في المقالين السابقين وجهت نقدا مباشرا لقوى الحرية والتغيير وحملتها تداعيات فشل محادثات السلام في جوبا لا قدرة الله إن حدث ذلك، وأتمنى أن يخيب ظني ويدخل الفيل والنملة من ذات الباب ويتحقق السلام . بل كنت أكثر وضوحا إذ إعتبرت الذهاب الى جوبا في حد ذاته خطأ فادحا...! والمقال الذي تلاه وجهت النقد لتجمع المهنيين الذي مارس سياسة الهرب إلى الأمام دون إعتراف من جانبه بالخطأ التاريخي الوارد في إعلان قوى الحرية والتغيير ، الذي أدخل بلادنا في هذه المعمعة والربكة . . ! مفاوضات السلام ما زالت تراوح مكانها، ولا أمل في الأفق لمعالجة الأزمة الإقتصادية التي تستفحل يوما بعد آخر، مع زيادة مستمرة في أسعار السلع الأساسية، وتدهور متواصل لأسعار العملة الوطنية في مقابل الدولار، كل هذه المظاهر هي أعراض، لعلة سياسية مزمنة تتمثل في غياب رؤية علمية لمعالجة الأزمة الوطنية من جذورها . الأزمة الوطنية في السودان حلها ليس اقتصاديا، وإنما حلها سياسي، لذلك اعتبر أصوات النقد التي جاءت في شكل مقالات وبيانات وندوات ومسيرات، لا تعبر عن وعي بل تعبر عن حالة من الغيبوبة، كشفت ضمور العقل السياسي في بلادنا، لانه حتى تعيين الولاة المدنيين، وتشكيل المجلس التشريعي ، لن تحل المشكلة، والسبب هو أن النقد موجه لحكومة الثورة، لكن في الواقع النقد يجب أن يوجه لإعلان قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين والقوى السياسية التي وقعت على هذا الإعلان ، دون قراته قراءة فاحصة ودقيقة، لأن هذا الإعلان هو الذي صمم خارطة طريق الفترة الإنتقالية. لذلك أشعر بالشفقة على حكومة السيد رئيس مجلس الوزراء د. عبدالله حمدوك وطاقمه الوزاري. حكومة الثورة محكومة بإعلان قوى الحرية والتغيير والاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية الموقعة بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي في سبتمبر من العام الماضي. مسكينة حكومة الثورة، لانها واقعة بين المطرقة والسندان .. ! ينطبق عليها قول الشاعر العربي : ألقاه في اليم مكتوفا، وقال له اياك اياك أن تبتل بالماء .. ! الحكومة حالها، حال التلاميذ الذين يدرسون مقررا معينا، ويطلب منهم أن تكون إجاباتهم خارج نطاق ما تلقوه من دروس في فصول الدراسة خلال العام ..؟ بلا مجاملة أستطيع أن أقول بكل صدق وأمانة أن الخطأ والقصور ليس في حكومة الثورة، ولا في الثوار الذين يحرسون الثورة في المدن والقرى والأحياء، الخطأ في الأدبيات والمهنج والموجهات العامة التي توجه حكومة الفترة الإنتقالية، ومن ذلك إعلان قوى الحرية والتغيير، هذا الإعلان بكل شفافية كله حشو فارغ بلا مضامين علمية ومنهجية .. ! لانه قدم ما محله التأخير وأخر ما محله التقديم . . ! أفضل ما فيه هو المقدمة التي دعت أبناء وبنات الشعب السوداني إلى إسقاط النظام السابق. وتشكيل حكومة وحدة انتقالية، وحتى هذه الفقرة صيغت بطريقة فضفاضة .. ! أما بقية بنوده صيغت بطريقة غير منهجية وواقعية . اي إنسان واعي يقرأها قراءة متأنية وفاحصة، يفهم أن أصل الربكة التي تعيشها البلاد هذه الأيام سببها هذا الإعلان وغيره من الأدبيات والموجهات.. هذا هو مربط فرس الأزمة الوطنية. ما لم نقم بعملية نقد فكري حقيقي تصوب الأخطاء، لن يحدث أي تقدم، لا على صعيد مفاوضات السلام في جوبا، ولا على مستوى الإستقرار السياسي، أو الإقتصادي. التفكير النقدي يشجعنا لكي نعيد قراءة أدبياتنا السياسية بموضوعية ونزاهة لمعالجة الخلل وتصحيح الأخطاء، قبل فوات الأوان لأن المتربصين بالثورة كثر . كلمة اخيرة، الشعوب التي أحرزت التطور والتقدم هي الشعوب التي أجادت فن التفكير النقدي. النقد ليس الغرض منه الهدم بل التصحيح والتقويم لبلوغ التعافي وتحقيق الإستقرار وإنجاز التنمية الإقتصادية وتحريك عجلة الإنتاج لضمان حياة الرفاه في وطن فيه كل مقومات الحياة. فقط نحتاج لمبادرات وطنية خلاقة . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.