الإعيسر : رفع شعارات الديمقراطية دون الالتزام بجوهرها يحولها لأداة تهدد استقرار البلاد    زكاة الجزيرة تستضيف الملتقى الأول لمديري المصارف والمشروعات بالولايات    رئيس مجلس السيادة يتسلم رسالة خطية من رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي    رئيس الوزراء السوداني يغادر البلاد    حكومة غرب كردفان خسائر فادحة لحقول النفط تتجاوز 18 تريليون جنيه جراء الحرب    الاجتماع التنسيقي بين مسؤولي الاتحاد الإفريقي لكرة القدم بالجهاز الإداري للمنتخب الوطني    لتحسين الهضم والتحكم في الشهية.. ما أفضل وقت لتناول التمر؟    الفهود تتأهب للموسم الجديد من مدينة الحديد والنار    التواصل بين المليشيا السياسية للتمرد وأذيالها بالداخل لم ينقطع أبداً    قبور مرعبة وخطيرة!    رابطة مشجعي نادي دبروسة حلفا تعتذر لمجتمع كسلا الرياضي    روبيو: سنصدر إعلانات الأسبوع المقبل بشأن جماعة الإخوان المسلمين    عثمان ميرغني يكتب: السودان… ماذا بقي من «ثورة ديسمبر»؟    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    شاهد بالفيديو.. مطربة سودانية تتصدى لرجل حاول "تقبيلها" وساخرون: (المشكلة قلبه ميت لسه مواصل الرقيص)    شاهد بالفيديو.. عروس سودانية تتفاعل في الرقص في "جرتق" زفافها ومطربة الفرح تتغزل فيها: (عسل ورقاصة)    شاهد بالفيديو.. "ميسرة" يعترف ببكائه لطليقته "نهلة" ويرد على سؤال المتابعين (لماذا لاحقتها رغم الإنفصال؟) ويؤكد: ربنا يوفقها ولن اتخذ ضدها إجراءات قانونية لإعادتها من بريطانيا    مدير عام الصناعة ولاية الخرطوم يزور جمعية معاشيي القوات المسلحة    فيفا يحسم مصير المركز الثالث في كأس العرب بعد إلغاء مواجهة السعودية والإمارات    إسحق أحمد فضل الله يكتب: .....(الشوط الجديد)    استشهاد فردين من الدفاع المدني في قصف مسيّرات مليشيا الدعم السريع على محطة كهرباء المقرن بعطبرة    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    بمشاركة 6 عرب.. الأندية الإنجليزية تدفع ثمن كأس الأمم الإفريقية    "فيفا" يطلق تذاكر ب60 دولارا لكل مباراة في "مونديال 2026"    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    مكتول هواك يترجّل    "ونسة وشمار".. زوجة مسؤول بالدولة تتفوه بعبارات غاضبة وتعبر عن كراهيتها للإعلامية داليا الياس بعد إرسال الأخيرة رسالة "واتساب" لزوجها    توجيه بصرف اجور العاملين قبل 29 ديسمبر الجاري    هل استحق الأردن والمغرب التأهل لنهائي كأس العرب؟    تونس.. سعيد يصدر عفوا رئاسيا عن 2014 سجينا    هل يمكن أن يؤدي الحرمان من النوم إلى الوفاة؟    بنك السودان يتأهب لإطلاق المقاصة الإلكترونية    الأردن يفوز على السعودية برأس رشدان ويتأهل لنهائي كأس العرب    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    بعد غياب طويل.. أول ظهور للفنانة المصرية عبلة كامل بعد قرار السيسي    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    ترامب يلغي وضع الحماية المؤقتة للإثيوبيين    كارثة إنسانية قبالة اليونان وغالبية الضحايا من مصر والسودان    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    وفاة إعلامي سوداني    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    إدارة التعدين بولاية كسلا تضبط (588) جرام و (8) حبات ذهب معدة للبيع خارج القنوات الرسمية    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    إحباط تهريب كميات كبيرة من المخدرات والمواد الخطرة بنهر النيل    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    وصول 260 ألف جوال من الأسمدة لزراعة محاصيل العروة الشتوية بالجزيرة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ- أبْ لِحَايّة، قصصٌ مِنْ التُّراثْ السُّودانَي- الحَلَقَةُ الحادِيَة والعُشْرُون .. جَمْعُ وإِعدَادُ/ عَادِل سِيد أَحمَد
نشر في سودانيل يوم 19 - 02 - 2020

كان السلطان يشعُر بِدنُو أجله، فقرَّر أن يوصي إبنه مُحَمَّد وصاياهُ الأخيرة، واستقر رأيه على ثلاث وصايا رأى أنها تلخص كل ما يريد من مُحَمَّدٍ أن يفعل.
وبينما هو وابنه (مُحَمَّدٌ) في الوادي، فوق القيف، مقابل النَّهْر، فضفضَ السلطانُ لابنه مُحَمَّدٍ بما يجول بخاطره ويجيشُ بصدره، فقال له:
- يا مُحَمَّد، أريدُ أن أوصيكَ وصايا، إن التزمت بها أكون مُرتاحاً في قبري، وراضياً عنك دُنيا وآخرة!
- قل يا أبي، فأنا كلي أذانٌ صاغية...
- يا مُحَمَّد، لا تفرط في هذه المُهرة أبداً، ولا تسمح لأحدٍ أن يركب فوق ظهرها، مهما كان، وأيّاً كان...
- حاضر يا أبي.
- يا مُحَمَّد، أخواتك الأربع، قُم بتزويجهن فوراً لمن يتقدم لهن، لا تبحث عن أصل، ولا تسأل عن فصل أزواجهن، ولا تتأخر في عقد قرانهن منهم.
- سمعا وطاعة يا أبي.
- وهذا الوادي، الذي نقف عليه الآن، لا تنظر فيه من هذا أعلى هذا القيف لأسفل، مهما كان يا مُحَمَّد!
- لماذا يا أبي؟ ماذا في الوادي؟ إن لنا فيه حدائقٌ، ومواشي...
- أسمع كلامي، فقط، ولا تجادلني، ولا تنظر من فوق القيف لأسفل... لأن في الوادي أسرارٌ، لو رأيتها: ضرَّتك وما نفعتك! ولا تطاوع نفسك مهما اشتد بك الفضول لرؤية باطن الوادي.
- حاضر يا أبي لن أنظر لأسفل لأرى ما بالوادي.
وبعد وقتٍ وجيز، تُوفي السلطان! وبكاه مُحَمَّد وأخواته الأربعة، وبكته العشيرةُ كلها.
وبعد نهاية مراسم المأتم، ورفع الفُراش، جاء ابن عم مُحَمَّدٍ طالباً منه المُهرة، لأنه كان يزمع أن يخرج في رحلةٍ إلى مكانٍ قريب، وكانتِ المُهرةُ حاملًا، ولكن محمد لم يتذكر وصيةَ والده السلطان، وأعطى المهرة لابن عمه.
وفي الطريق أُجهدَت المهرةُ، ووضعت طفلها الصغير، ولكن، كسل ابن العم من اصطحاب المُهر الوَليد معه، وتركه مكانه، وواصل مشواره بالمهرة الأم، ولما انتهت رحلته وعاد لمُحَمَّد قال له، كذباً:
- إن المهرة قد ولدت مهرًاميتًا!
ولكن مُحَمَّداً لم يصدقه، واقتفى أثر المُهرة، إلى أن وجد المهر الوليد حيًا، فأعاده لأمه المُهرة دون أن يسأل ابن عمه أو يلومهُ، ولكنه تذكر وصايا أبيه، وندم ندما شديداً على عدم إطاعتها، وأضمر، بينه وبين نفسه، الالتزام بما أوصاهُ به أبوه في المرات القادمة.
وبعدَ فترةٍ من الزمن، جاءَ رجالٌ لمحمدٍ لخطبةِ أخواته الأربع.
وكان هؤلاء الرجال الأصدقاء، يتحولون إلى حيواناتٍ بالنهار ، ويصيرون رجالاً بالليل ويتهيأون بهيئة بني البشر ، وكانوا بالنهار، أسدٌ ونمرٌ وتمساحٌ وصقر.
وقد شجعهم على القدوم لمُحَمَّدٍ، ومفاتحتهُ في أمر رغبتهم في تزويجه أخواته لهم، أن التِمْسَاح كان قد استمع لوصايا السُّلْطَان لابنه مُحَمَّد، عندما كانا بطرف الوادي، فوق قيف النَّهْر...
ودون الخوض في أصلهم، أو دون السؤال عمن هم؟ ومن أين أتوا؟ وافق مُحَمَّد على زواج أخواته للرجال الأربعة، وفاءً مُنصاعاً لإرادة أبيه المرحوم، وإيفاء بوصيته الأخيرة له!
وأقيمت مراسمُ الزواج، وتمَّت ضيافة العرسان، وعقد القران على أكملِ وجه، ولكن الرجال الأربعة، هم وزوجاتهم، اختفوا فجأةً، دون أن يتركوا أثرًا، أو يودعوا أحدًا بعد انتهاء مراسم الاحتفال، مباشرةً.
وانزعج الناسُ من هذا الحدثِ الغريب، والجديد عليهم، ولكنَّ مُحَمَّداً كان مُرتاح الضمير... هانيءالبال، واثقاً من صحةِ قراره: ما دام جاء القرار تنفيذاً لإحدى وصايا أبيه السلطان!
ولكن، بعد حينٍ، تجمّعت على مُحَمَّدٍ أبَالسة السماءِ، والأرض، لتُغريهِ بالاطلاع على سرِّ الوادي: بالنظر إلى أسفل من القيف الذي وقف عليه مع أبيه متلقياً الوصايا الثلاث في الماضي القريب، متحدياً أمر أبيه الذي نهاه فيه بتلك النظرة.
وهناك من فوق القيف، نظر مُحَمَّد إلى أسفل الوادي، فرأى غزالةً جميلةً، رشيقة، ذات صوفٍ لامِعٍ رِقْاش، وطفق يتابعها بنظره، فإذا بها ترعى الوادي كله، وتذهب إلى الوادي المجاور، فترعاه وتأكل نباته، كله، أيضاً، وهو يتبعها كالمشدُوه وهي ترعى، وترعى، بجذلٍ وحبور، إلى أن تعبت الغَزَالْة، واضطجعت تحت ظل شجرة، فاضطجع مُحَمَّد مثلها تحت شجرةٍ ظليلة مقابلة لها...، لأنه كان قد أنهكه المسيرُ خلف الغَزَالْة الجميلة.
وما هي إلا لحظات، حتى أتت مجموعةٌ من (الجَّوَارِي) للاحتطاب، وجلب (الواقود)، وما أن رأين مُحَمَّداً، حتى هتفن به:
- يا أيها الضيف! والله أنك لتشبه زوجة سيدي الأَسَدْ شبهاً شديدا!
فسأل مُحَمَّدٌ الجَّوَارِي:
- من هو سيدكن الأَسَدْ، وأين يسكن؟
فأجبنه:
- سيدنا الأَسَدْ قد تزوَّج حديثاً، و أحضر زوجته لتسكن معه، وهو يسكن غير بعيد عن هذا المكان.
فشك مُحَمَّد، إلى درجة اليقين، بأن زوجة الأَسَدْ هي أخته، فأرسل خاتمه لها مع الجَّوَارِي، فجئنه بعد غيابٍ قصير، وقُلن له:
- زوجة سيدي الأَسَدْ، تسمحُ لك بالدخول عليها!
وذهب محمد إلى حيثُ يسكن الأَسَدْ، واستأذن في الدخول، وسُمِحَ له، فدخل.
ووجدها، هي، إحدى أخواته الأربع.
وبعد سلامٍ حارٍ، والسؤالٍ عن الحال والأحوال، أخبرته أخته بأن زوجها الأَسَدْ سعيدٌ بعلاقته معه، ومدينٌ له بتزويجه أخته له، دون السؤال والتحري عنه.
وجاء االأَسَدْ، وكان أسدٌ حقيقيٌّ، فسلم على محمدٍ، ورحَّب به، وأعطاهُ الأمان، واعداً إيّاه بأنه لن يؤذيه، أبداً...
ثَمَّ أعطاه بضعَ سبائبٍ من شاربه، قائلاً له:
- إن احتجتني في أي زمانٍ أو أي مكان، فما عليك إلا أن تحرِقْ هذه السبائب، فتجدني أمامك، على الفور!
ثَمَّ ودَّعهُم مُحَمَّدٌ وانصرف، مُقتفياً أثر الغَزَالْ، مأسوراً بقوةٍ خفيةٍ جذبته إليها.
وقادته (حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ)، إلى منطقةِ النَّمِر، فتَكرَّر ما حدث مع أخته الأولى، زوجة الأَسَدْ، وأخذنه الجَّوَارِي إلى منزل أخته بعد أن أعطاهن الخاتم...
وجاء النمرُ، وكان نمرٌ حقيقيٌّ، فسلم على محمدٍ، ورحَّب به، وأعطاهُ الأمان، واعداً إيّاه بأنه لن يؤذيه، أبداً...
ثَمَّ أعطاه بضعَ سبائبٍ من شاربه، قائلاً له:
- إن احتجتني في أي زمانٍ أو أي مكان، فما عليك إلا أن تحرِقْ هذه السبائب، فتجدني أمامك، على الفور!
وواصل محمد ملاحقة الغزال، فتبعها في مسيرها من وادٍ إلى وادٍ.
وقادته (حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ) إلى منزل الصَّقْر ، وتكرر المشهد الذي سبق، وأذنت له أخته الثالثة بعد أن أعطتها الجواري (خاتم أخيها محمد) ، وفي بيتها، رحب به الصَّقْر وأكرمه كرفيقيه: الأَسَدْ والنَّمِر، ثَمَّ أعطاه ريشاً من جناحه، قائلاً له:
- إن احتجتني في أي زمانٍ أو أي مكان، فما عليك إلا أن تحرِقْ الريشات، فتجدني أمامك، على الفور!
وتبقّت لمحمدٍ زيارة أُخته الرابعة: زوجة التِمْسَاح!
وعندما وصلت الغَزَالْة إلى شاطئءِ النَّهْر، نزلت فيه ومن فورها، وفي لمح البصر قطعت، حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ، عرض النهر، عائمةً، إلى الضفّةِ الأُخرى...
وكان النهرُ عريضاً، وتيّاره جارفاً، ولا يمكن (لمُحَمَّدٍ) أن يقطعه دون مركب، أبداً...أبداً!
وتلفّت محمدٌ يمنةً ويسرى، فلم يرَ أي أثرٍ لمركبٍ، أو طوفٍ، أو أي شيءٍ يُمكن أن يعينه على أن يقطع عرض النَّهْر إلى الضفَّة الأخرى.
وفي أثناء إنشغال مُحَمَّدٍ وانشداههُ بالغَزَالْة، وتأمُّله فيها، وتفكيره، في الكيفيّة التي سيلحق بها، بها... إذا بجوارٍ يردن الماء، وسألن محمداً عندما رأينه:
- مّا بك أيها الرجل؟
ثم قلن له:
- إنك شديدُ الشَّبَه بزوجة سَيِّدنا التِمْسَاح.
فأعطاهن محمد الخاتم لأخته، ووافقت على مُقابلته، ثَمَّ يظهر التِمْسَاح، ويُرحِّب بمُحَمَّدٍ، ويسأله:
- إيّاك أن تكون مُلاحقاً لتلك الغَزَالْة!؟
وأجابه مُحَمَّدٌ بالحقيقة:
- نعم، أنا ألاحق تلك الغزالة، منذ زمن!
فقال له التِمْسَاح:
- إن أي شخص يتابعُ (حَوَّاءَ رِقْ الغَزَالْ)، حتى يصل إلى هنا، ولا يستطيع عبور النَّهْر للحاقِ بها، يُعرِّض نفسه للقتل، لأنَّ جُنُود أبيها (مَلِك الجان) يمهلونه ثلاثة أيّامٍ فقط، يقومُون بعدها بقتله شَرَّ قتلة...
وأوضح له، إن هنالك تسعة وتسعين رجلاً، ممن لم يستطيعوا عبور النَّهْر واللحاق بها، تعرّضُوا قبله للقتل، وهو الرجل-أي مُحَمَّد-رِقْم مائة!
وأردف التِمْسَاح:
- إنك رجلٌ شهم، زوجتني أختك دون أن تتحرّى عني، أو تسأل عن فصلي، وأصلي، ولذلك فإنني سأُساعدُك مهما كلفني الأمر، وسأقوم، الآن، بإيصالك إلى الضفّة الأخرى!
وأوفى التمساح بوعده، وأوصل محمد إلى الضفة الأخرى.
وهناك، في الضفة الأخرى، أعطى الرجلُ التمساح سبائب من شاربهِ لمحمد، وقال له:
- إن احتجتني في أي زمانٍ أو أي مكان، فما عليك إلا أن تحرِقْ هذه السبائب، فتجدني أمامك، على الفور!
وبينما محمدٌ يتجوَلُ في الضفة الأخرى، وجد شباباً يتنازعون حول كرسي فاره وفخم، وطاقية حرير، وعصا.
فباعد محمدٌ بين الشباب ناصحاً إياهم باللُّجوءِ إلى قاضٍ عادل...
فانطلقوا، وفقاً لنصيحته، نحو القاضي، وما أن تأكد مُحَمَّدٌ من ابتعادهم، حتى حمل المقعد، والطاقية، والعصا، وذهب مُسرعاً، إلى بيت ملك الجان، والد (حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ)، وفي بيت حواء رحب به أبوها، واستضافهُ، ووعدهُ بتزويجه من (حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ)، بما أنه كان شجاًعاً، وأنه استطاع عبور النَّهْر العريض.
ولكنه اشترط عليه أن يجتاز اختبارين.
كان الاختبارُ الأوَّل هو أن يفرُز مُحَمَّدٌ كمية من الحُبُوب: العدس، والأرز، والفول، والحنطة، والقمح، في ليلةٍ واحدة...
وخلط السلطانُ الحبوبَ بعضها، بعضٍ...
واستدعى مُحَمَّدٌ أصدقاءَهُ، فحضروا، وأحضروا معهم أصدقاءهم من حيواناتِ الغابة، ونحجوا في فرز الحبوب، كلها، وكان للصقر ، الذي أحضر جميع طيور الغابة، كان له القدح المعلى في فرز تلك الحبوب.
واجتاز مُحَمَّدٌ امتحان ملك الجان الأول.
أما الاختبار الثاني ففقد كان أن يعرض مُحَمَّدٌ بالفرسِ في باحةِ القصر دون أن يطأ البيض المدفُون في نواحي متفرِقْة من مكان العرضة، فقالت له الفرسة:
- لا عليك يا مُحَمَّد، انا أعرف مكان البيض المدفون، وسأعرض بك دون أن أطأ ولا بيضة واحدة.
وهكذا، نجحَ مُحَمَّدٌ في الاختبار الثاني.
فسمح له (ملكُ الجان) بالدخولِ إلى البيت، ثُمَّ زوجه من (حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ).
ولكن ملك الجان أمر محمداً بألا يفتح الغرفة المغلقة في الدار، مهما حدث، فوعده مُحَمَّدٌ الذي استراح في البيت، وسكن إلى زوجته الجميلة، حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ، بأنه لن يفتح الغرفة المعنية، أبداً... أبداً!
وبعد مُضي بعضُ الوقت، داهمه فضولٌ لا يقاوم، بأن يفتح الغرفة الممنوعة، ودون تردُّد، ناكصاً عن وعده (لملك الجان): قام مُحَمَّد بفتح الغرفة.
ووجد مُحَمَّد في الغرفة شاباً وسيماً يكادُ بهاؤُه ينطُق، معلقاً إلى السقف من أرجله، ورأسه متدلدلاً إلى أسفل، ومكتف بجنازير ملحومة إلى بعضها البعض، بطريقة عصية على التفكيك، فسأله مُحَمَّدٌ عن قصته، فقال الرجل الوسيم (لمُحَمَّدٍ):
- أنا غريب على هذه المدينة، وقصتي غريبة سأحكيها لك عندما تطلق سراحي، حتى لا تقع أنت، أيضاً، ضحية، وتكون فريسة أخرى مثلي.
فسأله مُحَمَّد:
- كيف يمكن لي أن أفك تلك الجنازير؟
فقال له الرجلُ الوسيم:
- إذا ضربت السلاسل، واحدة بعد الثانية، ضرباتٍ خفيفة من عصاك، ستنفرط وتتفكك كلها، فأصير حُرًا.
فضرب مُحَمَّدٌ الجنازير، فتفككت كلها، وصار الشابُ الوسيم، حرًا، فعلاً!
ولكنه، في لمحِ البصر، جرى إلى الغرفة الأخرى (غُرفة حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ)، وحملها على ظهره، وطار بها الشابُّ الوسيم في السماء، ثُمَّ اختفى عن الأنظار...
وألجمت الدهشة والاستغراب مُحَمَّداً وعقدت لسانه، وصار ، الآن، بلا حيلة، وليس أمامه سوى أن يخبر ملك الجان بما حدث.
واستمع ملك الجان للقصة، كاملة، من محمدٍ، ثم قال له:
- هذا الرجلُ الوسيمُ هو ابن عمها، وقد طلب يدها مني في السابق، ولكني رفضت أن أزوجها له، وكان رفضي نسبةً لخلافات قديمة في الأسرة، ولكنه هددني بأنه سيختطفها يوماً ما، وها هو يفعل! وأنك يا مُحَمَّد من أضعت عروسك، من بين يديك، بنفسك!
وحزن مُحَمَّدٌ حزن الجبال، لأن قلبه كان قد تعلق بحواء، وندم على خلفه الوعد الذي بذله لملك الجان، ولكن ملك الجان نصحه أن يعمل، بدلاً عن الحزن، أن يعمل على إنقاذ (حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ) بنفسه، من ابن عمها الجِنِّي الوسيم...
وتذكر مُحَمَّدٌ أصدقاءَهُ، فقام بحرِقْ الريش، والسبائب، فأتاه أصدقاؤه، على الفورِ، مستعدين لتلبية جميع طلباته، ومساعدته مهما كانت العواقب.
وحكى لهم مُحَمَّدٌ، قصة زواجه من (رق الغزال)، وكيف إن إبن عمها الجِنِّي الوسيم قد طار بها لعلوٍ شاهقٍ، قبل أن يختفيا عن نظره.
وبدأت أصدقاؤه رحلة البحث لإستعادة زوجة صديقهم محمد (حواء رق الغزال)، فحلق الصَّقْرُ باحثًا عنهما، وسرعانِ ما وجدهما، وسمعهما يتحدثان، واقترب منهما أكثر ليسمع ما يُقال، وقالت حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ لابن عمها، ناصحةً ومُهددة:
- لقد أجرمت في حقي، وحق أبي، وحق زوجي، وأنهما لو وجدوك لقتلوك شر قتلة، وأني لأنصحك بأن تعيدني، الآن وفوراً، إلى دياري، بالتي هي أحسن!
فردَّ عليها ابنُ عمها الجِنِّي الوسيم بقوله:
- أنا رُوحي في بيضة، والبيضة في جرَّة، والجرّة في (بير الكبندق ) العميقة، في عرض البحر، ولن يستطيع كائنٌ من كان قتلي، ولن يقدِرُوا أن يأخذوك مني، بعد أن فزت بك أخيراً.
وسمع الصَّقْر الكلام، وفهمه، وعرف أن عليهم أن يكسروا تلك البيضة الصلبة، القاسية إن هم أرادوا قتل الجِنِّي.
وعاد إلى فرِقْة الأصدقاء، واخبرهم بما رأى وما كان قد سمع.
فتبرع التِمْسَاحُ بجلب الجَرَّة من (بير الكبندق) الشهيرة.
ولمّا أحضرها، نزع الأَسَدُ غطاءَ الجرة، وضرب البيضة بيسراه ففقأها.
وكان الصَّقْرُ، في تلك الأثناء، مرابطاً بالقرب من الجِنِّي و(حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ).
وما أن انكسرتِ البيضةُ، حتى تهاوى الجِنِّي الوسيم، وخرَّ صريعاً...
وحمل الصَّقْرُ (حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ) على المقعدِ الوَثير الذي كان محمد قد احتفظ به منذ أن اصطرع حوله الشباب قرب النهر، وعاد بها إلى حيث كان مُحَمَّدٌ وأصدقاؤه ينتظرون، فأنزلها الصقرُ، ليحملها مُحَمَّدٌ إلى داره.
ثَمَّ ذهب (مُحمدٌ) إلى والدها (ملك الجان)، وأخبرهبأنه فاز، أخيراً، بغزالته الجميلة.
فهنأه الأبُ، على مضضٍ، لأنه كان يُضمر شراً (لمحمدٍ)، وكان بنفسه شيءٌ من حتّى!
وقطع مُحَمَّد وزوجته حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ النَّهْر العريض، عائدين إلى ديارهم، فرحين مسرورين.
ولكنهما، ما أن وصلا واستقرا في الديار، حتى تسامعُوا بأن (ملك الجان) قد أعد جيشاً جراراً من شباب، وشيب القرية، إنسها، وجنها، وحيواناتها استعدادا لخوضِ حربٍ ضده.
وفعلاً، قطع جيش ملك الجان النَّهْر لبلدة مُحَمَّدٍ، عازماً على حربه، بسبب غضبه من الطريقة التي دخل بها مُحَمَّد القرية، وفوزه في الاختبارات التعجيزية التي أدت إلى زواجه من حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ.
لقد رأى (ملك الجان)، في كل ذلك، استفزازًا بليغاً له، وإهداراً منكراً لسطوته، وها هو يُريد ردَّ الاعتبار واستعادة هيبته، بشنِّ حربٍ على مُحَمَّدٍ وأهل بلده، واستعادة (حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ) منه مرة أخرى.
وقابل ملك الجان مُحَمَّداً، وصارحه بنيته في أن يحاربه، ويقتله، ويسترد منه حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ.
فقبل مُحَمَّد التحدي والمنازلة، ولكن قال (لملك الجان):
- لقد أكرمتني، وأعليت قدري عندما أتيتُكَ ضيفاً، فأرجو منك أن تُتيح لي الفرصة لإكرامك، وإكرام جيشك، لمدة ثلاثة أيام، بعدها نتحارب رجلاَ لرجلٍ، ونبدأ المعركة، وتكون (حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ)، من نصيب الفائز في تلك الحرب.
فوافق ملكُ الجان على النزول ضيفاً على مُحَمَّدٍ، لمدة ثلاثة أيام، تُشَن بعدها الحرب التي ينوي أن يسترد بها ملك الجان هيبته ويسترد كرامته ويستعيد (حواء رق الغزال).
واستدعى مُحَمَّدٌ فرسانَ القبيلة، وأصدقاءه أزواج أخواته الأربع، فأحضروا معهم قبائل من التماسيح، والأسود، والنمور، وملأت الصقورُ الجو.
وعمد الأصدقاءُ الأربعة، وقبائلهم من أسودٍ، ونمورٍ، وصقورٍ، وتماسيح على إظهار قوتهم، وإرهاب جيش ملك الجان، بالمناورات، واستعراض العضلات، فزأرتِ الأُسود، وزمجرت النمورُ، وانبطحتِ التماسيحُ... وحلَّقتِ الصقورُ.
وخاف جيش ملك الجان، وارتعب جنوده، وتوجسوا هزيمةً ماحقة إن دارت الحربُ، وقال ملكُ الجان، الذي تأكد من هزيمته قبل ابتداء المعركة، لمحمدٍ:
- لقد عدلت عن رأيي وتراجعتُ عن قراري حول الحرب، بعد أن رأيت شهامتك، وشهدتُ على قوَّتك، وسنفارِقْك، عن طيب خاطر، ونحنُ مطمئنون على (حَوَّاء رِقْ الغَزَالْ!).
ثُمّ هنأهُ مرةً أُخرى، وتمنى له السعادة والهناء مع زوجته (حواء رق الغزال)، وودعه وداعاً حاراً، وعاد بجيشه، قاطعاً النَّهْر العريض، صوب مملكته الكائنة بالضفة الأخرى من النهر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.