كان بخيت عبدًا، مملوكًا لتاجرٍ كبير، ثري، لم يرزقهُ اللهُ بالأبناء، وأشار عليه أحد الشيوخ بحملِ سبعةِ أقداحٍ من اللحم لقيف البحر، وقال لهم: - أن سبعة حوريات سيخرجن الى القيف، وسيأكلن أقداحَ اللحمِ، ويدعين الله أن يرزقه ذريةً صالحة ... وسيخبرنه في نفس اللحظة، إن كان الدعاءُ مُستجابٌ، وأنه سينجب أم لا؟ وذهب بخيتٌ، بأمر صاحبهِ، الى القيف وهو يحملُ أقداحَ لحم الكرامة، وخرجت الحورياتُ ملائكةُ البحر، وبدأن يدعين، وهن يأكلن اللحم الشهي. - يا رب الحُور، والحواري، يارب البحر الجاري، الما حفروا بالطواري، تدي محمد وليد! ودَعَت الأولى أن يكون الوليد فارسًا، ودعت الثانية أن يكون شهماً، ودعت الثالثة أن يكون وسيماً، ودعت الرابعة أن يكون كريماً، ودعت الخامسة أن يكون ذا عزٍ ومال، ودعت السادسة أن يكون شُجاعاً، أما السابعة فدعت أن يكون المولودُ ذكيَّاً. وقرأن الفاتحة، ورجعن من حيثُ أتين، بعد أن وعدن بخيتاً بأن سيِّدهُ سينجبُ ولدًا... وحددن لهُ صفات المولود. ولكن بخيتًا أضمر من فوره شرًا، وقرَّر أن يستولي على المولود فور ولادته، ولذلك قلل للتاجر وزوجته من شأن وعد الحوريات، واصطنع عدم الاهتمام بدعواتِهن! وفي يوم ميلادِ الطفل المُوعُود، كان بخيتٌ يختبيءُ خلف الرَّاكُوبة، بانتظار ان تعطيه (الداية) القابلة المولود قبل أن يصرخ، ووعدها بأن يعطيها مالاً وفيراً. وأمرها أن تُعطيه الطفل، على أن تلف مكانه (لداية) في قطعة قماش، وتمسحها بالدم، وتعطيها لأم الطفل زوجة التاجر الثري. وخاب أملُ المنتظرين من أقاربِ، وأصدقاءِ التاجر الكبير، لأن المولودَ كان (لدايةٌ)، وانتشر خبر اللداية، وعم القرى، والحلَّال المجاورة... أما بخيت، فقد هرب بالمولود لبلادٍ بعيدةٍ، وحملً معه كمًّا هائلًا من الأغنامِ، والإبلِ، والمجوهرات، وعُروض التجارة. وتوسَّم فيه سلطانُ تلك الديار خيرًا، واستضاف بخيتًا وولده... واستقر بخيتٌ، وابنُه المزعوم، هناك في تلك الديار، لسنوات، حتى كبر الولدُ، وشبَّ عن الطوق، وبدأت تظهر عليه الصفاتُ التي كانت قد وعدت بها ملائكة البحر، فتحلى بصفاتِ الفروسية، والشهامة، والوسامة، والنبل. ولمّا كانت العلاقة جيدة بين بخيتٍ، والسلطان، طلب بخيتٌ يد بنت السلطان لولده المغوار، فوافق السلطان في الحال، وزوَّج ولد بخيت، النبيه الذكي، ابنته الوحيدة، وأغدق عليه النعمة، وأسبغ عليه الجاه. وفي ذاتِ مساءٍ كان الولدُ يُحادث زوجته، ويتسامران، فسألته زوجته: - أنا استغرب للفرق في هيئتكما أنت وأبوك بخيت، فهيئته من المماليك، وانت تشبه الأمراء والنبلاء، فهل هناك سرٌ وراء اختلاف سِحنتيكما؟ وسكت الولد، لأنه لم يستطع الاجابة. ولكنه سأل أباه بخيت، فيما بعد، عن السر، بعد أن أوضح له أن فاطنة زوجته تلحُّ عليه بالسؤال. فأطاعه بخيتٌ، وباحَ له بالسر، وقالَ لَهُ: - أنا نادمٌ على ما فعلته، وانني أُريدُ التكفير عما اقترفت يداي. ولكن، الولد غضبَ عندما أدرك، الآن، إن بخيتًا، وباعترافه، مملوكَه، وليس أباه. وحدَّث الولد زوجته (فاطنة) بأنه سيذهب في رحلة بحث عن أهله، وأمرَ بخيتًا بأن يتحوَّل إلى كلب! ومن فوره، شرع الولد في البحث عن أهلهِ، فجابَ السُّهولَ، والبوادي، وصعد الجبال، وقطع الانهار، وشقَّ الصحارى، لأن مكان أهله كان بعيدٌ جداً، لأن بخيتا حين هرب، اختار أن يقطع، أقصى ما يمكن، من مسافة، خوفًا من افتضاح أمره، وفراراً من حرَّاس التاجر الكبير، أبو الولد الحقيقي. أما زوجة السُّلطان، فقالت له، وهي تودعه: - عندما تحلُّ ببلادٍ، ويقدم كلٌّ الطعام، فاطلُب لبعيرك قلية ، فإن قالُوا لك: - وهل يأكل الجمل (القليَّة)؟ قُل: - وهل تلد امرأة (لداية)؟ وسار منفذاً لنصيحتها، يطلب القلية في كل قريةٍ ينزل بها، وكان الناس يستغربون من كلامه، ويستعجبون من الجمل الذي يأكل (القلية!)، ولكنه بعد ان ابتعد ووصل مدينةٍ نائيةً، كانت تقع بالقرب من أطراف مدينته وديار أهله، استقبلته امرأةٌ، عجوزٌ، وقدمت له الطعام، وسألته: - هل أُحضر شعيرًا لهذا الجمل؟ فطلب منها محمدٌ أن تحضر الشعير، ولكن، بعد أن تقليه، فاستهجنت المرأةُ طلب محمدٍ، وقالت له: - في جمل بياكل قلية؟ - وهل في مرة بتلد لداية؟ فنظرت إليه المرأةُ العجوزُ ملياً، متوجسةً من كلامه، وجمعت جاراتها ليفهمن ما يقوله الزائر العجيب، وما قد يعنيه، وما سيترتب على كلامه، وطلبت منهن ان يعرفن قصته. فعرفت بعض الحاضرات مقصدة، وحكين له عن (أم لداية)، وفهم محمد إنه الآن في دياره ووسط أهله، فأرجعَ بخيتًا لهيئةِ إنسان، وطلبَ مِنه أن يدله على الداية، التي ما أن رأت بخيتاً، وقابلت محمد حتى اعترفت، أمام الجميع، بفعلتها النكراء, وعرَّف محمد أمه، بنفسه، وبزوجته، وعاش هنيئًا وسط أهله، أما بخيت، فقد عاد لهيئته التي حولها له محمد، كلبًا للمرة الثانية!