سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
إلغاء مادة الردة من القانون الجنائي لسنة 1991 واستبدالها بتجريم إعلان ردة الآخرين هو أحد صور تفكيك التمكين التشريعي .. بقلم: د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
نشرت وزارة العدل قانون التعديلات المتنوعة (إلغاء وتعديل الأحكام المقيدة للحريات) لسنة 2020 على موقعها على شبكة الانترنت، قاطعة بذلك التكهنات حول طبيعة التعديلات التي جرت على القانون الجنائي لسنة 1991 وموضحة مدى المساس بالمواد التي اشتمل عليها. ويحمد لوزارة العدل سرعتها في نشر هذه التعديلات، حتى تتيح فرصة الاطلاع على القواعد التي استحدثها القانون، وقياس مدى تعارضها مع أحكام الفقه الاسلامي والوثيقة الدستورية والمصلحة العامة. وبالنظر للتعديلات التي تم إجراؤها فقد جاءت في غالبها لضبط الصياغة التشريعية وتحديد بعض المفاهيم التي اشتمل عليها القانون الجنائي، إلا أن أهم هذه التعديلات ما تعلق بإصلاح المواد ذات الصلة بالحرية الدينية، وعلى وجه الخصوص إلغاء مادة الردة التي تضمنتها المادة 126 واستبدالها بمادة تجرم إعلان ردة الآخرين. وبالرجوع لتاريخ هذه المادة فقد أدخلت لأول مرة في التشريع السوداني مع إجازة القانون الجنائي لسنة 1991، ولم تكن توجد من قبل في أي قانون جنائي سابق طوال تاريخ النظام القانوني الحديث. فحتى بصدور قانون العقوبات لسنة 1983 والذي مثل بداية إدخال العقوبات الحدية فيما سمي بقوانين سبتمبر، لم تكن التشريعات العقابية تتضمن نصاً يجرم الردة. أصدرت محكمة محكمة الجنايات في أواخر أيام حكم جعفر نميري حكمها بردة الأستاذ محمود محمد طه وقضت بتطبيق عقوبة الاعدام في حقه، إلا أنها لم تستند في ذلك على نص صريح في القانون العقابي، وإنما حاولت التحايل والالتفاف على مفاهيم قانون العقوبات لإيجاد أساس للإدانة بجريمة الردة، فاستدعت قانوناً غير عقابي وهو قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983 والذي ذكرت المادة (3) منه، أن عدم وجود نص في القانون حول مسألة ثابتة شرعاً لا يحول دون تطبيق المبدأ الشرعي، ومن ثم استلفت المحكمة حكم الردة من أقوال بعض الفقهاء الذي يقولون به. وقد ناقشت المحكمة العليا في حكمها الذي قضى ببطلان محاكمة الاستاذ محمود محمد طه، مدى وجود نص يمكن أن يكون أساساً لحكم الردة، وقطعت بعدم وجود مادة بذلك المعنى وأن قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983محكوم بالدستور الذي ينص على عدم معاقبة شخص على جريمة غير معاقب عليها، فذكرت في انتقادها لحكم محكمة الاستئناف: ( لم تفطن المحكمة إلى أنّ سكوت القانون عن مسألة ما، قد يقترن بمعالجة للمسألة ذاتها في صيغة أخرى لا تجعل شرط السكوت متحققاً في واقع الأمر، فالجريمة المسكوت عنها في قانون العقوبات فيما قالته محكمة الإستئناف، غير مسكوت عنها في المادة (70) من الدستور الملغي إذ أنّ تلك المادة كانت تقرأ كما يلي: ( لا يعاقب شخص على جريمة ما إذا لم يكن هناك قانون يعاقب عليها قبل إرتكاب تلك الجريمة) والقانون الجنائي لسنة 1991، لم يكن تطوراً طبيعياً لأحكام القانون السوداني، وإنما مثل انقلاباً تشريعياً مصاحباً للانقلاب العسكري الذي نفذته الجبهة الاسلامية، ألغي قانون العقوبات لسنة 1983 وتبني المشروع الذي أعدته الجبهة الاسلامية ونشرته على الملأ في كتيب خلال فترة الديمقراطية الثالثة، ويمثل نموذجاً مختلفاً تماماً عن قوانين العقوبات السودانية السابقة، وغيرت حتى مسمى القانون من قانون العقوبات الذي ظل محافظاً على هذا الاسم خلال فترة الحكم الوطني، إلى القانون الجنائي. كما أنها أجازته خلال الفترة القابضة الأولى من حكم الإنقاذ التي تتحكمت فيه الجبهة الاسلامية بمفردها على الحكم. فمادة الردة لم تمثل في يوم من الأيام توجهات النظم السياسية المختلفة التي تعاقبت على نظام حكم في السودان بعد الاستقلال، وإنما هو وجهة نظر تنظيم الجبهة الاسلامية القومية التي أعلنتها خلال فترة الديمقراطية وقننتها خلال اسوأ فترات حكمها. والتعديل الأخير الذي تم على القانون الجنائي لسنة 1991 فيما يخص مادة الردة هو تصحيح طبيعي للوضع القانوني الذي أسسته حكومة الانقاذ، ويمثل صورة من صور تفكيك التمكين في النظام القانوني السوداني. أما النص الذي استبدل بمادة الردة، وهو تجريم إعلان ردة الآخرين، فهو آلية طبيعية لحماية حرية العقيدة وعدم السماح للآخرين بالتعدي عليها، ومعالجة لظاهرة استشرت واصبحت تهدد السلم الاجتماعي وهي ظاهرة التكفير الذي تمارسه بعض الجماعات والأشياخ على منابر المساجد وفي الحلقات العامة مستسهلين الطعن في الاعتقاد وناصبين أنفسهم حكاماً على أديان الآخرين، فجاء النص الجديد (كل من يعلن ردة شخص أو طائفة أو مجموعة من الأشخاص عن دينهم أو معتقداتهم أو يعلن تكفير ذلك الشخص أو تلك الطائفة أو المجموعة على الملأ مهدراً بذلك دمه يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز عشر سنوات أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً) وفي تقديري أن عبارة (مهدراً بذلك دمه) عبارة متزيدة لا مكان لها، فمجرد تكفير الآخرين هو فتح باب واسع أمام إهدار دم الآخرين، وكان يتعين أن يقتصر النص على منع إعلان ردة الأشخاص أو الأفراد، وترتيب العقوبة على ذلك الاعلان. يلاحظ أيضاً أن التعديلات لم تشمل تعديل تعريف الحد في مستهل القانون الجنائي والذي يشمل جريمة الردة، وربما كان هذا الخطأ بسبب العجلة وعدم الدراسة المتأنية، وكان يتعين على وزارة العدل أن تنتبه اهذا الخطأ وإجراء دراسة متأنية على التعديلات قبل الدفع بها للاعتماد، خاصة أن التعديلات تتعلق بأهم تشريع عقابي في البلاد. أحسنت وزارة العدل صنعاً بتعديل المادة على هذا النحو، وأعادت الوضع إلى صورته الطبيعية قبل 1991، وفككت التمكين التشريعي على عقائد السودانيين. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.