السادس من مارس 1985 كانت الشوارع تمور وكأنها مرجلاً يغلي حيث إنتظمت المظاهرات والمواكب هادرة وهي تهتف بسقوط النظام. فقد سبب حكم النميري تفاقم الانقسامات والتناحر الاجتماعي والتراجع الاقتصادي ومصادرة الحريات والتضييق على الحركة والتجربة السياسية المختلفة، فكانت ثورة أبريل المجيدة عام 1985. صحيح أن الانتصار تحقق صبيحة 6 أبريل لكن الانتفاضة الثورية مرت بمحطات عديدة من النضال المتواصل ضد بطش نظام النميري في الجزيرة أبا وودنوباوي وغيرها من المجازر، أعلن الجيش انحيازه للشارع ونهاية عهد النميري وكل نظام مايو، لتبدأ فترة انتقالية تم بنهايتها تنظيم الانتخابات وتسليم السلطة للمدنيين. ما أشبه اليوم بالبارحة فقد حقق الشعب السوداني من جديد بعد تراكم نضالي ثوري بدأ منذ إستيلاء نظام الجبهة الإسلامية القومية على السلطة بإنقلاب 30 يونيو 1989م، فكانت ثورة ديسمبر المجيدة وإسقاط الطغيان في يوم مشهود 6 أبريل 2019 حيث إنتظم الإعتصام أمام القيادة العامة وإنطلقت شعارات إسقاط النظام والحرية والسلام والعدالة، حتي عزل الطاغية بواسطة الجيش السوداني، لتبدأ مرحلة إنتقالية عبر إتفاق قوى التغيير والمجلس العسكري في شراكة تنتهي بتسليم السلطة للمدنيين عبر انتخابات حرة ونزيهة. من حسن الصدف التزامن العبقري في النقطة الفاصلة والفارقة في 6 أبريل 1985 وفي 6 أبريل 2019م، وأن تكون السلمية هي كلمة السر والعبور، مما يعكس عظمة هذا الشعب الرائد، وهو يكرر المشاهد ويورث الأجيال إرادة وصمود ورفض الإستبداد وعشق الحرية، ليسطر بأحرف من نور في صفحات التاريخ أعظم إنجازات العقل السياسي المتمثل في التراكم الثوري وصولاً الي الإعتصام وإسقاط الطغيان. من عاش ثورة ديسمبر المجيدة وأيام الإعتصام لن ينسى تلك الجموع التي غمرت الشوارع والميادين من أبناء وبنات الشعب السوداني التي تدفقت أفواجًا متلاحمة تُسمِع الطغيان هتافات الرحيل والسقوط والتحدي والآمل، تلك الأيام التي اهتز فيها عرش الطاغية شيعته، وزرفت فيها دموع نبيلة وذهقت فيها أرواح طاهرة وتدفقت دماء عزيزة. (2) بعد ما أطيح بالطاغية، لم تستمر حالة الترقب والإنتظار كثيراً لاحت في الأفق أربعة سيناريوهات محتملة بعدة شواهد (إستكمال الثورة، الثورة المضادة، عسكرة الثورة، إختطاف الثورة)، وبدأت هذه السيناريوهات في تسابق وصعود وهبوط، وتتقاطع وتتصارع في هيمنتها على السلطة الإنتقالية، هذه السيناريوهات هي: أولاً: إستكمال الثورة: هذا السيناريو وجد تأئيد واسع من قبل جموع الشعب السوداني والمشفقين على الثورة السودانية، السيناريو قائم على دعم السلطة الإنتقالية والشراكة بين قوى التغيير والمجلس العسكري وقطع الطريق أمام السيناريوهات الفوضوية، وتصفية النظام المباد، واستكمال ترتيبات الانتقال الديمقراطي خاصة السلام العادل وأوضاع النازحين والعدالة الإنتقالية والدستور والانتخابات لتحقيق عبور تاريخي للسودان كنموذج لنجاح ثوراته في مواجهة الديكتاتوريات، تواجه عدة تحديات تهدد الشراكة القائمة خاصة التعثر في معالجة قضايا الإقتصاد والسلام والعدالة. ثانياً: الثورة المضادة: هذا السيناريو يقوم على تقويض السلطة الانتقالية بالتخطيط للإنقلاب، وتفعيل مفاتيح الدولة الخفية وتعطيل الحكومة وحشد الأزمات، وإعادة إنتاج النظام السابق بصيغ جديدة، وإعادة الثقة في مؤسسات الدولة الخفية، وإستقطاب المال اللازم لوضع عراقيل الانتقال، وإستغلال الجماعات الراديكالية للتشويش السياسي، والتشكيك في قوى التغيير، التحديات التي تواجه هذا السيناريو تتمثل في بداية إجراءات تصفية التمكين وعمليات العزل الواسعة، فرصه قائمة على الصراع بين المكون المدني والعسكري. ثالثاً: إختطاف الثورة: هذا السيناريو تتيناه قوى جزء من الثورة ويدعم بشكل أساسي من بعض منظمات دولية وحكومات إقليمية. يقوم هذا السيناريو على فرضية أن هناك فرصة قد لاحت في الأفق لإعادة إنتاج تمكين بديل وإمكانية الحكم من جديد بعد فشل الإسلامويين في ظل إحتفاء المجتمع السوداني بالحريات الشخصية ورفض النموذج الإسلاموي للنظام المباد. وتسخير حماس الشباب في الشارع وتبني شعارات راديكالية لصيقة بحالة الغضب الشعبي. تحديات السيناريو تتمثل في النتائج العكسية التي نجمت من التوجه الراديكالي المنافي لوجدان ومزاج السودانيين، وإنكشاف الغطاء الصارخ، والتمترس خلف لأفتات عديدة، غياب السند الجماهيري الشعبي خاصة في الولايات ومناطق النزاعات. فرصه رغم ضآلتها الي أنها قوية خاصة مغامرات العسكرة، والإنتشار عبر لأفتات عدة وإمتلاك منصات تشويش للرأي العام. رابعاً: عسكرة الثورة: هذا السيناريو تتبناه مجموعات متفرقة تعمل علي إستغلال قوات الدعم السريع، والجيش، وجهاز الأمن، والشرطة، وحثها علي إستلام السلطة، ويدعم من بعض الدول، وتدعمه حركات مسلحة وقوى سياسية وانتهازيين وعدد من الإدارة الإهلية وبعض المثقفين.. يقوم السيناريو على فرضية أن القوى السياسية غير جاهزة وليس مؤهلة لإدارة الدولة، وأن المنطق ان يحكم العسكر الي حين تسليم السلطة الي قوى منتخبة، وأن هناك مهددات أمنية في ظل السيولة السياسية وأهمية صناعة السلام كأولوية. هذا السيناريو إنتصر مؤقتاً باستلامه للسلطة والإحتفاظ بها لوقت من الزمن.. تحديات هذا السيناريو تتمثل في الرفض الواسع لحكم العسكر وإعتباره امتداد للنظام المباد، وعدم الإعتراف الدولي، وعدم وجود الغطاء السياسي، والوقوع في استقطاب المحاور الخارجية. فرصه تتمثل في عدم الاتفاق السياسي بين مكونات قوى التغيير، وجود مجموعات سياسية رافضة للشراكة المدنية العسكرية الحالية، والمهددات الأمنية والاقتصادية والسياسية. (3) كان الوعي عاملًا أساسياً في إرهاصات الثورة، وقد تحققت إشتراطات الثورة الموضوعية والذاتية بوحدة قوى التغيير والإصطفاف حول (إعلان الحرية والتغيير) في ملحمة سياسية شعبية هزمت آلة القمع والقهر، بالرغم من ضيق سجون النظام بالمعتقلين السياسيين الا أن قوى التغيير تماسكت وقادت الحراك الثوري حتي سقط النظام.. ومع ذلك تفاجأت قوى التغيير بالسقوط الداوي للنظام. فكان دورها المطلوب بناء هياكل السلطة الانتقالية، وللأسف في مرحلة لاحقة لم تستطيع التواصل الجماهيري وظهرت الاجندة الحزبية الضيقة في المحاصصات، والتي أصبحت وسيلة محورية في ضرب وحدة الثورة الثورة وإعادة الجموع الثائرة الى حظائر المكاتب المغلقة واللعبة السياسية والتجاذبات في ملفات الانتقال المتمثلة في تصفية النظام المباد والاقتصاد والسلام والعلاقات الخارجية والعدالة. أثر ذلك في التراخي في فرض هيبة الدولة وملاحقة المجرمين والفاسدين وبناء مؤسسات السلطة الانتقالية لا سيما الولاة المدنيين والمجلس التشريعي، والبط في قضايا الشراكة وتعثر الفترة الانتقالية لحجم التحديات والتي أولها تركة النظام المباد الثقيلة وتمدد الدولة الخفية والخراب الكبير في مؤسسات الدولة نتيجة سياسات الفساد التي إنتهجها نظام البشير.. ومع كل ذلك فقد إتخذت السلطة الانتقالية قرارات ثورية مهمة للغاية لصالح عملية الانتقال، ولكن لم تخرج الثورة عن قواعد اللعبة القديمة، فلم تطور كثير من قوى التغيير عقليتها وخطابها ونهجها من المقاومة الي رحاب البناء وتحمل مسئولية الحكم وإعطاء عملية هدم أركان النظام من الجذور أولوية كأهم مطالب الشعب المشروعة بعد ثورة ضحى فيها الشباب!. عامل الوعي الثوري كفيل بتصحيح مسار الإنتقال وإستكمال مقاصد الثورة، وإستمرار النضال حتي الان هو أكبر محركات الثورة والمحافظة على مكتسباتها ومراقبة أداء الحكومة الانتقالية وتقويم المسيرة،، فليس أمام قوى الحرية والتغيير الا الانحياز لمطالب الجماهير وإجراء مراجعات أساسية بعد مرور عام من سقوط الطغيان وإعتماد مصفوفة لمتبقي الفترة الانتقالية لإنجاز مهامها كاملة دون أي تمديد وتوحيد إرادتها وتحمل مسئوليتها التاريخية في العبور الي الديمقراطية.. هناك عدة مبادرات لتصحيح المسار الانتقالي والرجوع الي إعلان الحرية والتغيير والإتفاق السياسي والوثيقة الدستورية نصاً وروحاً، هذه المبادرات تجد الدعم والمناصرة، فليس هناك خيار سوى المضي قدماً في تحقيق أهداف الثورة،، كما أن أي إتجاه لإستعادة النظام المباد بأي صيغة سيجد مقاومة شرسة من الشعب السوداني ليس لرفضه العودة للوراء فحسب وإنما لا يرغب في التخلي عن الحرية التي إنتزعها إنتزاعاً، فهي أساس المستقبل والأمل المنشود.. ***** عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.