بهذه الدّر نتصور الشاعر البائس، ونلغي ما دون ذلك: ستون جنًّا طالبوني بدفعها لِخلع ضِرس كاد يُزهقُ نفسي وأنا الذي بالكاد أشري أرغفي والفقرُ يكسوني لفروة رأسي هل تخلق الموهبة الشاعر؟ أم أن الظروف العصيبة هي التي تميط اللثام عن الموهبة وتبعثها من رحم حفظها؟ أن لكل حالة من الإبداع الشعري نسقها النفسي وجوها المزاجي الخاص بها؟ ليس من شك في أن الإبداع الأدبي يُعدّ بلورة إنعكاسية لأبعاد متنوعة في حياة شاعر ما. تتناول هذه الوريقات الرؤية السطحية للنص المتشكل في الإنجاز البديع للشاعر الحزين الموهوب مصطفى محمد خضر أحد سدنة الأدب بمدينة شندي _عليه رحمة الله ورضوانه _ الذي دفن شعره وهو حي. وحزنه الذي أعنيه هو التشرد وضنك العيش، والتصادم المستمر مع ممن أكلوا من طرفه خلقًا وأدبًا وطرفة. أما الموهبة التي أعنيها فتعود لا إلى سبب واحد ، بل إلى ثلاثة أسباب، أولها: ظلم ذوي القربى، وثانيها: ظلم ذوي المهنة من رفقاء سلاح القلم لا رفقاء سلاح الكتابة، وثالثها التمرد العقلي ونفسية وشخصية مصطفى الثائرة. ورغم الكآبة والحزن في شعر (أبي درش) إلا أنه ليس مستحيلاً أن تلمس في أدبه روحًا من الدعابة والسخرية. وربما يعود ذلك _في رأيي_ لحبه وعشقه الشديد للشاعر المصري المغمور عبد الحميد الدِّيب الذي لُقّب حيّا وميتا ب (شاعر البؤس)، فقد كان شاعرنا يردد دائمًا شعر الديب ويقول:" هذه الأبيات من جُحر الدّيب" أي غرفة الديب التي قال فيها صاحبها: أفي غرفة يا ربّ أم أنا في لحد؟ ألا شدّ ما ألقى من الزمن الوغد أرى النمل يغشى الناس إلا بأرضها فأرجله أمضى من الصارم الهندي تساكنني فيها الأفاعي جريئة وفي جوِّها الأمراض تُفتكُ أو تُعدي وقبل الدخول في خضم موهبة الشاعر مصطفى خضر دعنا نتعرف على شخصه. وُلد وريث الصعاليك ( رحمه الله) بقرية (سَرْكَمَتُّو) قرب وادي حلفا، ونشأ بها ثم يمم شطر مصر مع أسرته، وأقام في مدينة الإسكندرية حيث واصل تعليمه وانفتحت أمامه آفاق جديدة من الإدراك، والوعي بالجمال، والمباني، والثقافات – ولا عجب – فقد كانت الميناء المفتوح لمصر بشمسها التي تخترق الدماغ إلى القلب فتولد الدفء وتقوي الإحساس. وعقب تخرجه في جامعة الإسكندرية من قسم التأريخ، عاد إلى السودان مُمَنّيًا نفسه بوظيفة عالية فاستقر به القدر معلما بالمرحلة الثانوية بمدينة كوستي. ثم قادته ظروف العمل لحاضرة الجعليين في أواخر السبعينيات حيث ألقى عصا التسيار بسوح مدرسة شندي الثانوية بنين في شعبة التأريخ. وفي مدارس شندي خالط الأزهريين وله في ذلك مآرب، فعن طريقهم حصل على دواوين أعلام الشعراء كالمتنبئ وابن الرومي والمعرّيّ وأبي نُواس وغيرهم. كما حصل على الروايات الشفوية لشعراء منطقة شندي كالطيب ود عبد القادر ود سليمان المسندابي العاليابي الشهير ب (ودضحوية)، وقرأ لأولاد فِتِر الزيداب البطاحين، وأعجبه شعر شاعر بلاط الجعليين الأوحد حمدان ود حاج حاج الأمين. فأشبع شاعرنا نَهَمَه بتلك الدواوين والروايات فاستوى ذوقه واستقام لسانه. مكث شاعرنا بمقر إقامة مشرف سكن الطلاب، وهناك بدأ يُرسل أنّاته. ورأى في نفسه هوىً للشعر الحزين الباكي الذي يُرثي النفس ويتقطع عليها أسىً، فقد وجد فيه تصويرًا لحاله وحال أطفاله وخاصة بِكره (غدير) الذي تركه في حلفا مع إخوته قبل التئام شمل الأسرة في مقر عمله الجديد بشندي: أسفي عليك وأنتَ في أغوار حلفا يا غدير تتسقطُ الأخبار عني كلما وافى البشير فلربما جاء الذي يأتيك بالخير الوفير *** يأتيكَ كُوكَنُ في سينيير فتسأله عليَّ وكأنَّ كوكن كان في شندي ويده في يدَيَّ أو كان مجذوبًا إذا أخبرته علمَ الخفيَّا كما أن مصطفى (رحمه الله) رأى في نفسه هوى لنماذج من المقطوعات الفكاهية نختزلها الآن ونعود إليها لاحقًا بحول الله. إلا أن مما جعله يقف على قدميه وجعل قريضه تسير به الركبان، هجاؤه المضحك والمقذع الذي يصل أحيانًا إلى حد الغلظة، وقد جرّ له الهجاء مصائب شتى وردود قوية ملأت الساحة في ذلك الحين، بل اتهمت شاعرنا في سلامة لغته منها قافية أحد أساتذتنا الكرام التي يقول في أحد أبياتها: تُبًّا للهجتك التي لا تنتمي أبدًا لهذا البيرق الخفاقِ ويذكر أحدهم شاعرنا بأنه كان يجب أن يكفّ عن هجاء أهل البلدة التي حل فيها حلول الضيف المكرم فيقول: وشويعر اتخذ القصيد مطية يسعى به لتَكَسُّب الأرزاق ساءته فطرته وساء قريضه فأساء حتى فاضل الأخلاق والشعر سلعته يساوم حوله ويبيعه في أبخس الأسواق مسٌّ طَفَا فينا وليس بمصطفى فالمصطفى يمتاز بالأخلاق في حين لفظتك البلاد بأسرها ضمّتكَ شندي ضمة المشتاق وحنت عليك وأرضعتك بثديها وسقتك شهدًا بعد عيش الفاق تبًّا للهجتك التي لا تنتمي أبدًا لهذا البيرق الخفاق متمصر حينًا وحينًا آخر متسودن أو قد تكون عراقي مثل الحطيئة فيك كل نقيصة والمدح عندك مفعم بنفاق فردّ عليه مصطفى: قد كنت يومًا واسع الآفاق وكنت محترمًا على الإطلاق وكنت في نظري عظيمًا ماجدًا من أسرة معروفة الأعراق تستقبل الضيف الكريم بكلها وتحطه في داخل الأحداق وتحثه ألا يغيب إذا مضى وتمده بنجيبة وعتاق الشيخ أحمد لم تزل أفضاله بخواطري وبداخل الأطباق ولأجله سامحت أقبح وِلدِه ولن أرد بمدفعي الدفاق وليعلمن صغيرنا أن الذي بيني وبين المصطفين لباقٍ رغم الذي ما كان من أفعاله ورسوبه في الذوق والأخلاق ومن أشهر ما أتحف مصطفى – رحمه الله – محبيه به في باب الهجاء ما حواه كتيِّب ( جرير والفرذدق يظهران من جديد) جرت فيه مساجلات بينه وبين الشاعر المفلق (أبو لكيلك) صاحب الدرتين في رثاء عمدة حجر العسل: خشم العقبة مات واتكشف المستور وأرض الجود كِمِل تيرابها قعدت بُور وكذلك هجاؤه للدامر: دمّر الله دامر المجذوب ولحاها لِشُحّها بالخطوب وأتاها من بعد فقرٍ فقرٌ يجعل البوم ناعقًا في الدروب جئتها يومًا فلم أرَ فيها غير ماضٍ يسير نحو الغروب لأُناس لم يتركوا أعقابًا يحفظون ودهم في القلوب فردّ عليه أحد المشائخ: أتهجو دامر المجذوب جهرا أتهجو الدين والعلم الأغرّا أتهجو معلمًا للعلم ضاءت معالم نوره دهرًا فدهرا أتهجو مكارم الأخلاق فيها فمثلك نال في الأخلاق صفرا ومثلك قد يُباعُ بدرهمين بسوق الدامر المعمور عصرا قبيح الشعر ينظمه ابن خضرٍ يتيه بجهله ويعيش فقرا ألا رحمه الله رحمة واسعة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.