة ديسمبر 2018 م السودانية تستفيد من كل ذلك الرصيد و الزخم الثوري الهائل للإنسانية، لتنتج لنا ثورة بلشفية بنكهة سودانية خالصة. هذه النسخة البلشفية السودانية، التي أدعو لها و أسميها "البلشفة المقبولية" لتمييزها عن "البلشفة اللينينية"، تأتي معبرة عن خصوصيتها الثقافية و الزمكانية، و متناغمة مع سياقاتها العصرية، و مستفيدة من تراكم خبرات الزاكرة الإنسانية، و مستهدية بالمعارف الكونية المختلفة. مِثل الثورة الروسية التي مرت بثلاثة مراحل، ها هي الثورة السودانية تنجز المرحلة الأولي للتغيير التي إنتهت بتشكيل الحكومة الإنتقالية، و ندخل في المرحلة الثانية للثورة، التي تتطلع فيها لجان المقاومة في الأحياء و المدن و القري، لتولي السلطات الحقيقية المباشرة في الدولة، بإعتبارها الفاعل الأول في الثورة و صاحب المصلحة الحقيقية في التغيير، و من بعد ذلك ندخل في المرحلة الثالثة للثورة، و هي مرحلة البناء و تحديث القاعدة الإنتاجية السودانية و تطوير البنية الصناعية و التحول الرقمي في الدولة. كما إستعانت حكومة كيرنسكي بالسوفييات في بداية الأمر، هي ها حكومة حمدوك تستعين مضطرة بلجان المقاومة السودانية المختلفة، و في عدة نواحي، من أجل ضبط السوق و مراقبة التوزيع، و في إطار سعي الحكومة الإنتقالية للصمود أمام تكتيكات الثورة المضادة للمنظومة الإقتصادية القديمة. ليس هناك تناقض في إستعانة حكومة حمدوك بلجان المقاومة من أجل مساعدته، و بين مشروع لجان المقاومة المستقبلي بإزاحة حكومة حمدوك نفسها و الجلوس مكانها، لأن الصراع الآن أصبح ثلاثي الأبعاد، بعد أن كان الصراع ثنائي الأبعاد في السابق، بين لجان مقاومة الجماهير من جهة، و النظام البائد و دولته العميقة التي ما زالت موجودة من جهة أخري. حكومة الفترة الإنتقالية لم تكن قادرة للصمود لمدة ثلاثة أسابيع فقط، لولا إستعانتها بلجان المقاومة الثورية، و إستعانة حمدوك شخصياً بالرأي العام الثوري، لمواجهة معوقات بنك السودان المركزي و ما يمثله من مصالح طبقية طفيلية للمنظومة العسكرية الأمنية، و رأس المال الفاسد المرتبط بتلك المنظومة. يؤخذ علي السيد حمدوك، سكوته و إنتظاره لمدة خمسة أشهر، حتي لحظة خروجه للعلن طالباً المساعدة من القاعدة الجماهيرية الثورية، و شاكياً من قلة حيلته و عدم قدرته علي السيطرة علي البنك المركزي، و معترفاً بهزيمته المُزلة الداوية أمام مافيا الدولار و الذهب، و التي سحقته في عشرة أيام فقط. هذا البطء و الضعف التنفيذي الغير مبرر، و عدم الجدية الواضحة في المواجهة و تنفيذ مطالب الجماهير، و عدم قدرة الحكومة الإنتقالية علي التحليل الجيد و إتخاز القرار، يحتم علي لجان المقاومة التقدم الي خانة قيادة الفعل السياسي مباشرةً، و تنظيم صفوفها و تطوير وسائلها، و إنتخاب قياداتها القوية، و إستلام زمام المبادرة بنفسها، و سحب التفويضات السياسية عن أشباه الأحزاب البالية العاجزة، و التي خزلت الجماهير المنتفضة في منعطفات كثيرة. الشعار السياسي القادم ينبغي أن يكون هو: "كل السلطات للجان المقاومة". ينبغي علي لجان المقاومة، أن تسعي جاهدة لإستلام السلطة السياسية بالكامل في السودان، و عليها أن تدرك حجمها الكبير الحقيقي، و أنه لا توجد قوي قاعدية منظمة تضاهيها في البلاد، و أن أي نظام سياسي سوداني قادم يجب أن يعبر تعبير حقيقي عن مصالح اللجان الطبقية و الإجتماعية. فكرة لجان للمقاومة الجماهيرية، في الأحياء و المدن و القري المختلفة، إخترعتها الحركة الجماهيرية السودانية، لحل معضلة التنظيم و التعبير و الإحتجاج و التمثيل السياسي، في ظل غياب أحزاب سياسية حديثة حقيقية، و في إطار صراع الجماهير السياسي الإجتماعي الطبقي، مع قاعدة النظام البائد الإجتماعية علي مستوي اللجان الشعبية الموالية له. تلك اللجان الجماهيرية المُقاوٍمة، تنمو و تتطور بإستمرار، و تحتاج الي الرعاية الفكرية الخالية من الوصاية عليها حتي تصل الي غاياتها، و تصبح أشجار كبيرة ناضجة مُثمرة، و تنتج لنا الشكل النهائي للثورة و الدولة السودانية، بإعتبار أن اللجان المُقاوِمة هي المعبر الحقيقي عن المجتمع في التربة السودانية. تختلف لجان المقاومة السودانية عن لجان السوفييات الروسية، في أن لجان السوفييات في أغلبها تُعبر عن طبقة العمال الفقيرة، بينما تعتبر لجان المقاومة السودانية عابرة للطبقات، و تضم في عضويتها شباب من الطبقة الوسطي و من الطبقة الفقيرة معاً، و هذا الإختلاف في طبيعة التكوين الطبقي، يجعل المُنتَج النهائي للبلشفة المقبولية السودانية يختلف عن البلشفة اللينينية الروسية. الشكل النهائي لعملية البلشفة السودانية، ليس عبارة عن نموزج دولة جامد جاهز يتم وضعه دفعة واحدة، و لكن يتم بناء ذلك الشكل البلشفي الجديد للدولة السودانية و تجميعه خطوة بخطوة، وفقاً لتراكمات حركة الجماهير اليومية و نضجها و تعلمها المستمر. تحتاج لجان المقاومة السودانية الي صِلة تنسيقية أو تنظيمية فيما بينها، لتربط بين اللجان المختلفة بالمدن و الأحياء و القري، و تساهم في تسريع نقل التجارب والآراء و توحيد المواقف الداخلية، مما يؤدي الي مزيد من التجانس و القوة و الفاعلية لهذه اللجان. كما تحتاج لجان المقاومة السودانية، الي تقوية أكثر لعلاقتها بالجماهير في حواضنها الإجتماعية، و الإنفتاح الواسع علي التجربة الإنسانية العالمية، و عقد مؤتمراتها التنظيمية القاعدية و الإقليمية و المركزية العامة، و إنتخاب لجنتها التنفيذية و برلمانها الموازي المُصغر، من أجل إنجاز المرحلة الثانية من الثورة السودانية، و تفكيك الدولة ما بعد الكولينيالية و إحلالها. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.