استهوتني العبارة أعلاه ، وهي عنوان لكتاب الصحفي البريطاني مايكل فيلد ، و قد تخيرها يوما الدكتور محمد الرميحي ضمن عنواوين حديثه الشهري بمجلة العربي عند استعراضه للكتاب . ولم استبن سببا يجعلها مركونة بين اضابير الذاكرة لاكثر من عقد من الزمان، حتى أطلت على جداريات الوطن دورة أخرى من التجربة الديموقراطية ، تاتي كسابقاتها عقب نظام شمولي جلس على قمته العسكر. وحين يكون العسكر على مقاعد الحكم ، من العبث النظر اليهم من خارج بزتهم العسكرية ، فهم متماهون تماما مع عقيدتهم العسكرية واستراتيجيتها ، كيفما كانت ايديولوجيتهم ، سياسية كانت ام عقدية ، أين ما كانوا وكيفما كانوا في اوربا في اسيا في افريقيا لا فرق الا بمقدار وعي الشعوب التي حكموها. ولان كان هنالك ثمة نجاح تحقق على يد العسكر، فضله يعود لحكمة شعوبهم وصبرهم على المكاره، فالشعوب وحدها القادرة على استثمار وتحويل اخفاقات العسكر لما يحقق مصالحهم الوطنية ، ومثلما نجحت شعوب خابت أخرى ، بل كان مصيرها مدمرا . ألم الفشل.. تعرض الشعب السوداني مثله مثل غيره لتجارب الحكم العسكري الشمولي ، غير أنه كان الأكثر تمردا عليها والأوفر حظا لتكرارها بين شعوب الأرض ، حتى غدت حلقة ضمن حلقات تاريخ نظمه السياسية . وعلى الرغم من أن شعوبا عديدة وضعت نهاية أبدية للنظم الدكتاتورية والشمولية ، بقي الشعب السوداني رازحا تحت رحمتها لأربعة عقود من عقود عمر أستقلاله ، حتى كاد تكرارها كظاهرة يفسد نظريات علماء الاجتماع القائلة بتطور الأنسان نحو الأفضل ، فاحوال نظم الحكم في السودان وبعض شعوب العالم الثالث ، وحدها التي هزمت النظرية على الأقل حنى الآن. ومع هذا التكرار المقيت ، يظل العقل الجمعي في السودان غير كاشف للاسباب والدوافع الحقيقية وراء نجاح تكرار الظاهرة ، وما تم تقصيه وتسجيله ، لا يتجاوز الاطار الظاهري المتمثل في اخفاقات نظم التعددية الحزبية ، وعجزها في تسوية النزاعات الكبرى ، التى حصدت لعقود مداخيل انسان السودان وارواح بنيه ، فضلا عن اشارات بوجه ما للخلل المصاحب لبنية الدولة المركزية ، وموازين توزيع السلطة والثروة. POWER DISTRIBUTION وهي كتابات وافكار حظيت بقدر من الاهتمام والتطبيق ، عقب اتفاق نيفاشا الذي وضع اوزار الحرب الأهلية بين الدولة المركزية وأهل الجنوب ، فتضمنها الدستور الانتقالي ، وتعدل بموجبهما هيكل الدولة من دولة مركزية الى دولة فدرالية ، ومنح اهل الجنوب حكما ذاتيا فضلا عن حق تقرير المصير في العام القادم ، كما اتجه بموجبهما النظام السياسي نحو طريق التحول الديموقراطي. جاحد من يقول أن ما تم أنجازه حتى وان كان نظريا لا يعدّ خطوة الى الأمام ، غير ان هذه الخطى المتقدمة أفرزت قوة ثناية على الساحة السياسية في السودان ، لا يبشر ظهورهما منفردين بمستقبل آمن على البلاد ، خاصة ان كان لكليهما اجندة واطماع تبودلت تحت طاولة اللقاء ، فقد يزعزع الأمر ثقة الناس ، ويضعضع قناعتهم في قوة وثبات وصمود التجربة وان تلفحت برداء الديموقراطية التعددية. صحيح لقد حقنت نيفاشا الدماء بين الشريكين ، غير انها تبدو احيانا وكانها كانت مصلا مخدرا ، اذ جرّت على الشريكين صراعات محلية دامية كل مع من كان يليه ، لازمها ارتفاع ملحوظ في سقف التصعيد الدولي ، صحبها شعور طاغ باحتمالات انهيار تام للدولة ، ومازالت قصعة المستقبل تخفي الكثير. *جهل العامة يؤخر بناء الأمة. هكذا قيل ، كما قيل ايضا ( لا توجد طرق سهلة للشعوب لاجتياز مشكلاتها، فقط توجد عقول تنير الطريق الى الأمام) . في هذا المفترق الذي وضعنا قبالته ، مازال وعينا السياسي وارادتنا الشعبية بعيدتان عن استشراف الخروج من المأزق ، فالعقول التى تدفع العامة لاستبصار مستقبلهم ، ان لم تكن معطلة فهي محبوسة في قفص خطابها تجاه الصفوة وأهل السلطان ، وعاجزة عن مد جسور التواصل والتقارب والالتحام مع جمهور العامة في القرى والارياف والبوادي . معضلات حل أزمات الوطن المزمنة ، لا ترقد عند أقدام تنظيماتنا السياسية ، فهي علي علاتها التنظيمية ، استمدت وجودها وشيدت بنيانها على ذات العلة ، أي المفهوم الجمعي لمعاني مفردات الوطن ، السلم ، الحكم الهوية ، كل هذه المفردات استمدت وشائج الايمان بها من خاصية العصبية المدفونة في عقولنا وعواطفنا ، ومدعومة بوقائع من تاريخنا القديم والحديث والمعاصر . المتامل لافكارنا وبرامجنا التي ننحاز اليها دوما ، يجد أن منصات انطلاقها لحيز التنفيذ كلها مبنية على عنصر العصبية ، لا فرق بيننا في ذلك سواء كنا مثقفين ام اميين ، وسواء كانت تشكيلاتنا التنظيمية ذات مظهر حديث ام تفليدي ، فكري ، جهوي ام اثني . ولعلنا لو تابعنا وامعنا النظر حول مواقفنا الشعبية - بمعزل عن التنظيمات السياسية – تجاه الأنظمة التي حكمت البلاد منذ الاستقلال ، يبدو جليا انتهاج العقل الشعبي لاسلوبين في تعامله مع انظمة الحكم ، وللاسف يهدم كل منهما العلاقة بين الحاكمين والمحكومين ، ويدع سنوات عزيزة من عمر تقدمه تمض هباءا منثورا. وحين اقول الموقف الشعبي ، أعني به الكلية المشكّلة لشعوب الوطن ، لا الفئة التي يجتذبها النظام القائم سواء بفكره العقدي او الولاء الطائفي او مغرياته المادية والسلطوية . في العهود العسكرية الشمولية ، يكون الموقف الشعبي عادة ميالا للعب دور الضحية ، فيبدو لا مباليا ولا مكترثا لما يدور حوله ، يبعث برسالات خاطئة للقائمين بأمر النظام ، ذات مظهر مستجيب ومخبر خلاصته ( ما باليد حيلة ) ، وازاء قوة الدفع الثورية التي يلجأ لها العسكريون لتنفيذ برامجهم ، تنفذ البرامج والمشروعات بصورة عشوائية مشوه سرعان ما تصبح عبء على ميزانية الدولة، ومع تتابع التطبيقات الفاشلة على ذلك النحو ، يغدو العبء ثقيلا على عاتق الدولة والشعب ، فتأخذ مظاهر الفساد طريقها بين المسؤولين ، وتكسو مظاهر التبرم والتزمر وجه الشارع ، ويتصاعد تراكميا الى ان يبلغ حد الجيشان ثم التكتل فيسقط النظام ، ويعود العسكريون لسكناتهم ، يصحبهم خازوق ( بونابارت ) الشهير ؛ ( المستند في حكمه على قوة السلاح ، كالجالس على راس حربة ) . أما في عهود الحكم التعددي ، يبدو الشعب في مظهره واعلامه اكثر حيوية وواقعية ، غير انه يمارس تلك الحيوية الواقعية منطلقا من تقاليد العصبية الكامنة فيه ، حيث تتكتل كل مجموعة تحت مظلة زعيمها ، لا تقبل ولا تتيح لعقلها فرصة النظر لما عند سواها من ثمار ، ( فيتحول المثقف على راس حزبه الى زعيم طائفة او قبيلة ، وتتحول الفئة الاولجاركية الى حلقة حيران هائمة في تمجيد شيخها ) كما قال ابو القاسم حاج حمد. هذه التقاليد العصية هي العلة في جمود وخيبة تجارب الديموقراطية التعددية ، وما لم ينشا جيل يقدس صونه الانتخابي ، ولا يجعلة سندا الا لمن كان برنامجة هو الاصوب والاصلح بمقياس الكل ، فلن يكتب للنظام التعددي بقاء ، فالصوت الانتخابي هو الضامن الاول والأهم ، لحماية واستمرار ونجاح الديمقراطية التعددية . ولعل الرؤية العصبية التى تشرعن اصوات التاخب ، هي التي افرزت في تجاربنا الماضية نظم حكم كسيحة ، فالملاحظ ان الناخب السوداني لم يفوض طيلة تجارب الحكم التعددي حزبا واحدا باغلبية مريحة ، تمكنه من قيادة البلاد وتطبيق برامجه المعلنة بمفرده ، فتلجأ الاحزاب لصيغ التحالف ، وعلى الرغم من ان صيغ التحالف مشروعة ، غير ان نجاحها مرهون بالحد المعقول من التلاؤم الفكري والبرامجي بين المتحالفين، والناظر لتجارب التحالفات التي تمت في السودان ابان النظم التعددية يراها باءت كلها بالفشل ، والاغرب ان فشلها لم يكن بسبب ايديولوجي او برامجي ، بل كانت آفتها وعلتها العصبية المقيتة المبنية على قاعدة الولاء الاعمي ، وقد نبه لذلك ( قرهام تومس ) في خاتمة مؤلفة ( السودان موت حلم ) عندما اشار لضرورة ان يبني منهج تولي الوظائف القيادية على الكفاءة لا على الولاء ، قائلا : )Stability remains elusive and will remain so until an administration can be formed on the basis of the appointment of Ministers because of their ability and suitability for the post , not on their loyalty and allegiance to a party or religious sect .( وكأنه كان يقرأ ما سيؤول اليه الحال في عهد التمكين والولاء . أمل الاصلاح: كان من اقوى بشائره حتي الامس القريب ، التقارب الاستراتيجي الذي حدث بين الحركة الشعبية والاحزاب الوطنية ، ولو كتب لهذا التحالف ان يمضي وفق برنامجه المعلن في وثيقة اعلان جوبا ، لنهضت مسيرة التحول الديموقرطي على اسس بعيدة عن الروح العصبية . حتى مع افتراض ان للحركة اجندة انفصالية ، فان ذلك يجب الا يضعف التحالف، ، بل على الاحزاب والتنظيمات الشمالية الأخرى المضي قدما بذات الاجندة المتفق عليها بينهم ، خاصة وقد ضم التحالف تنظيمات دارفورية هامة ، وجودها ضروري لبلوغ تسوية عاجلة للمشكل الدارفوري. البشارة الثانية : النظام الفدرالي الذي تحقق كصيغة مثلي للحكم في السودان ، كفل لكل ابناء ولاية حقوق ادارة ولايتهم ، وتحمل تبعات ترقية وتطوير انسانها ، وتحسين مستويات الدخل الفردي ، بحيث يستشعر انسان الهامش مسؤولياته الوطنية ، ويسترد احساسة كشريك في حكم وادارة البلاد ، وبالقطع سوف يتبع ذلك وقف الهجرة والنزوح اللذان اديا لتفريغ الريف من قواه العاملة . غير ان النظام الفدرالي بصيغته وتطبيقاته الحالية ، يحتاج لتعديلات تسد الثغرات في بنيات الحكم في المستويين المحلي ورئاسة الدولة ، وكفالة انشاء التنظيمات السياسية ذات الصبغة المحلية ، فضلا عن الصلاحيات الكاملة في ادارة الولاية . البشارة الثالثة: لقد جربت التنظيمات الساسية الكبرى، بطريقة أو أخري تبعات تحالفها ودعمها للنظم العسكرية والشمولية ، ونالها ما نالها جراء ذلك ، فلا اخالها تجربة المجرب مرة اخري. البشارة الرابعة ؛ تخلى التنظيمات ذات الايديولوجيات الشمولية عن الرؤية الشمولية كنظام للحكم ، حيث رسخت قناعاتها على صيغ التعددية كصيغة مثلى للحكم . البشارة الخامسة : اقتناع قطاعات واسعة من المجتمع ، باهمية الدور الذي تلعبة تنظيمات المجتمع المدني ، وبروز دور نشط وفاعل للقطاع النسوي في الحياة العامة . البشارة السادسة : التحسن الملحوظ في قطاع الطاقة ، وموارد البترول والمعادن الثمينة ، والبنيات التحتية ، على ان يصحب ذلك أهتمام أكبر بالقطاع الزراعي بشقيه والثروة الحيوانية . البشارة السابعة : الوعي الجزئي الذي غشى انسان الهامش ، ودفعه للاهتمام بحقوقة الدستورية وانفعاله بقضايا وطنه. هذه البشارات ممهدات لامل الاصلاح ، اذا ما استتبعت باصلاحات جوهرية في الخدمة المدنية ، تعيد لها كفاءتها وانضباطها ، واصلاحات ضرورية في مناهج التعليم ، والمرافق الصحية والبيئة ، ومنح قدر زائد من العناية لمراكز البحث العلمي ، والبحوث الاحصائية والجيولوجية ، بحسبانها الاعمدة الفقرية لانجاز وانجاح دراسات الجدوى لكافة مشروعات التنمية . فالتبق الآمال مشرعة حتى يستقيم عود الأصلاح . .mohamedali Elmelik [[email protected]]