ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصورة والفيديو.. على أنغام أغنية (حبيب الروح من هواك مجروح) فتاة سودانية تثير ضجة واسعة بتقديمها فواصل من الرقص المثير وهي ترتدي (النقاب)    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    هل رضيت؟    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جاسون هيكيل: "الهوة: عدم المساواة في العالم من الاحتلال إلى الأسواق الحرة .. عرض كتاب: أ. د. محمود عبدالرحمن الشيخ
نشر في سودانيل يوم 20 - 05 - 2020

جاسون هيكيل: "الهوة : عدم المساواة في العالم من الاحتلال إلى الأسواق الحرة
Jason Heickel: The Divide: Global Inequality From Conquest to Free Markets"
عرض كتاب: أ. د. محمود عبدالرحمن الشيخ
تمر دول العالم النامي أو ما يعرف بدول الجنوب بأزمات حادة طالت كل مناحي الحياة من سياسية واقتصادية واجتماعية . فقد ضربها القهر السياسي والظلم واحتواها الفقر والجوع والمرض ونخر في عظم مجتمعاتها التردي الأخلاقي والمخدرات وتفشي الجريمة. وكان نتيجة كل ذلك فقرا مدقعا وجوعا يمسك بتلابيب الأغلبية من السكان وتفشيا للأمراض المهلكة مثل الأيدز والبلهارسيا الملاريا وفقر الدم وغيره. ودونك كدليل تلك البطون الخاوية والعظام البارزة التي تزين صور القنوات التلفزيونية وتحتويها إعلانات منظمات الإغاثة والعون الإنساني في سعيها لاستدارار عطف المانحين.
يرجع البعض كل ذلك لفساد الحكم والدكتاتورية وغياب الديمقراطية والحرية والعدل التي ترزح فيها تلك الدول، ويراها أخرون في عوامل الطبيعة من جفاف وتصحر وفي إفرازات الحروب الأهلية ، بينما يراها فريق ثالث في عدم التخطيط والعجز عن استغلال الموارد المتاحة بطريقة علمية. هذا إذا استبعدنا عامل العرق أو نظرية الانتخاب الطبيعي التي يروج لها دعاة العنصرية والتي تسوق نقاء عرق الرجل الأبيض وتفوقه وفساد عقول الأفارقة والآسيويين وقلة ذكائهم التي تجعلهم عاجزين عن إدارة شوؤن بلادهم واستغلال مواردهم الاستغلال الأمثل.
كل ما ذكر أعلاه قد يكون صحيحا أو عاملا مساعدا في ما وصلت اليه أحوال دول العالم الثالث من تردي يتفاقم عاما بعد عام؛ لا دولة من دوله تنجو منه إلا القليل الذي يعد على أصابع اليد الواحدة سواء في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو جنوب شرق آسيا.
لكن كل تلك الأسباب ما هي في الحقيقية، كما يري الأكاديمي البريطاني جاسون هيكيل في كتابه : " الانقسام : عدم المساواة في العالم من الاحتلال إلى الإسواق الحرة The Divide: Global Inequality From Conquest to Free Markets"" إلا إفرازات طبيعية لعوامل أكثر حدة تتمثل في الانقسام الحاد وعدم المساواة التي تكتنف النظام الاقتصادي العالمي وفي سيطرة الدول الرأسمالية على موارد العالم الثالث من خلال سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي منذ عهد الاستعمار وحتي وقتنا الحاضر. تلك السياسات هي التي أدت لأن تزداد دول العالم المتقدم غني وتزداد دول العالم الثالث فقرا ولأن تفشل كل محاولات الدول الفقيرة في تحقيق التنمية وهزيمة الفقر. ويري هيكيل أن عدم المساواة في التنمية بين دول العالم ليست أمرا حاضرا بفعل مثل تلك العوامل التي يروجها البعض وإنما قد خلقت خلقا بتدبير محكم وتخطيط دقيق دبر بليل.
يقع كتاب هيكيل الذي صدر لأول مرة في بريطانيا عن مجموعة دار راندم للنشر في عام 2017م تحت عنوان : " الانقسام : دليل مختصر لعدم المساواة في العالم وحلولها" . أما هذه الطبعة التي بين أيدينا والتي صدرت بعنوان مختلف " الانقسام: عدم المساواة العالمية : من الاحتلال إلى السواق الحرة" فهي الطبعة الأمريكية التي ظهرت في عام 2018م فقد نشرتها دبليو نورتن في نيويورك. يقع الكتاب في 344 صفحة من الحجم المتوسط ، بما فيها الهوامش والفهرست. ويتكون الكتاب من مقدمة وأربعة أبواب أحتوت على تسعة فصول.
هيكيل أستاذ جامعي في مدرسة لندن للاقتصاد، متخصص في علم الانثروبولوجيا وكاتب منتظم في جريدة الغارديان البريطانية، عاش طفولته في أفريقيا، في مملكة سوزيلاند، حيث كان والداه يعملان طبيبان ثم عمل بعد تخرجه من الجامعة في ذات المملكة التي كانت تعد الأسواء في العالم من حيث تفشي مرض عدم المناعة المكتسبة " الأيدز" حيث شاهد كيف يموت الالاف بل الملايين لأن الشركات المصنعة للدواء في الغرب لم تسمح بانتاجه لأنها تملك حق الاختراع وتطالب بمبالغ يعجز عنها أولئك الفقراء المعدمين، كما عمل لدي احدي منظمات الأغاثة في فلسطين المحتلة.
كما يبين هيكيل في كتابه فإن الفقر والتخلف التنموي والهوة العميقة بين العالم المتقدم والعالم المتخلف ليس أمرا طبيعيا مرده حرمان الطبيعة وعجز الموارد وفساد الحكم ولكنه متجذر في خلل العلاقة الاقتصادية بين العالم الغربي الصناعي ودول العالم الثالث منذ فجر الاستعمار. إن وكالات التنمية ومنظمات الاغاثة والمنظمات العالمية تعزو مأساة العالم الثالث لمشكلات فنية يمكن حلها بإيجاد المؤسسات الملائمة وتبني السياسات الاقتصادية الصحيحية واتباع نصائح خبراء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. إن كل ذلك ، كما يري هيكيل: " قصة معتادة ، وحل مريح " قوامه بلايين الدولارات وجيش من منظمات الإغاثة والمنظمات غير الحكومية يجوبون بلاد العالم الثلاث سعيا وراء إنهاء الفقر من خلال المعونات والإغاثات.
لكن كل ذلك ما هو إلا وهم كبير. لأن الحكاية كلها مبنية على افتراض خاطئ. فحتي عام 1500م لم يكن هناك فرق كبيرفي مستويات المعيشة والدخل بين أوربا وبقية دول العالم، بل إن بعض الناس في أقاليم العالم الجنوبي كانوا يعيشون حياة أرقي من رصفائهم الأوربيين. لكن كل ذلك تحول مائة وثمانين درجة بدءا من عام 1960م بل زادت الهوة اتساعا بين العالمين وتنامي الفقر والتخلف لدرجات غير مسبوقة. فاليوم هناك 4,3 بليون شخص، أي أكثر من 60% من سكان العالم ، يعيشون في فقر مدقع ويقاومون الحياة بدخل أقل من خمس دولارات في اليوم . بينما تم الإعلان عن أن أغني ثمانية أشخاص في العالم يملكون 50% من ثروة العالم . وتضح الصورة بشكل أكبر إذا علمنا بأنه في عام 2000م كان الأمريكيون يتمتعون بمتوسط دخل أعلي تسع مرات عن رصفائهم في أمريكا اللاتينية، وأعلي واحد وعشرين مرة عن سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأعلي أثنان وخمسون مرة عن سكان أفريقيا شبه الصحراء وليس أقل من ثلاثة وسبعون مرة عن سكان جنوب آسيا.
هل كل تلك الهوة العظيمة بين العالمين مردها للاختلاف الكبير بين عالم حباه الله بالموارد العظيمة والتكنلوجيا المتطورة والعقول الحادة الذكية والحكم الرشيد والنظام الديمقراطي وعالم محروم الموارد، أرضه جفاف يباب، وسكانه بدائيون تنقصهم العقول النيرة ويظلهم الفساد وتضربهم الأمراض والأوبئة ويطحنهم الفقر وتهلكهم المجاعة ؟ هذا ما سوقه العالم الغربي من مقولات ليغطي سوءته الكبري ويبرر ظلمه الفادح . ثم يظهر في صورة المنقذ العطوف. فجاء بسياسات لتخفيف الفقر والجوع والدفع بالتنمية في دول الجنوب، لكنها في حقيقة الأمر كانت سياسات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب إذ من خلال الاحصائيات والدراسات الدقيقة فقد ازداد الفقر وتفاقمت المجاعة وازدادات دول العالم تخلفا . والسبب، كا يري هيكيل، أن تلك السياسات لم تنظر إلى جوهر المشكلة وجذورها المتمثلة بالدرجة الأولي في السياسات الاقتصادية غير العادلة المتمثلة في التبادل التجاري غير العادل والقروض والديون الظالمة والتجارة الحرة غير المتوازنة التي كبلت العالم النامي وأعجزته عن إحداث التنمية .
بدأ هيكيل الباب الأول من كتابه بالحديث عن ما أسماه "وهم التنمية " الذي بدأ الغرب يسوقه منذ بداية الخمسينات والذي بدأ الحديث عنه يظهر جليا في خطاب الرئيس الأمريكي هاري ترومان في عام 1949م حينما أشار إلى " أن أكثر من نصف سكان العالم يعيشون في ظروف تقرب من البؤس ؛ وأن طعامهم غير كاف وأنهم ضحايا للمرض وأن حياتهم الاقتصادية متخلفة وراكدة ..وأن العالم لأول مرة في تاريخه يملك المهارة والمعرفة لتخفيف معاناة تلك الشعوب" ثم تحدث كيف أن الولايات المتحدة تملك الموارد الضخمة والتكنلوجيا العلمية التي تجعلها قادرة على تدشين برنامج يجعل منافع التطور العلمي والتقدم الصناعي متاحة لتحسين ونمو المناطق النامية. ذلك الحديث، كما يبين هيكيل، كان له فعل السحر في نفوس الأمريكيين إذ جعلهم يحسون بالفخر لمكانتهم في العالم ولانجازاتهم وأن لهم دورا نبيلا تجاه العالم النامي في وقت بدأت فيه الدول الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا تنسحب من مستعمراتها.
إن ذلك الخطاب أعطي الأمريكيين دورا جديدا في عيون العالم فبدلا من أن يكونوا قوة إمبريالية فسوف يتجهون لمساعدة أخوانهم في الإنسانية. ومن ثم فقد أضحت قصة التنمية القوة الدافعة في المجتمع إلى هذه الساعة، تجدها في منظمات الأغاثة مثل أوكسفام Oxfam وتريد Traid وفي أعلانات التلفزيون من Save the Children and World Vision وفي تقارير البنك الدولي وصندوق النقد السنوية وتسمعها من نجوم السينما العالميين مثل بونو وبوب جيلدوف ومن الأثرياء مثل بيل غيتس وجورج سورس ومن الممثلات مثل مادونا وانجيليا جولي. الكل يتحدث عن التنمية في العالم الثالث وهو محاط بأطفال في ثياب رثة وعظام نخرتها المجاعة. لكن رغم كل ما أحاط بقصة التنمية من زخم وما انُفق فيها من بلايين وما أحاط بها من دعايات فإن الوضع لم يتغير قيد أنملة بل، كما يبين هيكيل، ازداد سوءا. فالمجاعة التي كان عدد من تطالهم في عام 1974م، حينما انعقدت أول قمة للطعام من قبل الامم المتحدة في روما ووعد فيها هنري كيسنجر بأن المجاعة سوف يتم القضاء عليها خلال عقد واحد، يبلغون 460 مليونا تصاعدت اليوم لتطال 800 مليون شخص وفقا للاحصائيات المحافظة، بينما هي في حقيقة الأمر لا تقل عن 2 بليون شخص. أما الفقر الذي تقول تقارير الأمم المتحدة أنه يتراجع فإنه اليوم يحيط بأكثر من 60% من سكان العالم. وكمثال لزيادة حدة الفقر العالمية يشير هيكيل إلى أنه في عام 2014م أعلنت أوكسفام بأن أغني خمس وثمانين شخصية في العالم قد جمعت من المال أكثر مما توازيه ثروة 50% من فقراء العالم. أما في 2017 وإبان انعقاد منتدي دافوس للاقتصاد العالمي فقد أعلنت ذات المنظمة أن أغني ثمان أشخاص في العالم يملكون ثروة توازي ما عند 3,6 بليون من سكان العالم. هذا في حين إن ما ينتجه العالم من طعام كاف لاطعام سكانه ال سبعة بلايين وما يتبقي يكفي ثلاثة بلايين آخرين.
أما في الباب الثاني من الكتاب فقد بدأ هيكيل يتساءل من أين جاء الفقر وما هي قصته الحقيقية ، وما الذي يجعل الدول الفقيرة أكثر فقرا؟ لقد أكتشف هيكيل من خلال عمله في منظمات الأغاثة العالمية والمنظمات غير الحكومية مثل World Vision في بلاد مثل الهند وفلسطين وسوزيلاند أن قصة التنمية وهم كبير وأن ما تروجه منظمات الأمم المتحدة وصندوق النقد والبنك الدوليين من نجاح في القضاء على الفقر والمجاعة ليس حقيقيا وأن أسباب تخلف دول الجنوب لا يمكن في عجزها وتخلفها التكنلوجي وغيره وإنما في سياسات العالم الرأسمالي التي جعلت دول الشمال تزداد تخمة وغني ودول الجنوب تزداد فقرا ومسغبة. وأن جذور تخلف العالم النامي إنما تعود إلى أيام الاستعماروإلى سياسة العنف اللمثلة في الانقلابات العسكرية التي أتبعها الغرب في حقبة ما بعد الاستعمار.
يبين هيكيل أن دول الجنوب كانت تعيش قبل الاستعمار في رفاهية وغني وصحة لكن سياسات التطهير العرقي التي مارستها الدول الاستعمارية في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا احالتها حطاما . فبعد أن كان عدد سكانها يتفوق على سكان أوربا في جميع المناحي تم افقارها من القوة العاملة . ويعطي مثاللا لذلك دول أمريكا اللاتينية. فمن أجل الذهب والنحاس فقد أباد الأوربيون سكان أمريكا اللاتينية. فقد قدر المؤرخون سكان أمريكا اللاتينية قبل وصول الأوربيين في عام 1492م بحوالي 50 إلى 100 مليون ليصبحوا في منتصف القرن السابع مجرد 3و5 مليون فقط، أي أن ما يقرب من 95% من السكان تم إبادتهم . ولم يكن الحال يختلف كثيرا في أفريقيا التي فقدت مايقرب من 15 مليون من أبنائها من أجل تجارة الرقيق عبر الاطلنطي وعشرات الملايين عبر حركات المقاومة والأمراض والأوبئة التي حملها الأوربيون معهم. أما في الهند فقد أدت سياسات الاستعمار البريطاني التي كانت تفضل ملاك الأراضي على المزارعين والتي أجبرت المزارعين على ترك محاصيلهم التي يقتاتون عليها لزراعة القطن والقمح وغيره من أجل التصدير إلى القضاء على الملايين من السكان نتيجة المجاعة والعواصف والأنواء. فحينما ضرب النينو الهند ما بين أعوام 1896 1902 وأغرق المزارع مات أكثر من ثلاثين مليونا هنديا من المجاعة . فبدلا من أن يسارع كبار الملاك من المزارعين البريطانيين إلى أغاثة الجوعي صدرت السفن ما يقرب من 6,4 ملايين طن من القمح إلى أوربا. فبينما كان الناس يموتون جوعي فإن ما صدرته الهند من حبوب ارتفع خلال الفترة من 1875 إلى 1900 من 3 ملايين طن إلى 10 ملايين طن. لقد استولي كبار الملاك والشركات الأوربية على الأراضي الشاسعة لانتاج المحاصيل النقدية تاركين للسكان المحليين في الهند وأمريكا اللاتينية الأراضي الجافة التي لا تغني ولا تسمن من جوع.
لقد فند هيكيل دعاوي الاعتذاريين الأوربيون بأن الاستعمار جاء بالتنمية إلى مناطق الجنوب مبينا أن العكس هو الصحيح إذ أن الاندماج القسري في السوق الذي جاء مع الاستعمار هو الذي وسع هوة التنمية بين الشمال والجنوب . فقبل الاستعمار كان مستوي الحياة لأهل الجنوب أكثر تقدما مما في أوربا، فقد كانت صحتهم أحسن وغذاءهم أفضل ودخلهم أعلي ونسبة العطالة بينهم أقل كثيرا مما لدي أوربا. فقبل وصول الأوربيون كانت الهند مكتفية ذاتيا من الغذاء وتساهم بحوالي 27% من الاقتصاد العالمي لكن تلك المساهمة انخفضت عشية خروج بريطانيا من الهند إلى 3% فقط كما أشار إلى ذلك الاقتصادي أنقس ماديسون. أما الصين فلم يكن ما أصابها بأقل ضررا . فبعد أن كانت تساهم ب 35% من الاقتصاد العالمي فقد تدنت مساهمتها بعد حروب الأفيون التي شنتها عليها بريطانيا بين سنوات 1856-1860 إلى 7%. أما أفريقيا وأمريكا اللاتينية فلم يكونا أسعد حالا إذ أدت سياسات الاستيلاء على الأراضي والضرائب لاجبار السكان على العمل في المناجم ومزارع كبار الملاك الأوربيين فضربهم الجفاف وماتوا من الجوع والأمراض.
إن الركود والكساد الاقتصادي الذي اصاب العالم في ثلاثينات القرن الماضي انتج نظرية الكنسين الاقتصادية التي ركزت على العدالة الاقتصادية والرفاهية بالنسبة للعمال فأدت بالتالي إلى تحريك الاقتصاد في الغرب كما ساهمت في الدعوة لتحرير الدول المستعمرة . لكنها في ذات الوقت كانت ترياقا لدول الجنوب المستقلة حديثا حيث تبنت تلك الدول ذات النظرية مما أحدث تحولا في اقتصادها وبدأت حقبة التنمية فيها . لقد أدت سياسات التنمية التي بدأتها الدول في أمريكا اللاتينية وغيرها والتي تبنت مبادئ نظرية كنيس واستغلال مواردها لصالح البناء القومي إلى نجاح متصاعد عمل على هدم الهوة بين الدول الكبري والنامية خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين. وتبع ذلك أن بدأت تلك الدول اتباع سياسة تأميم الأراضي والبترول التي كانت بأيدي الشركات الأجنبية لصالح مشاريعها القومية ، كما بدأت استراتيجيات إبدال الموارد بالتصنيع المحلي للسلع التي كانت تستوردها بأسعار باهظة كما حدث في شيلي والارغواي والارجنتين وفي مصر بتأميم قنال السويس عام 1956م. ففي الأرجنتين بدأت حكومة خوان بيرون (1946-1955) تستثمر بكثافة في الطرق والتعليم والصحة وتؤسس للصناعة الثقيلة . وكدليل على نجاح سياسات التنمية التي اتبعتها دول الجنوب بعد الاستقلال أنه في عام 1960 كان متوسط الدخل في الولايات المتحدة أعلي ب 13,6 مرة عما هو في شرق آسيا ؛ لكن بنهاية السبعينات انخفض الفارق إلى 10,1 ، كما أنه في ذات الوقت انكمشت نسبة الدخل بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية بنسبة 11% وبينها وبين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة 23%. وتزامن مع ذلك تحالف دول الجنوب لإنشاء منظمة دول عدم الانحياز في 1961 في بلغراد و مؤتمر الدول المتحدة للتجارة والتنمية في 1964م.
لكن دول الغرب الصناعية بدلا من أن تسعد بما حققته دول الجنوب من نجاحات فإنها رأت في ذلك خسارة لها جراء السياسات الجمركية التي اتبعتها تلك الدول إذ كان على المستثمرين الغربيين أن يدفعوا جمارك عالية لبيع منتجاتهم ، كما أن سياسة ضبط الأسعار ونمو حركات الاتحادات العمالية كانت تعني أن على الشركات الأجنبية المستثمرة دفع أجورا عالية للعمال. لكن أكثر ما كان يخوف الدول الغربية هو سياسة التأميم . ومن هنا فحينما تولي دوايت إيزنهاور رئاسة الولايات المتحدة فقد اتخذ موقفا مضادا وعنيفا تجاه سياسة التنمية التي اتبعتها دول الجنوب ولكيما يقنع الشعب الأمريكي بسياسته تلك بدأ باستخدام الأسلوب البلاغي للحرب الباردة متهما سياسة دول الجنوب بأنها الخطوة الأولي في الطريق نحو الشيوعية. لم يكتف إيزنهاور بذلك بل استخدم أسلوب الانقلابات العسكرية ضد حكومات تلك الدول . وكانت أول ضحاياه إيران التي قام رئيس وزرائها محمد مصدق بتأميم الشركة الانجليزية الايرانية للبترول حيث تم الاطاحة به في انقلاب عسكري في أغسطس 1953 وتسليم السلطة لشاه إيران الذي اتبع سياسة موالية للغرب والولايات المتحدة والشركات الغربية خلال حكمه الذي استمر ستو وعشرين عاما.أما في أمريكا اللاتينية فقد كانت جواتيمالا أولي ضحايا سياسة الانقلابات العسكرية التي اتبعتها حكومة إيزنهاور. ففي عام 1954 دشنت الولايات المتحدة عملية أجاكس العسكرية للاطاحة برئيس جواتيمالا جاكوب اربنز انتقاما لسياسة الاصلاح الزراعي التي اتبعها و لتأميمه الأراضي الزراعية غير المستخدمة التي كانت تملكها الشركة المتحدة للفاكهة الأمريكية وتوزيعها للمزارعين الفقراء. لقد كانت حوالي 450,000 فدان من الأراضي التي شملتها سياسة الاصلاح الزراعي تملكها الشركة المتحدة للفاكهة والتي على الرغم من تعويضها تعويضا مجزيا رفضت التعاون مع الحكومة. أتهمت الولايات المتحدة بأنه عميل روسي فقصفت العاصمة بالمدافع واطاحت بارنز ونصبت بدلا من دكتاتورا عسكريا في شخص كارلوس كستيلو آرمس الذي سرعان ما غير سياسة اربنز لصالح الشركات الامريكية ليبدأ حكما عسكريا قاهرا استمر حتي 1996. وكانت النتيجة أن أصبحت جواتيمالا من أفقر دول العالم وتم قتل 200,000 من سكانها لمقاومتهم سياسة الاستيلاء على أراضيهم لصالح الشركات. وتبع ذلك العديد من العمليات للاطاحة بحكومات شرعية اتبعت سياسات مخالفة للغرب فاطاحت بريطانيا برئيس غيانا في 1953 وتم غزو جمهورية الدومنيكان في 1965 والسلفادور وغيرها. وقامت سياسة الولايات المتحدة على دعم حكومات عسكرية دكتاتورية في الكثير من دول أمريكا اللاتينية.
ولم يكن الحال مختلفا في آسيا ففي عام 1965 دعمت الولايات المتحدة الجنرال سوهارتو في أندونيسيا بالمال والسلاح ليطيح بالرئيس سوكارنو ويقتل ما بين 500,000 وواحد مليون من اتباعه. لقد حكم سوهارتو أندونيسيا حتي 1998م واتبع سياسة اقتصادية ليبريالية مستعينا بمجموعة من الاقتصاديين الأندونيسيين تم تدريبهم في جامعة كلفورنيا ببريكلي بدعم من مؤسسة فورد الأمريكية ، عرفوا باسم بيركلي مافيا.
أما في أفريقيا فقد تم اتباع ذات سياسة الحسم العسكري عن طريق الانقلابات فتم الاطاحة بكوامي نكروما في 1966 وتم اغتيال باتريس لوممبا في الكونغو 1960 والاطاحة بملتون أبوتي في 1971 حينما تجرأ على تأميم البنوك البريطانية وأصدر وثيقة " الرجل العادي " التي دعت للمساواة والحرية والرفاهية لكل أبناء وبنات أوغندا ومحاربة الاستعمار والاستعمار الحديث. ولم يختلف الحال كثيرا في أفريقيا الفرنسية التي عملت على ضمان وصول أتباعها للحكم من خلال خلية سرية برئاسة جاكوس فوكرت مستشار الشؤون الأفريقية وبدعم من شركة البترول الفرنسية إليف تحت رعاية وزير الداخلية الفرنسي فرانسوا متراند الذي اعترف في لحظة صدق نادرة بأن " بدون أفريقيا، فإن فرنسا سوف لن يكون لها تاريخ في القرن الحادي والعشرين ." لقد تلاعبت فرنسا بالانتخابات في الكمرون والغابون وغيرها . لقد تم افتضاح تلك السياسة في عام 1994 حينما قامت المدعية العامة الفرنسية إيفا جولي بالتحقيق حول نشاطات شركة إيفا أكوتين البترولية. ذلك التحقيق الذي وصفته جريدة الغارديان البريطانية بأنه " أضخم تحقيق حول التزوير في أوربا منذ الحرب العالمية الثانية".
وهكذا من خلال الانقلابات العسكرية وتزوير الانتخابات تم احلال الحكومات الوطنية في دول الجنوب التي اتبعت سياسة تنمية مخالفة لراسمالية الغرب بحكومات عسكرية أو حكومات موالية لسياسة الغرب الاقتصادية وكانت النتيجة هي افقار شعوب تلك الدول من خلال سياسة الليبريالية الجديدة التي دعت لتحرير السوق والاقتصاد ورفع القيود الحكومية على الاقتصاد وتخفيض الضرائب على الأغنياء والتي دعمتها أمريكا بكل قوة بدءا من سبعينات القرن الماضي. لكن على الرغم من الانقلابات العسكرية التي ضعضعت دول الجنوب خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين إلا أن بعض دول الجنوب حققت تقدما من خلال ما تملكه من قوة تمثلت في السيطرة على مواردها الطبيعية وموادها الخام التي يحتاجها الغرب إذ عمدت إلى رفع أسعار سلعها وفرض شروطها من خلال العمل كمجموعات مثل منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) ومن خلال مجموعة السبع وسبعين ونجاحها في عام 1973 في تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة لاقتراح نظام الاقتصاد العالمي الجديد (NIEO) والذي يعطي دول العالم النامي الحق في تنظيم عمل الشركات متعددة الجنسيات ، الحق في تأميم ممتلكات الشركات الأجنبية والحق في حماية اقتصادها من خلال التعريفات الجمركية ، الحق في الحصول على التمويل والتقنية دون شروط تعجيزية والتعاون لتنظيم أسعار مناسبة لموادها الخام والحرية في عمل كل ذلك دون الخوف من انتقام القوي الغربية.
لم يكن الغرب سعيدا بما حققته دول الجنوب من انتصار من خلال غالبيتها الميكانيكية في الأمم المتحدة ، كمإ كان مدركا بأن عهد استخدام العنف من خلال الانقلابات العسكرية قد ولي . ذلك أنه كان صعبا في زمن التحول الديمقراطي وسيادة الدول وحقوق الإنسان أن يقنع ناخبيه بضرورة سياسة العنف والتدخل العسكري. ومن هنا لجأ الغرب إلى خطة بديلة يضعف بها وحدة دول الجنوب فاجتمع في عام 1975 قادة كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واليابان والمانيا الغربية في شمال فرنسا وإنشاؤا تحالفا جديدا عرف بأسم القوي السبعة ، بانضمام كندا فيما بعد. كان الهدف الأساسي للتحالف هو مواجهة النظام الاقتصادي العالمي الجديد الذي تبنته دول الجنوب . كان مهندس استراتيجية التحالف الجديد هو كنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الذي فصل خطته في (1) تحويل القرارات الهامة من الجمعية العامة للأمم المتحدة لمجلس الأمن ؛ (2) تقسيم دول الغرب واضعاف وحدتها من خلال استخدام العون المادي كأداة للسيطرة من خلال تكوين مجموعة جديدة تعرف بالدول الأقل نموا من الدول الفقيرة والأكثر حاجة وتقديم الدعم لها مقابل وقوفها مع الغرب ضد الأوبك ومجموعة ال77. لقد عمل كيسنجر بدهائه وذكائه على اقناع الدول الفقيرة بأن عدم المساواة والتنمية ليست أمرا سياسيا وإنما مسؤولية الدول نفسها وأنه بدلا من البحث عن اصلاح النظام السياسي الدولي عليها تقبل الاعانات.
لكن ما يشبه الهبة الالهية نزلت على الغرب في منتصف الخمسينات حيث توفرت أمولا طائلة فتحت الباب واسعا أمام القروض الربوية. فبدلا من البارجات العسكرية لاخضاع دول الجنوب شاهدنا جيشا من موظفي البنوك والبروقراطيين ذوي البدلات الزرقاء يحملون حقائبهم الملئ بالدولارات يجوبون عواصم دول العالم النامي. وهكذا بدلا من أن يريق الغرب قطرة دم واحدة وضع اللجام في فم دول الجنوب من خلال قروض ميسرة وأرباحا مركبة. والمثير للضحك أن أموال تلك القروض التي كانت تقدمها البنوك للدول الفقيرة كان معظمها ودائع دول الخليج الغنية. ذلك أنه نتيجه لارتفاع أسعار البترول بعد حرب الأيام الستة في عام 1967م وحصار البترول الذي قادته المملكة العربية السعودية في 1973 ضد الولايات المتحدة وغرب أوربا فقد توفرت بعد انتهاء الحصار في مارس 1974 ما يقرب من 450 بليونا من البترودولارات أودعتها دول الخليج في البنوك الأمريكية. ومع توفر الودائع الضخمة وحاجة الدول الفقيرة للمال لتغطية نفقات واردات البترول المتصاعدة فإن البنوك لم تجد صعوبة في اقناع تلك الدول بالاستدانة.
كانت دول الجنوب تأمل في أن تغطي ديونها من عائدات التجارة لكن مع حدوث الخلل في الميزان التجاري مع الغرب الذي جعل صادراتها أقل قيمة مقابل الواردات الغربية ومع زيادة الولايات المتحدة لنسب أرباح الديون إلى 21% في 1981 وجدت تلك الدول نفسها عاجزة عن دفع ديونها. ففي عام 1982 أعلنت المكسيك عجزها عن دفع ديونها البالغة 80 بليونا وسرعان ما تبعتها البرازيل والارجنتين مما أدي إلى ما يعرف بأزمة ديون العالم الثالث. لكن البنوك دفعت الحكومة الأمريكية للتدخل بدعوي أن تحمل الديون الهالكة يعني إفلاس البنوك وإنهيار النظام المالي العالمي . ومن هنا لجأت الولايات المتحدة لصندوق النقد الدولي لإجبار الدول المدينة على دفع ديونها من خلال تسليفها المال مقابل إعادة هيكلة برامجها الاقتصادية بما يمكنها توفير المال اللازم لدفع ديونها. شملت برامج إعادة الهيكلة تخفيض الإنفاق على الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم وإيقاف الدعم الحكومي للمزارعين والغذاء والصناعات الصغيرة. وهكذا أصبحت الأموال التي كان على دول الجنوب انفاقها لصالح الفقراء تحول إلى خزائن البنوك في الدول الغنية. جبر صندوق النقد الدولي دول الجنوب لايقاف التنمية لصالح إن سياسة الليبريالية الجديدة التي ولدت الاستعمار الجديد كانت هي قاصمة الظهر بالنسبة لدول الجنوب. فالليبريالية الجديدة هدفت بالدرجة الأولي لفتح أسواق تلك الدول لمنتجاتها وفتح الباب واسعا للشركات الأجنبية للاستثمار بتسهيلات كبيرة، كما عملت على تكبيل تلك الدول من خلال الديون والتجارة الحرة وغيرها.
لقد أفقرت الديون الباهظة بأرباحها المركبة دول العالم النامي الذي أصبح كل ما يملكه من مال يذهب لتغطية تلك الديون بدلا من انفاقه في التنمية . لقد كان جملة ما دفعته دول الجنوب كأرباح لخدمة الديون منذ بدء أزمة الديون في عام 1980 هو 4,2 تريليون دولار أمريكي. فقد كانت تلك الدول تدفع سنويا لخدمة الديون 238 بليونا منذ ثمانيانات القرن الماضي، لتتصاعد سنويا في التسعينات لتصل في عام 2000م إلى 440 بليون دولار ثم تتقافز سنويا حتي وصلت في عام 2013م إلى 732 بليونا من الدولارات. (ص: 166) ولنعرف مقدار ما تدفعه الدول النامية من ميزانيتها لخدمة الدين فإن هيكيل يعطينا مثالا لذلك جمهورية لبنان. إذ يشير إلى أن لبنان تدفع 52% من ميزانيتها السنوية كأرباح لديونها ، بينما تنفق 25% فقط على الصحة والتعليم. (ص 167)
إن مشكلة ديون العالم النامي الكبري تكمن في الربح المركب الذي يتحصل من وراء الدين فالأرباح تتضاعف بشكل فظيع يفوق كثيرا أصل الدين. ففي خلال عشرين عاما (1973-1993م) تصاعدت ديون دول الجنوب من 100 بليون إلى 1,5 تريليون؛ الغريب أنه من جملة هذا المبلغ فإن 400 بليون دولار فقط كانت هي جملة أصل الدين. (168)
إن الكثيرين كانوا يقولون يمكن ببساطة لتلك الدول أن تعلن إفلاسها وترفض دفع تلك الديون. لكن غاب عن هؤلاء أن حكومات تلك الدول ما كانت تستطيع فكاكا من أسر تلك الديون دون أن تطالها أيادي دول الغرب القوية فيطاح بها ويتعرض قادتها للقتل من خلال الانقلابات العسكرية أو التدخل العسكري المباشر ، كما حدث لكثير من الدول مثل فنزويلا وجمهورية الدومينكان وبوركينا فاسو. فحينما رفضت فنزويلا أن تدفع ديونها الخارجية في عام 1902م قامت كل من بريطانيا والمانيا وفرنسا بمحاصرتها بالسفن العسكرية ، كما قامت الولايات المتحدة في عام 1916م بغزو جمهورية الدومنيكان لذات السبب والسيطرة على الوكالة الجمركية لمدة خمس وعشرين سنة لتتحصل ديونها.
أما بوركينا فاسو فهي القصة الأحدث في سلسلة العقوبات الدامية التي تطال كل من يتحدي الغرب ويرفض دفع الديون أو يحرض على عدم دفعها. ففي 1987م خاطب رئيسها الشاب توماس سانكارا اجتماع رؤساء دول الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا قائلا :
" إن الديون يجب أن ينظر لها من وجهة نظر اصولها . فأصول الدين تقع على الاستعمار. فأصحاب الديون هم أولئك الذين استعمرونا قبلا . فقد أدارونا حينها ويديروننا الآن. لكننا لم نطلب هذه الديون ولذا فإننا سوف لن ندفعها . إن الدين هو استعمار جديد . لقد تم إدارته بذكاء ليعاد استعمار أفريقيا . إن كل واحد من أصبح عبدا ماليا. لقد قيل لنا يجب أن تدفعوا. لقد قيل لنا أن هذه قضية أخلاقية. لكنها ليست كذلك. إن الدين لن يكون من الممكن اعادة دفعه. إذا لم ندفع فإن المقرضين لن يموتوا. هذا مؤكد. ولكنا إذا دفعنا فسوف نموت. هذا أيضا مؤكد."(169)
ولم يكن الغرب ، ممثلا في فرنسا القوة الاستعمارية السابقة لبوركينافاسو ، ليسمح بمثل هذا التحدي الذي بدأه سنكارا إذ لم تمض ثلاثة أشهر على خطابه ذاك حتي تم اغتيال سانكارا في انقلاب عسكري خططت له ودعمته فرنسا.
لقد فاقمت برامج إعادة الهيكلة التي فرضها كل من صندوق النقد الدولي و البنك الدولي ، اضافة للديون، من حدة الفقر في دول الجنوب . فقد أدت برامج إعادة الهيكلة نتيجة بيع المؤسسات العامة وتخصيصها وتخفيض أجور العاملين و رفع الدعم عن الوقود والغذاء وغيره من الأساسيات إلى فقدان الالاف من العاملين لوظائفهم ولارتفاع حاد في أسعار الغذاء والسلع والخدمات، كما أدي لانخفاض هائل في متوسط الدخل في تلك الدول. فبعد أن كان متوسط الدخل القومي ينمو خلال الستينات والسبعينات في دول أفريقيا شبه الصحرواية بنسبة تصل إلى 1,6 % في العام أنخفض ذلك إلى0,7% خلال الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين . لقد حسب روبرت بولن، أستاذ الاقتصاد بجامعة ماسسوتيش الأمريكية ، مجموع ما فقدته دول الجنوب من الدخل القومي نتيجة سياسة إعادة الهيكلة خلال تلك الفترة إلى ما يقلرب من ال 480 بليون دولار في العام. لقد تعرضت أفريقيا خلال الثمانينات والتسعينات إلى حوالي واحد وثلاثين برنامجا لإعادة الهيكلة . ففي الخرطوم فقد حوالي مليون شخص وظائفهم نتيجة الخصخصة ؛ وفي هراري ارتفعت تكلفة المعيشة بنسبة 45% في عام 1981 وتم إدخال مائة الف شخص إلى المستشفيات نتيجة سوء التغذية في ذلك العام. أما في ساحل العاج فقد تضاعفت نسبة الفقر خلال 1987/1988؛ وفي نيجيريا ارتفعت نسبة الفقر من 28% 1980 إلى 66% في عام 1996. وفي الجزائر أجبرت الحكومة على تخصيص 230 شركة وفصل 130,000 عامل لترتفع نسبة الفقر من 15% في عام 1988 إلى 23% في 1995. أما في دول أمريكا اللاتينية فقد الحال أكثر فظاعة إذ ارتفعت نسبة الفقر بمقدار 50% بين عامي 1980و1986 فوفقا لاحصائيات الأمم المتحدة فقد ارتفعت نسبة الفقر من 40% في عام 1980 إلى 62% عام 1993. لقد كان أهم أسباب ارتفاع حدة الفقر في دول أمريكا اللاتينية هو الانخفاض الحاد في مستوي الأجور. ففي خلال عشرة سنوات -1985-1995- كان متوسط انخفاض الأجور في تلك الدول حوالي 40%ز ففي البرازيل انخفضت الأجور بنسبة 67%، في كولمبيا بنسبة 84% . وفي ذات الوقت ازداد عدد العاطلين عن لعمل. ففي بير انخفضت نسبة العاملين في مؤسسات الدولة من 60% إلى 11% خلال ثلاث سنوات نتيجة الخصخصة. وقس على ذلك في بقية الدول.وهكذا بدلا من القضاء على الفقر ، كما كانت تدعي المنظمات والمؤسسات العالمية ، فإن حدته زادت بصورة مخيفة نتيجة سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي حجمت مقدرة دول الجنوب على الانفاق على التنمية وتحويل ما توفره من أموال لدفع الديون. لقد أدت سياسات صندوق النقد الدولي لانفجار الشعوب احتجاجا حيث خرجت الجماهير في مظاهرات واحتجاجات عارمة في كراكاس عام 1989 مما أدي لمقتل 4000 شخص، وفي نفس العام في نيجيريا حيث فقد خمسون طالبا حياتهم خلال ثلاثة أيام؛ أما في الهند فقد خرج 500,000 شخص ضد صندوق النقد والبنك الدولي في أكبر مظاهرة عامة في التاريخ في عام 1993 . لقد كان مجموع المظاهرات التي خرجت ضد صندوق النقد الدولي بنهاية 1992 146 مظاهرة في 39 قطرا.
وإذا كانت سيساسات الديون وإعادة الهيكلة قد أفقرت دول العالم النامي فإنها من الجانب المقابل زادت دول العالم المتقدم غني وثراء. فقد ازدادت أرباح الشركات الغربية بنسب كبيرة . فاستثمارات الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية نمت إلى أكثر من 10 تريليون دولار حيث زاد دخلها من تلك الاستثمرات من 20% من الأرباح في أواخر سبعينات القرن الماضي إلى 80% بنهاية الثمانينات وبدأت الشركات الامريكية تزيد عائدات أرباحها من الاستثمارات خلال فترة إعادة الهيكلة من 5% في 1975 إلى أكثر من 11% في 1990. لقد جاءت معظم تلك الاستثمارات من خلال خصخصة المؤسسات العامة في دول الجنوب. فقد كانت جملة ما خصصه البنك الدولي وحده من تلك المؤسسات في الدول النامية يفوق 2 تريليون دولار خلال الفترة ما بين 1984 إلى 2012، أي ما يعادل 72 بليون دولار في العام في المتوسط. هذا إضافة إلى 58 بليون من أسهم الأرباح التي ييبيعها البنك في بورصة ول ستريت كل عام. (161)
ومما فاقم من حدة الفقر وزاد من اتساع الهوة التنموية بين دول الجنوب ودول الشمال كانت سياسة التبادل التجاري غير العادلة. في أعقاب الحرب العالمية الثانية والركود الاقتصادي تم ميلاد اتفاق التجارة والرسوم الجمركية (الجات) على مبادئ النظرية الكينزية والتي كان الغرض منها تخفيض الرسوم الجمركية من خلال التفاوض الجماعي لكن مع بزوغ فجر عقد الثمانينات وصعود أسهم نظرية الليبرالية الجديدة في الاقتصاد التي تقوم على الواقعية السياسية عمدت الولايات المتحدة إلى فرض رؤيتها الجديدة وتم من ثم ميلاد منظمة التجارة العالمية في عام 1995. بدلا من التعاون واستقرار الاقتصاد كما كانت تدعو الجات فإن المنظمة الجديدة دعت إلى فتح اسواق العالم النامي أمام تدفقات رأس المال من الدول الغنية والسماح للشركات الأجنبية بالعمل محليا دون تحيز. وعلى الرغم من أن الانضمام للمنظمة كان اختياريا فإن حاجة الدول النامية لتصدير منتجاتها لم تترك لها خيارا كافيا. لكن التنافس التجاري بين دول الجنوب والدول الغنية لم يكن عادلا . فبينما كانت الدول الغنية قادرة على منتجاتها فإن سياسة صندوق النقد الدولي كانت تحرم على دول الجنوب فعل ذلك. فكمثال لذلك نجد أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي تدعم منتجاتها الزراعية بما يقدر ب 374 بليون في العام ثم تبيعها في الأسواق العالمية بأقل من تكلفتها مما يؤدي لخسارة كبيرة لمنتجي دول العالم النامي. فدول مثل بينين وبوركينا فاسو ومالي وتشاد والتي تعتبر أكثر الدول الأفريقية انتاجا للقطن حيث يعمل أكثر من 8 ملايين شخص في صناعة القطن ويعتمد 13 مليون أخرين على العائد منه تفقد 10% من قيمة القطن نتيجة سياسة الدعم التي تقدمها الولايات المتحدة لمزارعي القطن لديها. وحتي حينما اشتكت تلك الدول لمنظمة التجارة العالمية ضد سياسة الدعم الامريكية غير الشرعية رفضت الولايات المتحدة ايقاف دعمها.
كما قال نيلسون مانديلا " إن الرجال الأحرار وحدهم هم القادرون على التفاوض. أما المساجين فلا يمكنهم الدخول في تعاقدات (عادلة )" ذلك إن أخطر ما في اتفاقية التجارة الحرة هو انتهاكها لسيادة الدول وحقها في تنظيم تجارتها . فقد حجمت تلك الاتفاقية دور الدول في تقرير شروط الاستثمار بأعطاء الشركات المستثمرة الحق في الانسحاب بأموالها متي شاءت بل و مقاضاة الدول التي تستثمر فيها إذا ما أحست بأن القوانين التي تصدرها تلك الدول تعوق عملها أو تؤثر على أرباحها. بل حتي لجنة فض المنازعات التابعة للمظمة كانت تحت سيطرة الدول الكبري وكانت ، كما بين هيكيل، تعقد اجتماعاتها في غرف مغلقة لا يستطيع ممثلوا الدول الفقيرة الدخول إليها والتأثير على قرارتها. ويضرب هيكيل مثلا بضعف قدرة الدول النامية على كسر احتكار الدول الكبري والشركات بحق الاختراع للأدوية المنقذة للحياة من قبل الشركات الامريكية فيما يتعلق بمرض الأيدز . ذلك أنه لما ضرب الأيدز دول الجنوب الأفريقي في أواخر عام 1988 وتفاقم المرض لم تستطع تلك الدول توفير الدواء لاحتكاره من قبل الشركات الأمريكية وارتفاع أسعاره إذا كان الكورس الدوائي يكلف سنويا ما قيمته 15,000 دولار للفرد الواحد ورفضت الشركات المصنعة تخفيض أسعاره أو السماح لشركات العالم الثالث بتصنيعه ودعمتها في ذلك منظمة التجارة الحرة، وحينما عمدت جنوب أفريقيا لتحدي الحظر واستيراد الدواء من الهند ب 350 دولار فقط هددتها الولايات المتحدة بفرض الحظر عليها. لكن شاء الله أن يتعرض عدد من الأمريكيين للموت نتيجة مرض anthrax الذي كان علاجه يتم بواسطة المضاد الحيوي سبرو الذي تحتكره شركة باير السويسرية ففرضت الولايات المتحدة على الشركة تعليق احتكارليتم تصنيع الدواء . عند ذلك فقط وبعد مفاوضات مضنية تم رفع الاحتكار عن دواء الايدز في عام 2003. لكن عند توفر الدواء كان أكثر من عشرة ملايين أفريقي قد فقدوا حياتهم.
لكن هل يحمل القرن الحادي والعشرين الأمل لدول الجنوب في الخروج من النفق المظلم. على العكس تماما لا يري هيكيل إلا ضوءا خافتا في أخر النفق. فكل المؤشرات تشير إلى أن القرن الواحد والعشرين سيكون أكثر فظاعة وأكثر مرارة بالنسبة لدول الجنوب الفقيرة. فجشع الدول الكبري وتكتيكاتها في حماية مصالحها الاقتصادية تزداد يوما بعد اليوم. بل الأكثر قلقا أن استراتيجيات العنف الذي شهدتها خمسينات وستينات القرن الماضي ظهرت على مسرح الأحداث مرة أخري. فالانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية ضد الحكومات المنتخبة ديمقراطيا كما حدث في فنزويلا(2002) وهايتي (2004) وهوندراس (2009) وغزو العراق في 2003 للسيطرة على النفط ، وضرب الناتو ليبيا في 2011 لتخوف فرنسا من محاولات ليبيا لضرب عملة أفريقية بديلة للفرنك الفرنسي، وحوادث الاغتيال، كما حدث للناشطة الهوندرانية في عام 2016 لمقاومتها إنشاء سد عبر ريوكولاكريكو كلها تشير إلى أن القرن الحادي والعشرين يحمل الكثير من المخاطر لدول الجنوب الفقيرة. فالديون ما زالت تشكل قلقا كبيرا في ظل انخفاض أسعار صادرات تلك الدول. فدفوعات الدين الخارجي أرتفعت من 6,1% في 2013 إإلى 10,8% من دخل الحكومات. والدول الكبري ما زالت تلجأ لتدابير قاسية لتحصيل ديونها كما حدث لدولة بورتريكو التي فرض عليها الكونغرس الأمريكي تشريع بروميسا الذي اجاز السيطرة على سياستها المحلية عندما وصلت إلى حافة الافلاس في 2016 بما وصفه الكثيرون بأنه نوع من الاستعمار.
يشير هيكيل إلي أن منظمات الأمم المتحدة والبنك والدولي ومنظمات المجتمع المدني ترسم صورة قاتمة لدول الجنوب لتبرير حالة الفقر التي تعيشها. إن من أبشع تلك الصور ما تصدره منظمة الشفافية العالمية وتقارير الأمم المتحدة عن الفساد في شكل الرشوة وسرقة موظفي الحكومة والذي تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن تكلف الدول النامية ما بين 20 إلى 40 بليونا من الدولارات. لكن ذلك المبلغ، كما يبين هيكيل، لا يمثل إلا 3% من جملة التدفقات غير الشرعية التي تتسرب من الدول الفقيرة. ويوضح هيكيل إلى أنه وفقا لمركز المصداقية المالية العالمية بواشنطن أن 65% من تلك التسربات غير الشرعية عن فساد من نوع أخر يتعلق بالتهرب من الضرائب الجمركية التي تمارسه الشركات الأجنبية. وينتج هذا من خلال تحديد الشركة المستوردة سعرا أعلي من السعر الحقيقي للسلعة وتحول القيمة لشركة ضرائب خفية تحول السعر الحقيقي للشركة المصدرة وتجنب باقي المبلغ لحساب الشركة المستوردة. مما يعني أن هناك مبلغا خارج الإطار الضريبي. فوفقا لهذا المركز فإن ما قيمته 1,1 تريليون دولار اخراجها بصورة غير شرعية من الدول النامية لتودع في البنوك الأجنبية وملاذات الضرائب الآمنة، وهي شركات سرية أو خفية لايداع اموال المهربة. إن هذا المبلغ، كما يبين هيكيل، يفوق أحدي عشرة مرة ما تتلقاه الدول النامية من مساعدات (99,3 بليون في عام 2013) وأن هذا المبلغ يزداد كل عام بحوالي 6,5% . ففي ما بين 2004 إلى 2013 فقدت الدول النامية ما مقداره 7,8 تريليون دولار نتيجة التسربات غير الشرعية.
إن التهرب الضريبي يزداد خطورة من خلال ما يعرف بالفاتورة الخاطئة وهي أن تزيد الشركات فاتورة السلعة بينما سعرها الأصلي مختلف وذلك من خلال فروعها المختلفة بحيث تجنب مبلغا كبيرا لا تستطيع الدول اخضاعه للضرائب. وشركات التهرب الضريبي السرية تنتشر في العديد من الدول مثل لوكسمبرج، سويسرا، هولندا، بلجيكاالنمسا،موناكو، ليشتنشين وفي أمريكا في مانهاتن، فلوريدا، دلاويروفي جزر فيجي ، جزر مارشال. وليبيريا وبنما. لكن أكبر وأقوي تلك الشركات السرية تتمركز حول بريطانيا. فهناك المناطق التابعة للتاج البريطاني مثل جيرسي، قرنسي، وجزيرة مان. ثم هناك مناطق ما وراء البحار البريطانية الاربعة عشر مثل جزر كيمان، الجزر العذراء وجبل طارق. إضافة لذلك هناك المستعمرات البريطانية القديمة مثل هونج كونج، سنغافورة، جزر البهاما، دبي، لإيرلندا، فانواتو، وغانا. كل تلك التوابع البريطانية توجد فيها شركات التهرب الضرائب الخفية. لكن أكبر مركز لمثل تلك الشركات هو بلا منازع مدينة لندن. وحتي لا يختلط علينا الأمر فمدينة لندن تختلف عن لندن العاصمة. فمدينة لندن لها مجلسها الخاص داخل العاصمة لندن و الذي يحتوي بين حدوده القطاع المالي القوي. فمدينة لندن أصبحت مركزا لشركات التهرب الضريبي لأنها لا تخضع لكثير من القوانين البريطانية وهي بعيدة من إشراف البرلمان البريطاني ، كما أنها مستثناة من قواعد حرية نشر المعلومات. بل لها لها شرطتها الخاصة. هذا المجلس يعود تكوينه للعصور الوسطي والانتخاب له ليس محصورا على الأشخاص بل مفتوح لشركات الأعمال والتي في معظمها بنوك وشركات مالية. ولمدينة لندن تلك عمدتها الخاص الذي لا يخضع إلا لسلطة الملكة ويتم انتخابه سنويا بواسطة الشركات ومهمته الأساسية هي ترقية مصالح البنوك اللندنية، كما يقوم بالسفر لكل دول العالم من أجل بناء شبكة التهرب الضريبي التابعة لمدينته.
أما أخطر القضايا التي شهدها القرن الحادي والعشرين والتي تنذر بشر مستطير فهي ما يتعلق بالإستيلاء على أراضي الدول الفقيرة. فقد شهدت السنوات الأخيرة سباقا محموما من قبل المستثمرين للاستحواذ على الأراضي الزراعية في دول الجنوب. حدث هذا مع انفجار أزمة الغذاء في عام 2007 حينما ارتفعت فجأة أسعار السلع الغذائية بما يقرب من 80%.
مما أدي لاندلاع العديد من المظاهرات والاحتجاجات في كثير من دول العالم الفقيرة مثل بوركينافاسو، الكمرون وبنغلاديش، المكسيك والمغرب والسنغال وغيرها. نتج كل ذلك نتيجة ارتفاع الدخل في الصين وازدياد الطلب على الحم واللبن ومن تحول العديد من المزارع لزراعة العلف لتغذية الحيوانات بدلا من البشر، كما أن ثلث انتاج الولايات المتحدة من الذرة الشامي تم تحويله لانتاج الايثنول. وتزامن مع ذلك موجة الجفاف التي ضربت العديد من الدول الفقيرة نتيجة التغير المناخي والارتفاع الجنوني في أسعار البترول. تلك الأزمة الغذائية اطلقت جشع الشركات من عقاله إذ انتهز المستثمرون الفرصة لشراء الملايين من الأفدنة حول العالم من أجل الانتاج الزراعي. والغريب في الأمر أن العديد من الدول سارعت إلى الوقوع في شباك أولئك المستثمرين خوفا من الاضطرابات الاجتماعية وسعيا لضمان الغذاء في عالم تضربه التغيرات المناخية.
يبدو صعبا الحصول على تقدير صحيح لكمية الأراضي التي تم امتلاكها من قبل المستثمرين لأن معظم العقودات كانت تتم بصورة سرية. لكن تقديرات البنك الدولي تشير إلى ما يقرب من 120 مليون فدان خلال الفترة من 2000 إلى 2010، بينما تدعي أوكسفام بأن أكثر من 560 مليون فدان تم الاستيلاء عليها في نفس الفترة. وهو ما يعني أن مساحة الأرض التي تم الاستيلاء عليها تعادل مساحة دول غرب أوربا مجتمعة. وبينما يعترف هيكيل بصعوبة الحصول على الرقم الصحيح يشير إلى أن بيانات Land Matrix تشير 162 مليون فدان
( بالرجوع إلى ويكبيديا وجدت التقديرات تتفاوت بين مؤسسة وأخري فبينما يشير تقرير البنك الدولي لعام 2011 إلى 56 مليون فدان نجد أن فريس ورينبرج Firiis & Reenberg يقدران في تقريرهما لعام 2012 مقدار الأرض التي تم الاستيلاء عليها في أفريقيا فقط ما بين 51 و 63 مليون فدان وتشير وكيبديا إلى أن هناك مليون فدان تم تملكها من قبل شركات أمريكية مثل Arc Cap و Nile Trading and Development في السودان ) إن أكبر الشركات امتلاكا للأراضي في الدول الفقيرة هي بريطانيا تليها الولايات المتحدة ثم الصين والهند. إن الذين يشترون الأراضي هم دائما الأغنياء والذين يتم امتلاك أراضيهم هم الفقراء . ولذلك يركز الأثرياء على الدول الأكثر فقرا والتي تتميز بحكم هش مثل جنوب السودان. حيث تعتبر جنوب السودان من أكثر الدول إغراء للمستثمرين بعد استقلالها.( خلال هذا العقد امتلكت شركة أميرية أماراتية 5,5 مليون هكتار في جنوب السودان لتحويلها إلى حظيرة صيد بها فنادق ذات خمس نجوم). ولهذا لم يكن مستغربا أن 66% من الأراضي التي تم الاستيلاء عليها ما بين 2000-2010 تقع في أفريقيا. وتعتبر أفريقيا الأكثر إغراء لسهولة الحصول على الأرض دون عوائق قانونية إذ أن معظم الأرض يتم امتلالها جماعيا دون أوراق رسمية مما يسهل على الحكومات وسماسرة الأراضي بيعها دون خشية.
وإذا أضفنا إلى ما تفرزه استثمارات الأراضي من أثار ضارة مثل المجاعات على سكان الدول الفقيرة ، خاصة المزارعين منهم، نتيجة التركيز على زراعة العلف وقصب السكر وغيره بدلا من الغذاء ، فإن تأثيرات التغير المناخي تبدو أكثر ضررا. فالأنواء المناخية والأمطار الغزيرة لا تجرف و تغرق فقط الأراضي ولكنها تحصد الأرواح كذلك نتيجه ما يعقبها من أوبئة وجفاف. فوفقا للايكونمست فإن انتاج الهند من المحاصيل سيقا بنهاية 2040 لإلى أكثر من 9%؛ أما في أفريقيا فسيقل بنسبة 20%. ومن هنا فإن أوكسفام تتنبأ بأن عدد الذين ستضربهم المجاعة في العالم سيزداد بنسبة 20% بنهاية 2050. أما بالنسبة للأمراض فإن التقديرات تشير إلى أن عدد الذين سيصابون بالملاريا في أفريقيا نتيجة التغير سيزيد بمقدار 90 مليون في 2030. ليس ذلك فقد فهناك خطر قلة المياه في العالم نتيجة التغير المناخي . فالعلماء يقدرون بأنه بنهاية عام 2020 فإن ما بين 75 و250 مليون شخص في أفريقيا سيعانون من قلة المياه. إن كل تلك العوامل تشير إلى أن القرن الحادي والعشرين يحمل في طياته تهديد خطيرا للبشرية ، خاصة في الدول الفقيرة.
في نهاية الكتاب يقترح هيكيل عددا من الحلول لاصلاح النظام الاقتصادي العالمي وتحقيق العدالة والمساواة بين العالم الغني والعالم الفقير مثل مقاومة الديون والديمقراطية في إدارة شؤون المنظمات العالمية لكسر احتكار الدول الغنية والتجارة العادلة والأجور العادلة لتوازي تكلفة المعيشة والقضاء على التهرب الضريبي وتملك الأراضي والالتزام باتفاقيات الانخفاض الحراري. كل ذلك يبدو حلولا سهلة على الورق ولكن في عالم يحكمه الطمع والجشع ونظريات العرق الآري وتكتنفه الحروب وتستغل فيه الوبائيات تبدو كل تلك الحلول أحلاما وردية بعيدة المنال أو تبدو، كما جاء في تعبير هيكيل نفسه، " جنونا من التخيل الضروري". وإذا كان هذا هو الحال قبل كورونا التي ولاشك ستغير موازين القوي الاقتصادية فتضعضع من اقتصاديات الدول الفقيرة وتزيد من أوجاع الدول الفقيرة فماذا يا تري سيكون الحال بعدها.
على الرغم من كل ذلك فإن كتاب هيكيل جدير بالقراءة لنظرته الجريئة وتحليله العميق ولما يكشفه من حقائق ليس من السهل الحصول عليها.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.