عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
تصحيح المسار فرض نفسه بقوة علي اجندة الفترة الانتقالية، بعد ان كادت حكومة حمدوك وحاضنتها السياسية، تنسي شعارات الثورة، في خضم انشغالات الحفاظ علي الحكم، وصراعات مكونات قوي التغيير وحركات الكفاح المسلح، بتعظيم مكاسبها الخاصة. الشئ الذي يؤكد ان هنالك بونا شاسعا بين مكونات الثورة علي الارض، والنخبة السياسية والعسكرية التي تتقزم يوما بعد يوم، بعد ان عجزت عن استلهام روح الثورة وقيمها في التضحية والايثار. وبالطبع هنالك عقبات موضوعية (شراكة ضيزي وميراث خراب كارثي) واخري ذاتية (ضعف قدرات وبؤس اداء وضبابية رؤية لمكونات الشراكة المدنية) ساعدت علي عدم انجاز شعارات الثورة بالصورة المرجوة. وعليه، يصبح تحديد العقبات بصورة واضحة، ومخاطبتها بما تستحقه من معالجات جذرية، بارادة سياسية صلبة ورؤية نافذة، تستصحب كافة الحساسيات والمخاطر، يضعنا علي الطريق الصحيح. وكل ذلك لا يسعه إلا ان يتم بشفافية، تؤكد ثقة الحكومة في شعبها، وقدرته علي تحمل مسؤولياته دون وصاية او استغفال. ومن اهم هذه العقبات ما يلي: اولا، ان المكون العسكري الشريك في الفترة الانتقالية، لا يجد له مصلحة في انجاز شعارات الثورة، وعلي العكس فهذه الشعارات تدين تاريخ وممارسات ذاك المكون، وتجرده من كل امتيازاته غير المستحقة. والحال كذلك، فهذه العقبة تمثل ام العقبات، وبحلها ينفتح الطريق امام معالجة كافة القضايا باقل كلفة وفي اقصر زمن. والسؤال كيف يمكن اقناع المكون العسكري بخلفيته الاسلاموية ونزعاته التسلطية، بان مصلحته يمكن ان تتقاطع مع شعارات الثورة؟ اي كيف ننجز وصفة تُحوِّل المؤسسة العسكرية والتكوينات المليشاوية، من كيانات تسلطية تستبيح موارد البلاد ودماء اهلها، الي قوات منضبطة توفر الحماية والطمأنينة لشعبها؟ ثانيا، هنالك تصور مغلوط ان ازالة التمكين من مؤسسات الدولة واجهزتها، واسترداد الاموال والممتلكات المنهوبة (غير المعلومة) سيرد للدولة عافيتها وللمجتمع سلامته ونظافته واستقامته! ومصدر هذا الوهم، اعتقاد مضلل ان هنالك دولة قائمة عمل التمكين علي اختراقها او نخرها من الداخل، لمصلحة افراد التنظيم والمنتفعين منه! ولكن الواقع انه ليس هنالك دولة او مؤسسات بالمعني المتعارف عليه، كما انه ليس هنالك خطط او برامج عمل يتم انجازها. وكل ما هنالك عمليات سرقة ونهب منظم ونهم، توظف له اشكال مشوهة وبدائية ومبتذلة من قوانين الدولة ونظمها الادارية وقواتها واجهزتها النظامية! والحال هذه، الموضوع يتخطي ازالة التمكين ومحاربة الفساد ومعاقبة مقترفيه، رغم اهمية كل ذلك كشرط لعدم تكراره. الي انجاز عملية اعادة تاسيس جذرية، لمؤسسات الدولة الخدمية والانتاجية، علي اسس عصرية تواكب عهد المواطنة. اي المسألة فوق كونها فنية إلا انها ثقافية بالاساس، تقوم علي وضع حقوق وخدمة المواطن علي راس اولوياتها. ثالثا، بناء السلطة القضائية والعدلية علي اسس سليمة، يمثل نقطة توازن العلاقة بين السلطة والجمهور، وهنا تحديدا قد اسرف اهل الاختصاص في تحديد طبيعة المعيقات ووضع الحلول والمعالجات، وتاليا توافر ارادة سياسية صلبة من حكومة حمدوك تعجل بانجاز هذا الملف. مع الوضع في الاعتبار ان جزء من التعطيل او وضع العراقيل متعمد من جهات نافذة، ليس من مصلحتها، استقلال وفرض سلطة وهيبة تلك الاجهزة، اضافة لتورط الاجهزة القضائية والعدلية بتركيبتها السابقة في منظومة الفساد! لذلك عمل تسوية تسمح للنافذين والمعطلين من ايجاد مخارج آمنة، يمكن ان توضع علي الطاولة، شريطة التاسيس لدولة قانون بطريقة احترافية. وفي هذا الاطار يمكن الاستعانة بتجارب العدالة الانتقالية، التي تحافظ علي حقوق الضحايا واسرهم، وتمنع تكرار ارتكاب الجرائم والانتهاكات والفساد. واذا قبل ذلك اهل الضحايا بصفة خاصة درأ للمزايدات، نرشح لقيادة هكذا عمل، قامة قانونية لها اسهام في هذا المجال، وهو الاستاذ كمال الجزولي، وكذلك لا يمكن تخطي الاستاذ عبدالقادر محمد احمد، كقانوني مقتدر وحريص علي بناء منظومة قانوية، لا تنشغل بمعالجات قانونية مؤقتة، وانما التأسيس لصرح قانوني وعدلي متكامل، يمثل ركن ركين في منظومة البناء الديمقراطي. رابعا، المسألة الاقتصادية وبسبب ارتباطها بمعاش المواطنين، وعدم تحرير موارد البلاد من سطوة النفوذ العسكري، وسيطرة الراسمالية والمؤسسات الاسلاموية، ووجود السودان في لائحة الدول الراعية للارهاب وغيرها من الغام اقتصادية، اصبحت تشكل عامل ضغط خطير علي الفترة الانتقالية. خصوصا وان اصول هذه المعيقات ضاربة بجذورها في تربة فساد وخراب طاول منطلقات وتصورات وسلوكيات جماعة اسلاموية، اي تعاني سلفا من خلل في تركيبتها وانحرافات في انشطتها، لانها باختصار عبارة عن خليط من جنون العظمة والسادية والخبث والخبائث. ولمعالجة هذا الخواء والعدمية، لجأت للمزيد من الاسراف في الملذات والبهرجة والدعايات والشعارات، وعكس صور وتصورات وهمية، باستخدام الاذرع الاعلامية والوسائل الارهابية. المهم، تتطلب المحافظة علي هذا الواقع الزائف واستمراره تكاليف باهظة، انعكست بؤسا وشقاء علي حياة وامن وكرامة المواطنين. وعموما، بما ان تشوهات السلطة الحاكمة تنعكس علي الدولة والمجتمع في شكل تشوهات مضاعفة. لذلك نجد ان تعاطي السلطة الاسلاموية مع الاقتصاد عبر منهجية او آليات الكسب الريعي والانشطة الطفيلية (سمسرة مضاربة تهريب طباعة عملة غسيل اموال ..الخ) وشراء الولاء السياسي داخليا والرضا (الصمت) خارجيا. عمل علي تكريس ثقافة استسهال الكسب والثراء السريع، كمعيار للنجاح وقيمة للفرد! وليس مستغرب والحال هذه، سيادة نمط الحياة الاستهلاكية البذخية، وضمور الروح الانتاجية والحماس للعمل الذي لايدر الاموال الوفيرة في فترات وجيزة. وامر ذو دلالة، ان مهن انسانية كالطب ورسالية كالتعليم يجري تسليعها، بل وتتحول الي سوق متوحش، يفتقد حتي لمعايير التجارة الشريفة. وبكلمة واحدة، اقتصاد الاسلامويين الذي تمت ممارسته خلال ثلاثة عقود (اذا صحت تسميته اقتصاد اساسا) هو مجرد دجل وشعوذة يقوم علي خلط بعض مصطلحات الاقتصاد الحديثة بالفقه التقليدي، للخروج بوصفة هلامية، لها قابلية تبرير الاخطاء وتحليل السرقات، وحتما افقار العباد وتدمير البلاد، وكله لله. لذلك الخروج من هذا النفق الاقتصادي المظلم علي المدي الطويل، يتطلب ليس مدرسة او نهج اقتصادي فقط، وانما رؤية اقتصادية تنقلنا من اقتصاديات السلطة الي اقتصاديات المواطن، او من رفاه (حماية) السلطات الي رفاهية (خدمة) المجتمعات. وهذا ما يعني بدوره، ان المسألة ليس لها صلة بكثرة الموارد او ندرتها، بقدر ما هي معنية بكيفية التعامل مع الموارد واساليب توظيفها، وانتاج الثروات وطريقة توزيعها. واول طريق لفعل ذلك، هو اعداد برامج اقتصادية تعتمد علي وجود معلومات وبيانات حقيقية، يقوم بها اهل الاختصاص (بعد المرور بتجارب واختبارات) علي ان تتاح لهم كامل الحرية وكافة المعينات بما فيها الاستفادة من بيوت خبرة خارجية. ومن ثم يتم طرحها علي المجتمع للمزيد من النقاش، لاكمال النواقص الاجتماعية واكتساب الدافعية السياسية. المهم، الفترة الانتقالية كغيرها من مراحل الانتقال، تكتنفها صعوبات وتعقيدات ومطبات لم تكن في الحسبان، ولكن ما يجعل فترتنا الانتقالية اكثر تعثر وتربص وتهديد بالمخاطر، انها مثقلة بتركة مؤلمة من المظالم والانتهاكات وافرازات الاستبداد والفساد. ورغم كل ذلك، إلا انها تبشر ايضا بفرص لبناء دولة تليق بتضحيات الثوار، اذا ما احسنا استغلالها بعيدا عن نزعات التشاؤم او الافراط في التفاؤل، وذلك عبر التركيز علي صناعة مستقبل يرد الاعتبار لكرامة المواطنين وينفتح علي افاق اكثر حرية وتطور وابداع. من هذه الوجهة، هنالك حاجة ماسة لاجراء حوار مجتمعي شامل، ياتيه الجميع بعقل مفتوح ونيات صادقة للعبور معا. وبالطبع اول جهة مدعوة لهذا الحوار هي المؤسسة العسكرية وتوابعها، علي اعتبارها اكبر عقبة امام التحول الديمقراطي والعبور لدولة المواطنة منذ الاستقلال. وبالطبع الحوار مع العسكر يشمل جميع مكونات المجتمع في الداخل والخارج، خصوصا المكونات ذات الطبيعة السياسية والمدنية من احزاب ومنظمات وخبراء مستقلين سواء عساكر سابقين او علماء ومفكرين، وذلك من اجل الخروج بتصور محدد لدور هذه المؤسسة في الدولة، الذي يتكامل مع ادوار بقية المكونات في الدولة الديمقراطية، وذلك بندية تحفظ لكل كيان هيبته ومكانته المنصوص عليها في الدستور المتوافق عليه مجتمعيا. طالما اتفقنا علي ان شأنها يهم الجميع، كما ان شأن الجميع يهمها، من غير تصورات مسبقة او اطماع مستقبلية. ولضمان نجاح هكذا حوار يمكن ان يتبناه مجلس السيادة بتركيبته الحالية، او اي جهة تجد القبول من كلاء الطرفين (لجنة حكماء مثلا). وذات الامر ينسحب علي الاحزاب السياسية، فهي تحتاج لحوار معمق يراجع دورها التاريخي، ويحدد ملامح ادوارها المستقبلية بمعايير تخضع للمسطرة الديمقراطية. وكذلك منظمات المجتمع المدني ومدي انطباق ديباجة تاسيسها علي اداءها. وهو ما ينطبق علي الحركات المسلحة ومراجعة تاريخها ومدي انجازها لاهدافها المعلنة او التزامها بشعاراتها بعد وصولها للسلطة. وهو ما يمكن اجراءه علي الاقتصاد والتعليم والخدمات الطبية ..الخ. وهكذا من خلال اجراء الحوار المجتمعي يمكن ادراج كل الهموم والهواجس والتطلعات، ولكن ضمن نظرة شاملة، والاهم تتوخي الاستفادة من اخطاء الماضي، وتكرس جهدها للانتصار للمستقبل. واخيرا بايدينا اخراج بلادنا الي بر الامان او الحاقها بامات طه، هذا باختصار ما تعرضه الفترة الانتقالية. ودمتم في رعاية الله.