جهد كبير قد بُذل في ترقيع ثوب تحالف قوى الحرية والتغيير (قحت) حتى لا تنكشف حقيقته للعامة ويرى الجميع مقدار ما به من اختلاف، ومدى تواضع تلك الخلافات عن همم شباب الثورة و عن تضحيات شهدائها. أما وقد اتسع الخرق على الراتق وبانت السوأة، فقد بات من الضروري الولوج في نقاشات أكثر جدية في جدوى الاستمرار في عملية الترقيع و ضرورة النظر في مستقبل التحالف و إمكانية إبقائه متماسكا و أثر إحتمالات إنقسامه على وضع الحكومة و مستقبل الفترة الإنتقالية. حاولنا معالجة بعض من تلك الشواغل في مقال بعنوان أسئلة لا تحتمل الهروب، وكان عظم الظهر فيه مراجعة أداء قحت في مُعاركة قضايا و برامج الحكم، و كيف أنه كلما تعمقت قحت في مواجهة هموم إدارة الدولة و رفد الحكومة بالكوادر و السياسات، كلما غاصت قحت في وحل الإنقسام إلى الحد الذي يخشى فيه أن تغرق تماماً و تُدخل معها البلاد في متاهة و مصير مجهول. الحقيقة ان واقع تحالف قوي الحرية و التغيير لا تحكمه فقط تحديات الحاضر بل تُسيطر عليه أشباح الماضي و رواسبه كما تؤثر عليه خُطط و طموحات مكوناته للمستقبل. فالتحالف هو تحالف النقائض، فمكوناته تُعبر تقريبا عن كامل الطيف السياسي السوداني من اليمين إلى أقصى اليسار، لا يغيب عنه إلا التيارات الإسلامية يمين حزب الأمة. و هو إيضاً تيارات فكرية متناقضة من الإسلامية إلى الليبرالية إلى الاشتراكية. تحالف بهذا التنوع، حتى في ظروف طبيعة و من دون أثقال الماضي، لا يمكن أن يتفق الا على قضايا الحد الأدنى. و ما برز جلياً أن أعلى سقف أمكن التوافق عليه بعد إسقاط النظام هو الوثيقة الدستورية على ما بها من أوجه قصور تناولتها بالنقد كتابات و لقاءات صحفية مع عدد من كبار القانونيين أمثال الأستاذ نبيل أديب و مولانا سيف الدولة حمدنا الله. تباين الرؤى لمكونات التحالف أعاق عمل الدولة و وقف عائقا أمام برامج تم الإتفاق على القيام بها مثل المؤتمر الإقتصادي، حيث تباينت الرؤى بين تيار داخل اللجنة الإقتصادية بالحرية و التغيير و بين رؤية وزارة المالية من حيث موقف الدولة من قضايا الدعم السلعي و تحرير سعر الصرف و تأسس التباين على الخلفية النظرية لتلك الإجراءات ما بين المدرسة الرأسمالية و نظام السوق الحر و ما بين المدرسة الاشتراكية على الرغم مما يحاجج به الاقتصاديين حاليا عن تماهي الحواجز بين تلك التيارات لصالح نمازج هجين. إنعدام الثقة و الضغائن بين مكونات قحت أقامت جسوراً في وجه أي محاولات للتقارب، و الحروب الإعلامية بين الأطراف مازالت تستدعي مرارات الماضي البعيد، حيث مازال الحزب الشيوعي يجتر ذكريات حله و طرد نوابه من البرلمان، و لا ينسى حزب الأمة موقف الشيوعي من إنقلاب مايو 69 و من مجزرة الجزيرة ابا و على ذلك قس. التموضع للإنتخابات المقبلة أيضا احد تحديات قحت، فجوهر الصراع الدائر على المواقع يتجاوز طموحات الكتل و المكونات في نصيب مقدر من حظ السلطة إلى الإستفادة من ذلك النصيب في تعزيز فرص الأحزاب في الانتخابات. فغالبية مناسبة في المجلس التشريعي تسمح بتمرير قانون إنتخابات مريح و ملائم خصوصا للأحزاب الصغيرة، و نصيب في الحكومات الولائية تضمن موارد مالية و تلميع للكوادر. محاولة الإبقاء على تحالف بكل تلك التناقضات و المصالح المتضاربة لن تعدو على كونها تأخير لأجل الانشقاق المحتوم و إرهاق للحكومة بإدخالها و برامجها في صراعات الكتل و الأحزاب، و على الأرض و منذ فترة لم تمثل قحت الحاضنة السياسية و الداعم لبرامج الحكومة بل تحولت في كثير من الأحيان الي معارضة ناقدة للأداء الحكومي. واقع الحال يقول بأن الحكومة قد تجاوزت قحت عمليا و يبدو أن دولة رئيس الوزراء، الدكتور حمدوك قد أدرك مؤخرا أن الوقت قد حان ليمد رجليه و إقدام الحكومة على زيادة الأجور و رفع الدعم الجزئي عن الوقود و الحديث عن تحرير سعر الصرف في مخالفة لتوجهات اللجنة الإقتصادية لقحت أكبر إشارة و دليل على ذلك. حتى وقت قريب كان يتم تصوير الصراع حول الملف الإقتصادي كخلاف بين وزير المالية دكتور البدوي و اللجنة الاقتصادية، ولكن اللقاء التليفزيوني الأخير لدولة رئيس الوزراء مع الاستاذ شوقي عبد العظيم قد أوضح و بجلاء أن السياسة الاقتصادية المتبعة هي إرادة الحكومة و برنامجها. و لكل ما ذكر فإن محاولات الحفاظ على تماسك تحالف الحرية و التغيير هو من باب تكليف و تحميل مكوناته ما لا تستطيع، و إبطاء لإيقاع العمل الحكومي في إنتظار التوافق بين مكونات قحت على كل سياسة و كل برنامج تُقْدِم الحكومة على تنفيذه، وهو ما لا يتوافق مع طبيعة الفترة الإنتقالية وحجم الملفات الواجب إنجازها. عندما تكون الحلول في غير المعتاد، نستدعي عبارة التفكير خارج الصندوق (Thinking outside the box )، مرّ الآن قرابة العام و نحن نفكر داخل صندوق الحفاظ على تماسك التحالف و على دوره كتحالف حاكم و حاضنة سياسية، و قد حان الوقت للخروج عن هذه المسلمات. ما تحتاجه الحكومة و التحالف الآن هو إعادة النظر في برنامج الفترة الإنتقالية و التركيز على برامج الإصلاح الاقتصادي و إصلاح جهاز الدولة و إصلاح المنظومة العدلية و الشرطية. ثم التوافق على موقف تفاوضي تمضي به الدولة نحو المحادثات مع حركة تحرير السودان جناح الأستاذ عبد العزيز الحلو و حركة تحرير السودان جناح الأستاذ عبد الواحد محمد النور و خصوصا فيما يلي إدارة الخلاف حول هُوية الدولة و طبيعة نظام الحكم، ثم تمضي في سبيل المؤتمر الدستوري و الإعداد للإنتخابات. ما نقترحه تحديدا هو الاتفاق على برنامج الفترة الإنتقالية و تأجيل النقاش حول إكمال هياكل الحكم لما بعد ذلك. متى ما تم التوافق على تلك البرامج أو على كيفية إدارة الاختلاف حولها، لا يتبقى في نظري الا إكمال هياكل الحكم و تحديد القيادة المدنية للمتبقي من الفترة الإنتقالية و هو ما لا ينبغي أن يتجاوز المتبقي من العام الحالي أو الربع الأول من العام القادم، واضعين في الاعتبار أن هنالك حديث عن اتفاق ضمني مع الحركات المسلحة لتمديد اجل الفترة الإنتقالية لتبدأ بالتوقيع على إتفاق السلام. إن استطاعت قحت إنجاز ذلك تكون قد حققت أهم مطلوبات الإنتقال و يمكن لمكوناتها أن تنصرف لمهام البناء الحزبي و الاستعداد للإنتخابات، اما إذا حالت الانقسامات دون ذلك فنقترح إنشاء مجلس تشريعي من لجان المقاومة و شخصيات قومية و فق ذات النسب المتفق عليها في الوثيقة الدستورية و هو من يختار القيادة المدنية للمجلس السيادي. ما نقترحه هو طريق ثالث بين الإبقاء على تحالف متصدع و ما بين الذهاب إلى إنتخابات مبكرة غير متفق عليها. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.