منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    نشطاء قحت والعملاء شذاذ الافاق باعوا دماء وارواح واعراض اهل السودان مقابل الدرهم والدولار    لم يقنعني تبرير مراسل العربية أسباب إرتدائه الكدمول    ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب مانشستر سيتي بركلات الترجيح    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    وزير الخارجية السوداني الجديد حسين عوض.. السفير الذي لم تقبله لندن!    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    سيكافا بطولة المستضعفين؟؟؟    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    شاهد بالفيديو.. بعد فترة من الغياب.. الراقصة آية أفرو تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بوصلة رقص مثيرة على أنغام (بت قطعة من سكر)    الحركة الإسلامية السودانية ترد على كندا    مصر.. فرض شروط جديدة على الفنادق السياحية    شاهد بالصورة والفيديو.. ببنطلون ممزق وفاضح أظهر مفاتنها.. حسناء سودانية تستعرض جمالها وتقدم فواصل من الرقص المثير على أنغام أغنية الفنانة إيمان الشريف    ماذا كشفت صور حطام صواريخ في الهجوم الإيراني على إسرائيل؟    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    مقتل 33899 فلسطينيا في الهجوم الإسرائيلي منذ أكتوبر    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    محمد بن زايد وولي عهد السعودية يبحثان هاتفياً التطورات في المنطقة    ترتيبات لعقد مؤتمر تأهيل وإعادة إعمار الصناعات السودانية    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة تنضم لقوات الدعم السريع وتتوسط الجنود بالمناقل وتوجه رسالة لقائدها "قجة" والجمهور يسخر: (شكلها البورة قامت بيك)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء فاضحة.. الفنانة عشة الجبل تظهر في مقطع وهي تغني داخل غرفتها: (ما بتجي مني شينة)    رباعية نارية .. باريس سان جيرمان يقصي برشلونة    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجذور التاريخية لانهيار الاتحاد السوفيتي
نشر في الراكوبة يوم 01 - 01 - 2011


الحوار المتمدن-العدد: 416 - 2003 / 3 / 5 - 02:57
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
عندما سئل شو ان لاي - اول رئيس للوزراء في الصين بعد الثورة- عن رأيه في الثورة الفرنسية التي وقعت عام 9781، قال إن أوان تقييمها لم يأت بعد ولعله قصد الى اشياء متعددة ربما من بينها أننا كلما ابتعدنا من الحدث التاريخي كان تقييمنا له أكثر موضوعية ولكن تقييم الثورة الفرنسية لم ينتظر حتى يحين ذلك الأوان فخلال القرنين الماضيين تناولها المؤرخون من كل جوانبها، ووفدوا اليها من كل حدب وصوب، ونشروا مئات الدراسات، ومازالت الدراسات تترى
فهل آن الأوان لتقييم الثورة البلشفية والتجربة السوفيتية عامة إن تقييم تلك التجربة قد بدأ في الواقع وهي لما تزل في مهدها ولكن بعد انهيارها انفتحت المزيد من السبل للمزيد من الدراسات النقدية التي تجاذبتها مختلف الاتجاهات والمقاصد ولسنا هنا بصدد تقييم التجربة السوفيتية خلال الحقب الست التي اشرقت خلالها على الارض بنورها في أحيان كثيرة، ولكننا سوف نحاول إبراء بعض الاخطاء الكامنة في الجذور التاريخية، وكانت تنخر فيها مثل دابة الارض حتى انهارت كما انهارت منسأة سليمان أمام دهشة الجن فهذه الورقة ليست دراسة للتجربة السوفيتية عبر مسارها الطويل نسبيا، وإنما نتناول الجذور التاريخية لست جوانب سلبية
أولاً:يطرح انهيار الاتحاد السوفيتي سؤالا، بل ربما اسئلة، حول الماركسية وجدواها وقابليتها للتطبيق على الواقع وكلها اسئلة مشروعة، وستظل تفرض نفسها شئنا ان ابينا ولكن انهيار الاتحاد السوفيتي هو انهيار لتجربة خاصة ببلد معين اما الماركسية فهي منهج له تجلياته الكونية المختلفة، وتيار متدفق انسكبت فيه مختلف الاجتهادات والتجارب، كان بعضها بعيد المدى عميق الغور، وكان بعضها الآخر في خلاف بيّن معها، وبعضها الثالث في عداء سافر مع الاتحاد السوفيتي وإذا كان الاتحاد السوفيتي السابق قد طغى على الماركسية بنفوذه المادى والمعنوى، فإن انهياره لا يعني زوال الماركسية، فقد اصبحت الماركسية إرثا فكريا اندغم في نسيج التراث البشري ولكن انهيار الاتحاد السوفيتي لابد ان يلقى بظلال كثيفة علي الماركسية وفي هذا الصدد قال آينشتاين: عندما تتصادم أسس اية فكرة مع عملية تجسيدها، فإن هذا التصادم في حد ذاته يجب ان يدلنا علي ان هنالك خللا ما في مكان ما لابد ان نبحث عنه ونكتشف موضعه (النص من كتاب محمد حسنين هيكل، زيارة جديدة للتاريخ، ص 402) فهل الخلل في الماركسية أم في الاسلوب الذي طبقه الروس بها ام في مجمل تعاملهم معها، وهل من سبيل للتفريق بينهما؟ والأسئلة ما تفتأ تتوالى ولن يتوقف تدفقها، فالأمر مثير للجدل ومثير للّغط ومثير للتأمل
لقد صيغت الماركسية في قمة الثورة الصناعية والتطور الرأسمالي واللبرالية وكانت امتدادا لعصر الاستنارة الذي سطعت شمسه في سماء اوربا منذ القرن الثامن عشر واغترفت من معين التراث الانساني، ومن الفكر الاوربي في القرن التاسع عشر، وهو قرن صيرورة تاريخية حركت فيه البرجوازية مسرح التاريخ ايما حراك فكانت الماركسية من نتاج ذلك الحراك لقد انفلتت الماركسية من احشاء النظام الرأسمالي من ثنايا التاقض الفاحش بين الثورة والفقر ودرست الماركسية النظام الرأسمالي وكشفت التناقض الكامن فيه، وطرحت آفاقا لمجتمع جدي تتقلص فيه الفوارق حتى تنقرض
والماركسية لها جانبان الاول المنهج الذي توصل اليه ماركس ومن سار معه على الدرب والثاني الاستنتاجات التي توصل اليها عند تطبيق ذلك المنهج أما المنهج فهو جزء من التراث البشري، ويختلف تطبيقه من مفكر لآخر ومن مجتمع لمجتمع وقد اندهش ماركس من بعض الاستنتاجات الجامدة التي ادعى اصحابها انهم ماركسيون، فقال قولته الشهيرة: إذا كانت هذه هي الماركسية، فأنا لست ماركسيا
لقد التقط بعض المفكرين من غير الماركسيين جوهر الماركسية يقول المؤرخ البريطاني البروفيسور بترفيلد: توجد أدلة عديدة على وجود روح جديدة في الدراسات التاريخية، التي يمكن ان تعزى الي نفوذ ماركس لقد اسهمت الماركسية في كل الدراسات التارخية اكثر مما يعترف به غير الماركسيين لقد صححت الفهم القديم الذي يتحاشى القضايا الاساسية ويعالج التاريخ كحقل لنشاط افكار مجردة وتبعه البروفيسور فنلي قائلاً: ان الماركسية قائمة في تجربتي الفكرية لقد وضع ماركس نهاية لأية فكرة تقول ان دراسة التاريخ هي نشاط مستقل، كما وضع نهاية للاستنتاج الذي يقول ان مختلف اوجه النشاط البشري من اقتصادي وسياسي وديني وثقافي، يمكن معالجتها بمعزل عن بعضها البعض (النصان من كتاب جون لويس، ماركسية ماركس، الفصل عن ماركس والتاريخ ترجمة محمد سعيد القدال قيد النشر) وليس ما قاله المؤرخان البريطانيان هو الكلمة النهائية والحجة الدامغة، ولكن اوردناه لانه تلخيص فيه دقة وبراعة لجوهر المنهج الماركسي
وادرك ماركس علي ايامه ان انماط الانتاج التي توصل الي انها حكمت تطور المجتمع الاوربي، لايشترط انها تنطبق على المجتمعات الاخرى فبعد دراسته لبعض المجتمعات الشرقية، صاغ نمط الانتاج الآسيوي وحتى هذا ليس الاخير فالمنهج مفتوح لدراسة المجتمعات البشرية والتعرف على مراحل تطورها ويتصدى المنهج للاجابة عن سؤال جوهري: هل هناك قانون يحكم تطور المجتمعات البشرية ام انها تسير عشوائيا؟ ويتبعه السؤال الثاني: واذا كان هناك قانون فهل هو قطعا القانون الذي يحكم حركة الطبيعة؟ وبرز هنا امران الاول ان لكل مجتمع خصوصيته التي يجب وضعها في الاعتبار عند دراسة تطوره والثاني ان افكار البشر ومجمل تصرفاتهم لها استقلال نسبي في مسار تطورها يختلف عن مسار الطبيعة الصماء وهذا ما اعطى الماركسية مرونتها
ولم تبق الماركسية وقف علي ما قاله ماركس، رغم انها اتخذت اسمها منه، ولا على ما قاله انجلز ولينين وكل الرواد الأوائل فقد غدت لها اضافات واجتهادات شتى على امتداد كوكبنا ان الماركسية ليست عقيدة لها كهنة يحرسونها، ولا هي مقولات لا يأتيها الباطل من خلفها ومن أمامها ولايوجد شخص يمكنه ان يدعى انه مرجعيتها وحامي حماها والاصوات التي ارتفعت عاليا في الآونة الأخيرة تنادي باعادة النظر في الماركسية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، جاءت متأخرة، لان اعادة النظرلم تتوقف اصلا منذ ان طرح ماركس افكاره بجرأة حول النظام الرأسمالي ومستقبله ولمن الارتباط الطويل بين التجربة السوفيتية والماركسية، يجعل فك الاشتباك بينهما امرا لايخلو من مشقة ولكنها مشقة لن تقف امام البحث العلمي، وهو قادر علي قهرها
لقد صيغت الماركسية في قمة التطور الرأسمالي وانفتاحه اللبرالي واخذت تستشرق افق ما بعد ذلك التطور وترسم معالمه فيصبح من الطبيعي ان تكون المجتمعات التي بلغت نفس مرحلة ذلك التطور الذي صيغت فيه الماركسية، هي اخصب تربة تصلح لتطبيقها كما تتفتح الماركسية وتزدهر اذا تم التعامل معها باعتبارها منهجا يمكن ان يساعد علي فهم التركيب الاجتماعي ومسار تطوره، بالذات في المجتمعات التي لم تبلغ بعد ذلك المدى من التطور ولكن عندما انتقلت الماركسية للتطبيق لاول مرة في التاريخ كان ذلك في روسيا القيصرية
ثانياً: كيف كان الوضع في روسيا عندما انتقلت اليها الماركسية وطبقت فيها عمليا؟كانت روسيا في مطلع القرن العشرين اكثر البلدان الاوربية الكبيرة تخلفا فالطبقة العاملة ضعيفة لا تتعدى 4% من العاملين ويشكل عبيد الارض في النظام الاقطاعي غالبية المجتمع، ويرزحون تحت ظروف قاسية فجرت صدامات ومآسى، عكس الادب الروسي الرفيع ضراوتها وبقى الاقطاع عبء روسيا التاريخي وحكم البلاد نظام قيصري بوليسي باطش قهر الناس واذلهم وكانت الكنيسة الارثوذكسية اكثر الكنائس المسيحية عسفا في منهجها وبقيت روسيا رغم مجهودات بطرس العظيم وكاترين العظيمة، بعيدة عن روح عصر النهضة وزخم البرجوازية اللبرالي كانت روسيا تتنفس برئتين غير اللتين تنفست بهما اوربا التي خرجت منها الماركسية لقد تركت القرون الطوال من التسلط والهيمنة القيصرية بصماتها علي منهج الحياة في روسيا
ولكن لم تكن روسيا ساكنة فقد انفجرت فيها حركات اجتماعية وسياسية ضد القهر والتخلف وبرزت فيها قوي سياسية لها اهداف متباينة واساليب مختلفة واخذ المنفى فس سيبريا يستقبل مئات الثوار واحتضنت اوربا مئات اخرى من المهاجرين، الذين احتكوا بالتيارات الثورية هناك وكانت الماركسية وقتها حمالة لواء الثورية في اوربا وانهمك المهاجرون من الثوار الروس في نقاش عنيف وصاخب ومحتدم كانوا يبحثون عن افق وكانوا يسعون لصياغة برنامج لعملهم السياسي ولمستقبل بلادهم وفي ذلك المناخ المفعم بالحوار والجدل ولد حزب البلاشفة وهم الاغلبية التي بقيت مع لينين عندما انقسم حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي عام 3091م وتعكس كتابات لينين في تلك الفترة ذلك المناخ السياسي الصاخب والحوار الفكري المحتدم والذين يطالعون كتاباته اليوم قد يجدون فيها رتابة لايستسيغونها ولكن كان ذلك هو الواقع الذي تخاطبه وتصطرع معه انها كتابات من النوع المقاتل polemic واصبح الجدل المنفتح من الصفات المميزة للبلاشفة
وقدم الثوار الروس اسهامات اساسية للماركسية وتقف كتابات بلخانوف ولينين بارزة في هذا المجال ولا شك ان الواقع الروسي المتخلف قد القى ببعض ظلاله علي تناولهم وعلي طرحهم وهذا من لب الماركسية فالافكار مهما كان سموها فانها لاتحرج من فراغ اذ لاينفك الواقع الذي خرجت منه يلقي عليها بعضا من اثره وتختلف درجات ذلك الاثر، ولكن يبقي له حضوره في بنيانها الفكري
ولم يكن البلاشفة الحزب الوحيد في المعترك السياسي فقد كانت الساحة تموج باحزاب واحزاب، كلها تسعي لتغيير واقع روسيا المتخلف وتحويلها الي مجتمع صناعي حديث فالبلاد كانت حبلي بالثورة وفي ذلك المناخ اندلعت الحرب العالمية الاولى عام 4191، وخاضتها روسيا بجانب معسكر الوفاق المكون من بريطانيا وفرنسا ضد معكسر الوسط المكون من المانيا والنمسا وكانت الحرب هي العامل الذي هيأ المسرح للتغيير
كشفت الحرب هشاشة النظام القيصري فلم تكن روسيا صنواً لحليفتيها بريطانيا وفرنسا، ولا كانت ندا لالمانيا التي تحترب معها فمنيت بهزائم متلاحقة وللحرب ويلاتها التي انحطت ثقيلا علي كاهل الناس واخذ السخط والتذمر يتصاعدان بين العمال والفلاحين وبين الجنود في جبهة القتال وكانت القيصرية ضعيفة وفاسدة ويساندها تحالف هزيل من النبلاء وبعض الاحزاب وقيادة عسكرية جاهلة تحولت بعض هجمات الالمان الي مذابح واصبح النظام القيصري عاجزا عن التصدي لمشكلات البلاد العسكرية والمدنية فانفتح الصراع حول السلطة اكثر من ذي قبل بل ان السلطة اصبحت في الشارع في متناول من يمد يده ويستولي عليها وفي فبراير/ مارس 7191، تفجرت الاضرابات والتمرد بين العمال والجنود وكان القيصر بعيدا في الميدان يقود جيوشه المنهزمة ورفض جنرالاته ضرب التمرد في العاصمة لان الذين قاموا به مثلهم من الروس
وتشكلت في العاصمة قيادتان ثوريتان الاولى لجنة الدوما البرلمان المؤقتة، وتسيطر عليها العناصر البرجوازية، ونفوذها قوى في الريف والثانية مجلس سوفيت العاصمة ويتكون من العناصر الثورية ويسيطر على الشارع وادى تطور الاوضاع الي تنازل القيصر عن العرض لاخيه فانفتح الصراع حول السلطة اوسع من ذي قبل
وكانت هناك ثلاثة احزاب سياسية ثورية المنشفيك ونفوذهم قوى في سوفيتات المدن ثم الاشتراكيون الديمقراطيون ونفوذهم في الريف اخيرا البلاشفة وكانوا اضعف الحزبين قاعدة ولكنهم اكثر دقة في التنظيم وانضباطا في الحركة، ويقودهم لينين بعبقريته الفذة في قراءة الواقع
وفي هذا المنعطف الحاد، عاد لينين من المنفي وكان مجيئه نقطة تحول حاسمة كتب عنه المؤرخ البريطاني فيشر يقول: وقد كفلت له حيويته الفائقة ونشاطه الجم وعقله الماضي، ونشاطه الالمعي المتوقد، ونظرته الواضحة الجلية، وموهبيته الشخصية النادرة بين الروس في الكلام الموجز والفعال، وسرعته في انجاز الاعمال، وقدرته التي يكاد يكون فيها منقطع النظير علي جعل نفسه مرهوب الجانب، كفلت له هذه الصفات تفوقا وسيطرة علي اتباعه الثوريين ولم يكن فيشر من المتحمسين للبلاشفة وقائدهم اما الصحفي الامريكي جون ريد صاحب كتاب عشر ايام هزت العالم فلم يخف حماسته لعبقرية لينين، ولقدرته الكارزمية التي لايعتمد فيها على الخطابة المنفعلة وانما علي التفكير الرزين الهادئ والاقناع ومخاطبة العقل، وهي القدرات التي سيطر بها علي اقرانه وعلي الجماهير
وادرك لينين عند عودته توازن القوى الدقيق فوجد البلاشفة في اتفاق مع المنشفيك ومع الحكومة المؤقتة ولم يعجبه ذلك الموقف في وقت كانت فيه السلطة قاب قوسين او ادنى فكتب مقالته الشهيرة موضوعات نيسان، التي اعتبرها بعض اتباعه ضربا من الجنون فقد دعا فيها الي عدم التعاون مع الحكومة المؤقتة، وتأميم الارض، واقامة حكومة جمهورية سوفيتية ولكنه لم يناد باسقاط الحكومة فورا، لان ذلك مستحيل بدون ان يتغير مزاج السوفيتات وقال ان الجماهير مهتمة بالثورة اكثر من ولائها لاي حزب، وهي سوف تساند من يعطيها الثورة، والحكومة المؤقتة غير قادرة على ذلك وصاغ البلاشفة شعارات الثورة الثلاثة: السلام- الخبز- الارض، التي بلورت طموحات الناس وجذبتهم الي مواقع البلاشفة ويقال ان امرأة صاحت قائلة: احببت الثورة وكرهت البلاشفة اذا صحت الرواية فهي تعكس قوة الشعارات التي طرحوها
وكانت الاحداث تتلاحق سراعا وفي مثل هذه الظروف فان التفكير السريع المرتب، هو القادر علي حسم الموقف وكان لينين يمتلك تلك المقدرات فادرك ان توازن القوى يسمح بالاستيلاء على السلطة فصاغ مقالته الشهيرة الاخرى الثورة والدولة، التي فتحت الطريق امام البلاشفة للمضى قدما والاستيلاء علي السلطة
ووضع البلاشفة بقيادة لينين خطة دقيقة وبارعة، مستفيدين من اخطاء محاولتهم الاولى في يوليو 7191م وفي اكتوبر استولى البلاشفة على السلطة في انتفاضة خاطفة خلال عشرة ايام هزت العالم وسوف يقف امامها التاريخ مليا لروعتها وتفردها بين الثورات التي شهدها التاريخ
تبرز من هذا العرض بعض الحقائق التي نحتاج ان نتدبرها اولها ان الوضع الثوري في روسيا لم يكن من جهد البلاشفة وحدهم فقد تضافرت فيه جهود احزاب واوضاع متشابكة، ساهمت كلها في تعميق ازمة النظام القيصري ولكن البلاشفة خطوا اللحظة التاريخية بعمل خاطف، كانت لحظة مليئة بالتناقضات
وثانيها ان الاستيلاء علي السلطة تم من اعلى بانتفاضة ثورية بارعة نفذها حزب البلاشفة ولكن البلاشفة اخذوا يتحدثون باسم جماهير العمال والفلاحين باعتبارهم هم الذين قاموا بالثورة، دون ان يكون لتلك الجماهير المبادرة التاريخية في المشاركة الشاملة والفعالة في تحقيقها لقد وجد البلاشفة انفسهم امام وضع متناقض: القيام بثورة برولتارية بدون برولتاريا، فقام نظام بالتعاون مع فلاحين لم يكونوا يناضلون في سبيل اهداف اشتراكية
وثالثها ان حزب البلاشفة عندما استولى على السلطة لم يصل المرحلة التي سماها انطوان قرامشي هيمنة الحزب (hegemony of the party )، ولكن افضل ان اسميها التأهيل التاريخي والمقصود بالتأهيل التاريخي ان تصل الطبقة الاجتماعية المرحلة التي تؤهلها للاستيلاء علي السلطة بواسطة الحزب الذي يمثل طموحها التاريخي وبهذا يكون الاستيلاء علي السلطة تطورا منطقيا مع حركة التاريخ وليس تغولا من اعلى والمقصود بالتأهيل التاريخي ايضاً ان يصبح للحزب السياسي قدرات واسهامات في مختلف مجالات الحياة، تجعله قادرا علي تسييرامور المجتمع عندما يستولى علي السلطة واذا حانت للحزب فرصة لاستلام السلطة قبل ان يتهيأ لها تاريخيا، فهذا لا يعني الاحجام عنها بحجة عدم التأهيل، وانما عليه ان يستولى عليها ويتأهل اثناء ممارسته لها، ولا يتوهم ان الاستيلاء علي السلطة قد حقق ذلك التأهيل وهذا يتوجب ان ينفتح الحزب على القوى السياسية الاخرى ويفضى اليها وتفضي اليه، ومن خلال تلك الممارسة يتحقق التأهيل التاريخي ولايكون انفتاح الحزب على القوى الاخرى لمجرد تبرئة الذمة، وانما ينبع من احساس عميق بضرورته بدون ذلك فان المأساة واقعة لا محالة وهناك فرق بين المأساة والصراع السياسي فهل حدث هذا بعد استيلاء البلاشفة على السلطة؟
الامر الرابع ان الاستيلاء علي السلطة من اعلى ثم الهبوط الى القاعدة لتثبيت السلطة، له سلبياته ومنزلقاته الخطيرة فالاستيلاء على السلطة من اعلى مع ضعف القاعدة الاجتماعية، دفع البلاشفة للجوء الي استعمال الاجهزة للحفاظ على السلطة فابتعدوا عن الجماهير وضعف الاعتماد علي الحوار والجدل مع القوى السياسية الاخرى، فناقضوا تاريخهم الذي قام على الحوار والجدل وفتح لهم الطريق لبداية التأهيل التاريخي وكانت نظرية الحزب التي صاغها لينين تحمل في احشائها جرثومة التسلط، بالذات في المجتمع الروسي الذي لم يعبر مرحلة اللبرالية ولم يألف اجواءها المنفتحة فالحزب المنضبط الذي كان انضباطه اداة فعالة في الاستيلاء على السلطة، تحول الى اداة للمحافظة على السلطة في وجه المعارضين لها وتحولت الديمقراطية المركزية وهي قلب نظرية الحزب اللينيني الي مركزية ديمقراطية او ربما مركزية خاوية من اي محتوى ديمقراطي وهو امر ليس بمستغرب بالنسبة لتراث المجتمع الروسي ولعل روزا لكسمبيرج هي التي لخصت الامر قائلة: اخذ الحزب يتحدث باسم البرولتاريا، ثم اخذ الجهاز يتحدث باسم الحزب، ثم اخذ القادة يتحدثون باسم الجهاز، وانتهي الامر الى ان فردا واحدا اخذ يتحدث باسم الجميع
ثالثا: بعد الاستيلاء على السلطة جاءت مرحلة ممارستها الفعلية وتطبيقها بدأ البلاشفة في تطبيق الاشتراكية كما فهموها وصاغوها في برنامجهم وحمل ذلك التطبيق معه ايجابيات، كما حمل معه ايضا سلبيات ومآسى وكان الطموح كبيرا فالانتقال الي الاشتراكية لا يعني فقط الانتقال من نظام استغلالي الي نظام اقل منه درجة في الاستغلال مثل الانتقال من نظام الرق الى الاقطاع او الاقطاع الي الرأسمالية وانما هو انتقال من نظام ينتهي فيه استغلال الانسان نهائيا وهذا يستوجب نقلتين في آن واحد: الانتقال من نظام الى نظام آخر والانتقال من مجمل انظمة الاستغلال الي نظام يختلف عنها جميعا انه نقلة حاسمة الى تأهيل التاريخ البشري، وتحتاج الى اكثر من اجراءات ادارية انها تحتاج الى تأهيل تاريخي وتهيؤ نفسي واجتماعي فهل كان حزب البلاشفة والمجتمع الروسي مؤهلين تاريخيا للقيام بتلك المهمة التاريخية المصيرية؟
بدأ حزب البلاشفة بنقل روسيا من بلد اقطاعي شبه رأسمالي الي بلد اشتراكي ان النقلات الاجتماعية لا تتم بحرق المراحل قبل ان يتهيأ لها المجتمع ويملك القدرات للقيام بها كما ان التحولات الاجتماعية تحتاج لمشاركة الجماهير التي لها مصلحة في تحقيقها ومن الصعب مشاركة الجماهير العريضة واغلبهم من الفلاحين الذين يحتاجون الى نقلة ترتفع بوعيهم الاجتماعي يمكنهم من تلك المشاركة وادرك لينين خطأ تلك الفترة فقال عام 1291م: من الواضح اننا فشلنا لقد كنا نريد بناء مجتمع اشتراكي جديد وفقاً لصيغة سحرية، في حين تستغرق هذه العملية عشرات السنين وعديد من الاجيال فلا يمكن في لحظة تغيير عقليات الناس وعاداتهم المكتسبة منذ عدة قرون
فهل يمضي البلاشفة في تطبيق البرنامج الذي ادركوا خطأه، أم يتراجعون عنه؟ تراجع البلاشفة باعلان السياسة الاقتصادية الجديدة التي عرفت باسم النب من اختصار اسمها بالانجليزية NEP - New Economic Policy والنب ليست مجرد تراجع تكتيكي اومجرد برنامج اقتصادي جديد، رغم ان هذا هو الفهم المتداول عنها ان النب رؤية ايديولوجية متكاملة انها تقول بالصوت العالي ان تطبيق الاشتراكية دون العبور علي مرحلة التطور الرأسمالي ضرب من الاستحالة بمعنى آخر التطور ليس حرق مراحل، وانما عملية جدلية ونشوء وارتقاء وبمعني ثالث فان النب تعني اعادة نظر شاملة لمنهج البلاشفة وليس لبرنامجهم فحسب وبمعنى رابع تعني النب ادراك الخلل الذي ينشأ بين النظرية والتطبيق، والتصادم الذي يقع بينهما وكان يمكن ان تؤدى النب الي فتح آفاق رحبة للبلاشفة لولا ان غلفتها اردية المنهج الروسي السوداء، فاحالتها الى حاشية اكاديمية لقد ادرك لينين قبل غيره وبجلاء الخلل الذي نشأ من التطبيق وهو ادراك اهله له ذهنه النفاذ في قراءة الواقع ولكن مهما كانت قدرات الرجل الرفيعة فانها لاتستطيع ان تخترق كل حجب الواقع الروسي الملبد بغيوم التخلف
وحملت النب في احشائها تناقضا فقد فتحت المجال للتطور الرأسمالي واقتصاد السوق، ولكن تحت سيطرة الدولة البلشفية ونهجها المركزي في التخطيط الاقتصادي فاعطت بعض الفئات حرية المبادرة الرأسمالية تحت سيطرة الدولة، فلا المبادرة الرأسمالية تستطيع ان تنطلق تحت هيمنة الدولة والتخطيط المركزي سيتخلي كليا عن دوره في قيادة المجتمع فاصبحت النب رغم نبل مقاصدها تكبل خطا النقلةالتي ارادت ان تحققها فالخطأ الذي وقع في البداية، لايمكن تلافيه بمنهج منفتح مثل النب فحسب، بل لابد ان يصاحب ذلك منهج مكتمل اكثرانفتاحا
رابعا: برزت مشكلة الديمقراطية بشكل حاد وتنتقد الماركسية الديمقراطية اللبرالية باعتبارها ديمقراطية الطبقة البرجوزاية التي تحرم الطبقات الاخرى المشاركة الفعلية ويتقصر دور تلك الطبقات علي مجرد الذهاب الي صناديق الاقتراع للادلاء باصواتهم وينتهي دورهم بعد ذلك وحتى الادلاء بالاصوات لا يتم بالحرية المطلوبة لان الاستغلال الذي ترزح تحته تلك الطبقات يحرمها من حرية الاختيار، لان الاستغلال قيود تكبل وعيها ومن اجل تطوير الديمقراطية لتصبح ممارسة حرة بحق، لابد من انهاء الاستغلال الطبقي حتي تنكسر تلك القيود، ويصبح الناس احرارا في ممارسة الديمقراطية ولا يعني هذا النقد القضاء علي الديمقراطية اللبرالية وانما تطويرها ان اسشراف المستقبل بدون الاعتماد على الماضي، يجعل التطور مبتورا وعرضة للتطويح فالمنهج الماركسي لايريد قطع الصلة مع الرأسمالية والديمقراطية اللبرالية، وانما يريد ان يشيد فوق ذلك الارث مجدا علي مجد
ان الديمقراطية تعني في الاساس احترام الانسان، واحترام ذاتيته، حتى يشارك في صنع القرار وتنفيذ القرار، وليس اتخاذ القرار وتنفيذه نيابة عن الجماهير وهذا ما عبر عنه نهرو قائلا: كنت ادرك بعد التجربة السوفيتية ان هناك شرطا اساسيا لنجاح الاشتراكية وهو مشاركة الناس في التفكير وفي الفعل والآفاق أما ان تتحول سلطة الشعب التي يمثلها الحزب الي بيروقراطية الحزب، فهذه دكتاتورية اشد ضراوة من دكتاتورية النظام اللبرالي البرجوازي
وقع ذلك الخلل في روسيا لسببين اساسيين الاول منهج الحكم القيصري المشبع بالتسلط والقهر الذي القي بارثه البغيض علي التجربة السوفيتية ان هيمنة التراث المنغرس في المجتمع لا تنتهي بمجرد الاعلان عن نهايتها، ولا تنتهي بالنوايا الخيرة والثاني نظرية الحزب التي صاغها لينين، وفي قلبها مبدأ الديمقراطية المركزية وقد راج المبدأ ودافع عنه الثوريون لانه يجعل الحزب يتحرك كجسد واحد دون ان تقعد به التناقضات فيرتفع اداؤه ويكون اكثر فعالية وقد تمكن البلاشفة من الاستيلاء علي السلطة، لانهم كانوا حزبا متماسكا ومتسقا في حركته ولكن الديمقراطية المركزية التي كانت اداة فعالة في لحظات النهوض الثوري قد لا يكون لها الدور نفسه في حكم البلاد، لان الحكم تتداخل فيه شتى التيارات التي قد لا تتفق مع طرح البلاشفة فتتحول الديمقراطيةالمركزية الى اداة لقهر المعارضين وكان من الممكن الا تكون الديمقراطية المركزية بذلك التسلط لولا التراث القيصري الذي يعشش في جنبات المجتمع الروسي فيفرخ كلما سنحت له الفرصة وينقض علي الاعداء باسم القيصر او باس الثورة او باسم الشعب لقد عاشت الاحزاب السياسية في اوروبا الغربية لقرون دون ان تكون الديمقراطية المركزية نصا في لائحتها وطقسا يعلو ولا يعلي عليه
كانت الديمقراطية في حاجة الي جرعات مكثفة من العدالة الاجتماعية حتي تصبح فعالة في ادائها وقد حقق النظام السوفيتي قدرا كبيرا من العدالة الاجتماعية لم يشهد مثله اي نظام اجتماعي في التاريخ، وسيبقي من مفاخر النظام السوفيتي وتحديا تاريخيا ينتصب فيوجه كل الذين شرعوا اسلحتهم لينهالوا بها علي التجربة بعد زوالها ولكن تحقيق تلك العدالة الاجتماعية تم علي حساب الديمقراطية وليس تطويرا لها، وعلي حساب الانسان فالتجربة التي خرجت ترتاد افقا جديدا للانسان، حطت بثقلها علي كاهله وسيبقي هذا من منزلقات النظام السوفيتي الذي انتقل ارثه الي كثير من الانظمة التي كانت تترسم خطاه من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية
كما ان الهاجس السوفيتي باللحاق بالغرب، جعل الغاية الانسانية للاشتراكية تتبخر، وصارت التنمية اولوية الاولويات وغاية في حد ذاتها واصبحت الادارات المركزية البيروقراطية تخنق مبادرات القاعدة لكي تحافظ علي قرارات القمة وتفرض خضوعا اعمى علي كل المواطن، وتفرض عليه احيانا طاعة عمياء وهذا على نقيض ما قاله لينين من ان مبادرة الملايين من البشر تحمل دائما شيئا اكثر نبوغا من الافكار الاشد نبوغا (قارودي، الاصوليات المعاصرة، ص 33 باريس، 2991م)
خامسا: حقق البلاشفة ثلاثة انجازات بعضها ملاحم بطولية ثبتت اقدامهم في السلطة ولكن كان لبعضها سلبياتها الاول الانتصار في حرب التدخل فما ان انتهت الحرب حتي بدأت الدول الرأسمالية تستجمع قواها لتقضي على الدولة البلشفية الفتية يساندها انصار الاقطاع والقيصرية وكانوا يستهدون بشعار تشرشل الذي دعا فيه الى: خنق البلشفية في مهدها فهاجمتها جيوش من اربع عشرة دولة فهب الروس بقيادة البلاشفة والجيش الاحمر للدفاع عن الوطن الأم، وقدموا تضحيات جساما ودحروا التدخل الاجنبى وكان انتصارا للبلاشفة وللشعب الروسى واعتقد البلاشفة ان وقفة الشعب الروسي للدفاع عن الوطن الام، هي وقفة مطلقة بجانبهم وتوهموا ان الشعب الروسي يمكن ان يقدم تضحيات مماثلة لتنفيذ برنامجهم الاقتصادي ويبدو ان الانتصار العسكري يملأ الناس بالزهو، والزهو في الحسابات السياسية خطير، وقد يقود الي تقديرات مدمرة
الامر الثاني عندما اندلعت الحرب العالمية كانت هناك ثلاث امبراطوريات متداعية وهي النمساوية والعثمانية والروسية وتفككت الامبراطوريتان النمساوية والعثمانية وتمكن البلاشفة من لم شمل الامبراطورية الروسية، وحافظوا عليها وكان ذلك بلا شك انجاز، ولكن خدمتهم شتى الظروف، ولم يكن انجازاً بلشفيا خالصا
ثالثا، البرنامج الاقتصادي الطموح الذي اخرج روسيا من مستنقع الاقطاع ووضعها في الطريق لتصبح دولة صناعية ذات شأن ولكن كان لذلك الانجاز ثمن باهظ فقد قمعت المعارضة البرنامج بعنف وضراوة ولعل اسطع مثال ما حدث للكولاك ولن تجدي هنا التبريرات والحجج الواهية فالكولاك جزء من الشعب الروسي واختلافهم مع برنامج البلاشفة ما كان يستدعي مثل ذلك العنف الذي جوبهوا به كما ان التأميم لصالح الدولة مع قبضة الحزب القوية حول السوفيتات من مجالس عمال وفلاحين ونواة لديمقراطية جديدة، الي مجرد ترس في الآلة البيروقراطية فقد تحولت المركزية الديمقراطية بفعل المنهج الروسي الي بيروقراطية صماء حتى عجزت عن تجديد نفسها فشاخت
سادسا: اخطأ البلاشفة في التعامل مع قضيتين هما الدين والقومية فلم يفرقوا بين العقيدة الدينية والمؤسسة الكنسية وهذا الخلط لعنة كثير من الانظمة في تعاملها مع الدين فبدلا من التصدى للمؤسسات التي تشوه الدين وتخضعه الى نظم الحكم المتسلطة، هاجموا العقيدة التي ترسخت في وجدان الناس ووجدوا فيها برد اليقين ان الدين ينسق علاقة الانسان بالكون ويعطي وجوده بعدا شاسعا ومعني عميقا فما استطاع البلاشفة الغاء ذلك اليقين وخلقوا حاجزا بينهم وبين الفئات التي تستظل به
والتعامل مع قضية القومية ايضا من الامور الشائكة فالقومية تمنح الانسان انتماء فوق الارض، وتختلج فيها مشاعر جياشة وقد تبقي مكبوتة، ولكن من العسير ازالتها وقد عبر البلاشفة عن فهم واضح لقضية القومية، سواء في تعريفها او في اعطاء القوميات حق الانفصال اذا اردت ذلك حسب ما ورد في الدستور السوفيتي واخذت كثير من الحركات تسترشد بطرحهم المستنير ولكن في التطبيق العلمي، ومع تطور الدولة السوفيتية، اخذ الطرح المستنير يتراجع لتحل محله سياسات تخضع القوميات لهيمنة الدولة المركزية بل ارسل الاتحاد السوفيتي دبابات محمولة علي الطائرات لاخضاع قوميات خارج حدوده واذا كان للسوفيت تبريراتهم في اتخاذ تلك الخطوة في صراع الحرب الباردة فهذا لا ينفي انها كانت قمعا لمشاعر قومية، انفجرت فيما بعد في حركات لم يهدأ لها جنب حتى اليوم
خاتمة: لعل النقاط الست السابقة قد لا تغطي كل الجوانب المتعلقة بالجذور التاريخية التي ادت الى انهيار الاتحاد السوفيتي ولكن ربما تفتح منافذ تساعد علي حوار حول الظاهرة التي اخذ انهيارها كثيرا من الناس علي حين غرة ولاشك اننا كلما ابتعدنا عنها زمنيا كلما كان تناولنا لها اكثر موضوعية، واقرب الي التاريخ منه الي السياسة
وعلى الرغم من ان بعض هذه السلبيات قد تبدو بينة وربما رآها البعض بديهية الا ان الظروف التي انتصرت فيها الثورة البلشفية صحبها ضجيج وانتشاء وتنفس البعض الصعداء لزوال الحكم القيصري، فلم يلتفت اليها، او لعلها توارت خلف اصوات النشوة والفرح ومهما كان حجم تلك السلبيات فانها لن تمحو دور الاتحاد السوفيتي في التاريخ وهذا موضوع له مجال آخر
امريكا
نقلاً عن جريدة الحرية (السودان) 31 يناير 2003


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.