قرنك مِعَنِّبْ، صُوفك مِكَلِّبْ قطر التُرُكْ ماشي ومِتْكَرِّبْ انا جيتك من صباح ومِغَرِّبْ تَلَّبْ نمر، همدن قطط سطاح الدروب، طلاس الشقوق سويت لينا الدَرِب للماشي صباح.... وللماشي غَرِبْ مدخل: في ظني ان تاريخ السودان المكتوب شديد النقص والقصور، غير مستوعبٍ لانجازات جميع مكونات الأمة السودانية السياسية والثقافية والتراثية. وما سطرته اقلام الغرباء او بعض مثقفي نخب المركز اقتصر في غالبه على حيزٍ جغرافي محدد واحداث محددة، وكذلك ادمن التركيز على انماط ثقافية وتراثية لمكونات محددة الى درجة التنميط، ربما بحكم قرب من كتبوا من ذلك الحيز وقلة معلوماتهم عما ورائه من اطراف السودان، وربما لتحيزاتٍ حقيقية او متخيلة اشار اليها من شعروا بالغبن من مثقفي نخب الهامش، وتبقى الحقيقة واضحة كالشمس تتجسد في قلة المطروق من تاريخ وتراث وثقافة مكونات بقاع السودان المختلفة، تماماً مثل القسمة الضيزى عند تقاسم وظائف السودنة في (دويلة) ما بعد الاستقلال، الذي ترتب عليه اختلال ظاهر للعيان في تكوين جهاز الخدمة المدنية ومؤسسات الدولة الى يومنا هذا، ومثل تركيز التنمية والخدمات في حيزٍ جغرافيٍ محدد وحرمان بقية الاطراف..وتطول المواجع..ولكن جاء الوقت الذي يجب ان ينهض فيه من يستطيع من اهل اطراف السودان في ان يسهم بما يقدر عليه في معالجة الاختلال البين في كتابة تاريخ السودان بالقاء الضوء على انجازات مكونات السودان الأخرى التاريخية، وقديماً قالوا: ما حك جلدك مثل ظفرك..وهي محاولة لاثراء التعدد بتعميق المعرفة الشاملة التي هي اقصر الطرق لبناء وطن معافى يسع الجميع، و مستوعب ومتصالح مع ذاته وجميع مكوناته وثقافاته. قائد فذ: بعض الرجال من خاملي الذكر، ترفع اقدارهم المناصب، وهناك آخرون يرتفعون بالمناصب. والناظر ابراهيم موسى مادبو (ابو فانوه) من اولئك النفر من الرجال الذين يعطون للمناصب قيمةً، وألقاً، وزخماً، فترتفع بهم المناصب، ويحلقون بها عالياً في سماوات التفرد، والجلال، والأبهة، والجمال، كما قال ابو العتاهية في مدح مروان بن الحكم: اتته الخلافة منقادةً إليه تجرجر اذيالها فلم تك تصلح الا له، ولم يك يصلح الا لها ولو رامها غيره لزلزلت الأرض زلزالها َ تسنم القيادة في لحظات مفصلية فارقة من تاربخ القبيلة الامة، والاقليم والوطن الكبير السودان. كانت هزيمة الدولة المهدية غصة في قلوب المجاهدين، حيث تبعثرت بعد معركة كرري، جموع القبائل التي وحدتها دعوة الامام المهدي، ووفدت بغضها وغضيضها، إلى عاصمة الدعوة، والثورة، و الدولة، ثم خضعت بعد موته طوعاً او كرهاً لسلطة خليفته. اجبرت وحشية الغزاة، معظم القبائل على العودة الي مواطن الاجداد، اما هرباً من بطش المستعمر، او بحثاً عن مستقبلٍ جديد، ورغبة اكيدة في اعمار تلك الديار. اما دارفور، فبالرغم من تمدد سلطة المستعمر إلى معظم رقعتها بعد هزيمة السلطان على دينار، الا انها كانت تمور بالاحداث والصراعات المحلية بين القادة و القبائل، خاصةً وان معظم العائدين من ام درمان كانوا تواقين لاستعادة نفوذ اسرهم، وبسط سيطرتهم على الرعية في ديارهم. ولم تكن السلطات الاستعمارية تأبه كثيرا لتلك الصراعات، طالما انها لم تكن تهدد وجودهم، ساعدها في قبول الناس لها اسلوب الإدارة الناعم عبر اعتماد نظام حكم اشبه بالشراكة بين نظار القبائل وسلطات دولة المستعمر. ومع ذلك كانت سلطة المستعمر لا تتواني في استخدام القوة اذا تجاوزت تلك الصرعات مستواها المحلي واصبحت مهدداً لهيبة الدولة. وفي هذا الخضم ورث ابو فانوه، منصب ناظر عموم قبيلة الرزيقات في عام 1920، بعد وفاة والده ذائع الصيت، المرحوم الناظر موسى مادبو علي، القائد الرسالي الذي تمكن من العودة الظافرة بافراد قبيلته إلى ديارهم بعد سقوط ام درمان عاصمة الدولة المهدية الوطنية، وتمكن من توحيد بطونهم، وهزيمة خصومهم، واستعادة زعامة اسرته. كانت تنتظر الناظر ابراهيم موسى مهمة رسالية أخرى هي ان يعمل على ترسيخ وحدة بطون الرزيقات، وينظم شؤون الادارة، ثم يمد بعد ذلك جسور العلاقات مع جيرانهم، ومع دولة الاستعمار التي خرجت منتشية بعد هزيمة السلطان علي دينار واخصاع دياره لسلطتها. وقد سهلت مهمته التعامل المرن للمستعمر مع قبيلة الرزيقات، حيث حرص الاداريون الانجليز على اقامة علاقة مرنة مع ادارة الرزيقات الاهلية، تتويجاً للجهود التي وضع لبناتها الناظر الراحل موسى مادبو، اثناء حرب الانجليز مع السلطان علي دينار، واحترمها الاداريون من بعده وعززوها مع الناظر ابراهيم، حتى ان ادارته كانت تتميز بدرجة كبيرة من الاستقلالية والندية. وفي احيان كثيرة حرص الانجليز على تجاهل مظاهر هذه الندية والاستقلالية، وغضوا الطرف عن بعض السلوكيات التي ما كانوا يتسامحون بها مع غيره من قادة القبائل (قصة المأمور والشجرة). ابان وصوله لبريطانيا مستشفياً، دعته الملكة اليزابيث لزيارتها في قصر بكنجهام، وهي عادةً لا تقابل الا رؤساء الدول. وبعد تلك الزيارة وعند مروره بالقاهرة، قدم الدعوة للرئيس جمال عبد الناصر لزيارة (دار رزيقات) التي لباها، وتمت استضافته في بحيرة سبدو، بحضور الرئيس عبود والناظر محمود موسى مادبو، الذي خلف ابو فانوه بعد ان وافاه الاجل المحتوم، واظهر فيها الرزيقات من القوة، والكرم، ودقة التنظيم ما كان حديث الناس إلى يومنا هذا. كان مهاباً من الجميع، عادلاً، وشهماً، ونبيلا. كان يعرف مكامن القوة في قبيلة الرزيقات، ويعرف اقدار الرجال وينزلهم المنزلة التي يستحقونها. كان واثقاً من نفسه مالكاً لقراره، لم يكن يساوم او يفرط في سمعة قبيلته، ولا امنها. احبه افراد القبيلة لشجاعته، وورعه، ونسجوا في ذلك الاساطير، حتى تجد من وصفه منهم بأنه (من نصفه الأعلى بشر، ومن نصفه الاسفل ملك)، اي من الملائكة. واذكر ان والدتي حملتني وانا صغير في رحلة شاقة من القرية إلى الضعين لزيارة ضريحه، لنيل بركته، وكنت اسمعها وهي تدعو بحرارة جوار الضريح الفسيح (يا ابو فانوه تعينا ببركات الله وبركاتك). كان معتدا بقبيلته، شديد الميل للاستقلال بتفكيره، وقراراته. فارق الانصارية وسلك الطريقة التجانية، وخرج من مظلة حزب الامة واصبح من مؤسسي الحزب الجمهوري الاشتراكي. وقد احتفظ بعلاقات مميزة مع اضرابه من قادة الادارة الاهلية والقادة السياسين في عصره، واسهم بقدرٍ وافر في القضايا الوطنية. 2في عهده بلغ عز الرزيقات وسيطهم وسطوتهم الذروة. لم يكن يتردد في التدخل بحسم في الاوقات التي يحس فيها بأن مصالح الرزيقات قد تعرضت للخطر، كما حدث في عام 1956 عندما احتل المتمردون مدينة واو وطردوا منها موظفي الحكومة، فارسل تجريدة على وجه السرعة بقيادة المرحوم العمدة حامد برام، استعادت المدينة وطردت المتمردين، وسلمتها للحكومة فيما بعد، لأن احتلال التمرد للمدينة يهدد مصالح الرزيقات في حدودهم الجنوبية. أرسى الناظر ابراهيم موسى نظام الزيارات الراتبة لمناطق دار رزيقات المهمة، للوقوف على معاش وامن الناس، وحلحلة المشكلات قبل استفحالها، واهتم كذلك بفرض ربط من الغلال في مواسم الحصاد، لاستخدامه كاحتياطي استراتيجي يتم اللجوء اليه في اوقات الشدة، واهتم كذلك بتراث الرزيقات، والتأكد من جاهزية فرسانهم بتحسين سلالة الخيول، واقامة الزفات (المعارض) السنوية، لتشجيع ومكافأة المبرزين في شتى ضروب الفنون والرياضات، ولربط بطون الرزيقات ببعضهم البعض. كان نافذ البصيرة، بعيد النظر في مآلات الامور، خاصةً تلك التي تتعلق بمستقبل عشيرته او وطنه الكبير السودان. اورد الاستاذ شوقي بدري في مقال بعنوان مدن سودانية3 ان الاداري البريطاني مستر بلفور ذكر في كتابه (حكاوي كانتربي السودانية)، انه عندما اسر لصديقه الناظر ابراهيم موسى مادبو عن قرب مغادرة الانجليز للسودان، استفسر الاخير عن من يدير البلاد من بعدهم، فقال له انتم، فرد الناظر (نان ما ركبتونا لوري لا نور، لا فرامل، ولا بوري). فكان كمن يقرأ من صفحة كتاب الغيب عن فساد وتخبط انظمة الحكم التي تعاقبت على حكم البلاد بعد رحيل الاستعمار. والرزيقات لا يستخدمون كلمة (نان) في لغتهم الدارجة وارجح ان المقصود (لكن). رحم الله الناظر ابو فانو، فقد كان نسيج وحده. محمد علي مسار الحاج الخرطوم 8 أغسطس 2019 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. مصادر: 1الهداي الشاعر (العاتول الغلب التيتل) مادحا الناظر ابراهيم، من بوست رفعه الاستاذ قادم مطر في موقع سودانيزاونلاين بتاريخ 5 نوفمبر 2015 2جريدة الصحافة بتاريخ 6 اغسطس 2011 بقلم الاستاذ اسماعيل محمد بخيت حبة في الرابط: https://www.sudaress.com/alsahafa/32133 3 مدن سودانية، شوقي بدري، سودانايل، نشر بتاريخ 4 فبراير 2010 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. ///////////////// ************ا