نقل إلينا صناع السلام بجوبا خبراً مفاده أنه تم الاتفاق على منح اقليم دارفور, عشرون بالمائة من الوظائف الحكومية العليا والمتوسطة والدنيا, ابتداءً من وكلاء الوزارات والسفراء ثم الأدنى فالأدنى, وذات الحصص ستكون من نصيب كل مسار من مسارات القضايا الأخرى, لقد شهدت مؤسسات الخدمة المدنية في الدولة السودانية منذ الاستقلال, خللاً بنيوياً في توزيع الوظائف الحكومية بين مكونات السودان الجهوية, وكان أشهرها عشرات المئات من الوظائف التي تركها المستعمر تحت تصرف أول حكومة وطنية بعد خروجه, فتم تقاسم تلك الفرص بين أقليات مكون السودان الخرطونيلي, و رمي العدد القليل الذي لم يتجاوز اصابع اليدين من فتات تلك الشواغر الى الجنوبيين و سكان غرب وشرق السودان. المحاصصة ليست عيباً كما صورها بعض الناقمين على المهمشين, هذه المحاصصة قد بدأها الأخوة المركزيون وسدروا فيها غياً زماناً طويلا, وجاء الوقت لكي يتم تأسيسها بناء على الكثافة السكانية و التمييز الايجابي كما أدلى بذلك المتحدثون باسم وفدي التفاوض, فالعقلية المركزية لا ترى اعوجاج رقبتها عندما يكون الحق عليها, ولا تذعن حين يحصحص هذا الحق عندما يتحسس الآخرون حقوقهم, مثلما حدث عند تكوين مجلس الوزراء الانتقالي الذي تم فيه تقسيم الكيكة بين أحزاب (قحت), فابعدوا شركائهم في الجبهة الثورية و لم يصغوا للتفاهمات التي تمت بينهم في أديس ابابا قبيل اختيار رئيس الوزراء, فجاء منبر جوبا لمعالجة ذلك النكوص. (الحساب ولد) كما يقول المثل السوداني و(المابي الصلح ندمان) , فحتى هذه العشرون بالمائة التي أثارت حفيظة المنحازين لأجندة الدولة القديمة, ربما تزيد إذا ما تم اجراء مسح سكاني حقيقي غير متواطيء ولا منحاز, فاليتوكل رُسُل المحبة في جوبا و لينجزوا وثيقة السلام الشافية و الكافية التي تعطي كل ذي حق حقه, ما أضر ببلادنا غير الأنانية و النرجسية و حب الذات و استرخاص حق الآخر المختلف عنا, لقد ذهبت ثلث مساحة البلاد إلى حال سبيلها كرد فعل لعقدة هذه السايكلوجية المتحجرة والمتمحورة حول ذاتها, والله لا يستحي من الحق فحري بعباده أن يكونوا على نهج القسطاس القويم. أهم ما ذكر فيما يخص اجراءات تنسيب الذين سوف يشملهم هذا الاستحقاق من كوادر الاقليم, هو تكوين لجنة فنية متخصصة و مستقلة ممن يشهد لهم بالكفاءة و النزاهة من الخبراء والمخضرمين من دارفور نفسها, وهنا لابد من الاشارة إلى أن هذا الأقليم الذي نكبته الحرب لما يقارب العقدين من الزمان, يشبه السودان الكبير في تنوعه و اختلافاته الثقافية و البيئية, لذلك وجب على هذه اللجنة الفنية أن تراعي التنوع الداخلي للأقليم, وأن لا تنقل الجرثومة الاقصائية المركزية الى الممارسة المهنية الشفافة المنوطة بعمل هذه اللجنة, فذات المعيار الذي حصل به الاقليم على كوتته من الحصة الكلية للبلاد, يجب أن توزع هذه الكوتة بناء على نفس المعيار (الكثافة السكانية و التمييز الايجابي), بين الولايات الخمس المكونة للأقليم. لقد تعرض السيد رئيس الوزراء مراراً للحديث عن خصوصية التجربة السودانية المتفردة, و هو محق في ذلك و يتفق معه كل سوداني له بصيرة , فالسودان بلد عظيم و ثري لا يمكن أن يكون تحت قبضة الرجل الواحد أوالجماعة الواحدة , وأن كل اقليم من اقاليمه تتجاوز مساحته و حجم سكانه مساحات وأحجام سكان دول عربية و افريقية ملأت سماوات العالم ضجيجاً و إعلاماً, فالطريق الأمثل لأن نكون دولة قوية في الأقليم والمعمورة هو منح الأقليات و الأغلبيات حقوقها في حراثة أرضها و تنقيبها, فالشراكة الحقيقية هي المخرج من الأزمة السياسية و الاقتصادية, فلا يعقل أن تسيطرأسرة واحدة على وظائف بنك السودان, و لا يستجيب إلا العقل السليم غير المصاب بالعته واللوثة والجنون لحقيقة أن اطفال (أبيي) ما يزالون حفاة وعراة بينما أبناء الأسرة الواحدة تتنزل عليهم بركات الرواتب الدولارية من مصفاة الجيلي, نفس المصفاة التي تعمل على تصفية بترول (أبيي) وتصفية دماء بؤساء غرب كردفان. من المعلوم ان الفطام من الصعوبة بمكان بحيث لا يحتمله الرضيع, الذي لا يستطيع أحد أن يقنعه بأن فصاله في عامين, وأن ثدي الأم ليس حكراً محصوراً عليه وأن هنالك قادم آخر له نفس الحق, هذا هو حال المتبرمين مما رشح من جوبا من أخبار أسعدت الكادحين واغصبتهم, فلكي تسعنا هذه البلاد الرحبة و المعطاءة التي وصفها الشاعر الراحل اسماعيل حسن فقال (حتى الطير يجيها جيعان) لابد أن نضع أيدينا على أيدي بعض و نتقاسم اللقمة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.