هناك تَفعِيلة بِنيوية ضَارة، أو جُرثومة مَا، أو فَيروس فِكري، موجود في العَقل السياسي الجَمعي و النسيج الإجتماعي الضام لنُخب البُرجوازية الصُغري السودانية، منذ نشأتها الأولي في كلية غردون الجامعية، تَتَناقله مُختلف الأجيال السودانية المُتعاقبة بإستمرار، و يُعبر عن نَفسهِ بين الفَينة و الأخري، علي مَدار تأريخنا الإجتماعي و السِياسي الحَديث. فتجمُع المهنين مَثلاً، هو نُسخة مُتجدِدة وامتداد طبيعي لتأريخ النُخبة السُودانية القديم، مُنذ مؤتمر الخريجين و حتي الآن، مِروراً بالتجمع النقابي عام 1964 م و جَبهة الهيئات عام 1985 م. ثَقافة الطبقة السِياسِية السودانية، و تَجليات مُمارسات أفرادها اليَومية، فيها كثير مِن تَضخُم الأنا و الذاتية و الإنتهازية، و التجاوزات الأخلاقية مِثل إستسهال مُمارسة الكذب البَينِي الداخِلي و الفهلوة السياسية، و عَدم إحترام المواثيق البينية و خِداع الجماهير خَارجياً، و يُقابِلها في الجانِب الآخر لا مُبالاة و عدم مُحاسبة شَعبية مُجتمعِية. هُناك حَد أدنى مِن الصِدق و الثِقَة ضروري لتماسك أي منظومة سِياسية أو إجتماعية، و مُمارسة الكَذِب و الفهلوة يؤدي في النِهاية الي الضعف السياسي الداخِلي و التَشظِي التنظِيمي لِتلك المُؤسَسَات، و وِقُوع بَعض أفراد نُخبِها الإنتهازية فَريسة سَهلة لِمراكز النفوذ المَالية و السُلطوية. مُمارسة السِياسة الأخلاقِية، و تعزيزها ثَقافِياً بإعطَاء النموذج القابِل لِلحياة، يُؤدي في النِهاية الي إقصاء العناصِر الحِزبية السيئة مِن داخِل المَنظومات، أو علي أقل تَقدير إبعادها مِن المَراكِز القِيادية. مُناقاشة البَرامج و الرُؤي السِياسية المُختلفة لِلتنظيمات و الأحزاب السِياسِية السُودانية، يُعتبر تَرَف و مَضيعة وَقت، إذا لَم يَكُن هُناك مَوقف شَعبي عَام رافِض لِقبول الكذب و الميكافِيلية و الفهلوة السِياسية، و فَارِض لِمعايير سِياسية أخلاقِية جَديدة، تَكون مُحصِلتها إتساق داخِلي و بَرامِج في صَالِح خِدمة الجماهِير السُودانية. تَسامُح الجماهِير الشعبية الآن مع كَذِب السِياسِيين السُودانيين، يُؤدي لاحِقاً الي مُحصِلة الفشل السِياسِي المُتكرِرة، و مِن ثم ضياع أهداف الثورة السُودانية. الحَديث المُتكرر عن فَشل النُخب السِياسية السُودانية وحدهَا لا يَكفي، إذا ما تَم تَناولها بِمعزل عَن البِنية المُجتمعِية التي أنتجتها، لأن المُشكِلة الحَقيقِية هو في تِلك الحَاضِنة الإجتماعِية المُفرِزة للأفراد السِياسِيين. المُمارسة السِياسِية لِقوي الحُرية و التَغيير بعد 11 أبريل 2019 م ليست إستثناءاً، عن مُجمل التجرِبة السياسية الوطنية الحديثة، و أدي قصورها اليومِي المُتراكَم الي ما نُعانِيه الآن، مِن تَراجُع في تحقيق أهداف الثورة، و تَشرزُم سِياسِي فِي المَشهد العَام و إستقطابات حِزبية حادة. ضَرب لِجان المُقاومة في الشارِع يوم 20 فبراير 2020 م في موكِب رَد الجميل، مِن قِبَل السلطات الأمنية، و ما لَحِقه من عَدم مُحاسبة و لا مُبالاة سِياسِية، يُعتبر علامة فارِقة في تأريخ الثورة السُودانية، و بِداية لِلإنتكاسة المُؤلمة و التراجُع الثوري الكبير. تَجميد حزب الأمة لِعضويته في قوي الحُرية و التغيير يوم 24 أبريل 2020 م، و رَفعِه اللا أخلاقي لِشعارات الإصلاح و التطوير، بعدَ أن فَشل في الحِصول علي مُحاصصة أغلبية مَناصِب الوُلاة، يُعتبر مَثال عَمَلِي لِلمصالح الذاتية الحِزبية الضيقة و عَدم الإتساق و الإنتهازية السِياسِية الفَاضِحة. أيضاً نُخب الهامِش البُرجوازِية الصُغري لَيست بَعيدة عن تِكرار الفَشَل الوطنِي، و يُعتبر الإنقسام الأخير في الجَبهة الثورية يوم 18 مايو 2020 م، تَعبيراً حَقيقياً عَن ذاتِية و أنانِية تِلك النُخب المُتضخِمة، و التي تُتاجِر لا أخلاقياً بِقضايا الحَرب و التَهمِييش و اللاجئين و النازِحين. بِغض النظَر عن الطَريقة الإجرائية التي تَمتْ بِهَا إنتخَابات تَجَمُع المهنيين يُوم 10 مايو 2020 م، و التَحفظات العَامة التي قَد تَنشَأ حولَها لِلمُراقِب العادِي الخَارِجي، إلا أن المُجمُوعة السُلطوية التي ظَهرَتْ في مؤتمر خَرخَرة سُونَا يوم 6 يونيو 2020 م، هي آخر مَن يَتكلم و يَعترِض عَلي السيطرة الحِزبية و مُخرجات العَملية الإنتخابية، لأنهم غير مؤهلين أخلاقياً و فَنياً لذلك، و فشلوا خِلال عَام كامِل في إقامة جَمعية عمومية نَقابية واحِدَة فقط، و إستخدموا تَجمُع المِهنيين فِي الفترة المَاضِية كَرافِعة إمتِيازات شَخصِية، و شاركوا هُم أنفسهُم في ذات العَملية الإنتخابية التي إعترضوا عَليها لاحِقاً. لِذلك يَجِب عَلينا الآن، العَمل مع القِيادة الشرعِية المُنتخَبة يوم 10 مايو 2020 م، حتي نَصل الي بِناء الأجسام المهنية المُنتخبة قاعِدياً. لجان المقاومة القاعِدية، إخترعتها الجماهير السودانية، لِتنظيم نفسها و التعبير عَن مَطالِبها الإجتماعية و السياسية، في ظل تَردي و ضَعف و عَدم مواكَبة الأحزاب السياسية السُودانية، و عَدم قُدرة الطبقة السِياسَية الهَشة مُجتمعة علي تَلبية الطموحات الشعبية. بإستطاعة لِجان المُقاومة الشعبية، الضغط علي كُل التنظيمات و النَقابات و الأحزاب السِياسِية السُودانية، و فَرض خطوط سِياسِية قَوية عَليها مِن الخَارِج، حتي تجبرها علي الإصلاح المؤسسي الداخلي، و القبول بِمعايير السِياسَة الأخلاقِية. يَجب أن يَتم إعادة بِناء و هَيكلة الأحزَاب السِياسِية السُودانية، علي أساس الرؤية والهدف مَعاً، و إجبارها علي مُمَارسة الديمقراطِية الدَاخِلية، بإعتِبار أن الحزب السياسي هو عبارة عن تَنظيم قانوني يسعى للوصول إلى السُلطة وفق بَرنامج حِزبي سِياسِي و إجتِماعي و إقتِصادي. بَعد ذلك يُمكِن أن تَربِط الأحزاب السِياسِية السُودانِية، بين مَجمُوعْة لِجان المواطنين القاعِدية التي يُمكِن أن تُشارِكها في الرؤي السٍياسِيّة، و بين نِظام الحُكْم وأدوات الدولة المُختلفة، و تُسخِرها في النِهاية لٍخِدمة مَصالِح الجماهِير الشعبِية. لا أُحبِذ فِكرة قِيام أحزاب سِياسِية سُودانية جديدة، و أري أن مُجهودات مَجمُوعَات الضَغط المُختلفة، يُجب أن تَنْصب في إصلاح بِنية المُجتمع و أخلاق الفرد و إعادة هَيكلة الأحزاب السِياسِية المُوجودة، أو مُحاولة تَطوير شَكل للديمقراطِية المُباشَرة بِدون وِجود أحزاب سِياسية. إن إستِمرار الأَحزَاب السِياسِية المَوجُودة، بِشكلها الحَالي المَعطُوب، بِدون عَملية إصلاح مؤسَسِي هَيكَلِية، يُهدِد وِجهة الثورة السُودانِية و يَنسِف إستقرار الحُكومة التنفيذية، و لا يُساهم في إنجاز أهدَاف الثورة، و لا يؤدي الي ديمقراطية حقِيقِية في نهاية المرحِلة الإنتقالية. يَجِب أن يَنصب تَفكِير و تَركِيز كَوادِر الأحزاب السِياسِية السُودانِية، علي إنجاح مَهام الفترَة الإنتقالية العَاجِلة، من إصلاح إقتصادي و قانوني لِهَيكَل عَظْم الدولة السُودانِية، قَبل أن يُهروِلوا الي التحضير لِلإنتِخابات و المَكاسَب الذاتِية الضيقة. أمَا إذا عَجِزنَا عَن إدارة العَملية السِياسِية دَاخِلياً بإقتدار، فَلن يَتبَقي لَنا غَير إنتظار البِعثة السِياسِية الدولية- يُونيتامِس، لتدير لَنا شئوننا السِياسِية الوَطنية، و نَعمَل مَعها للعبور بِبلادِنا نَحو تَحقيق التَنمية و السلام و الدِيمقراطية. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.