قالوا الحجيج قطع ...طالب نور البقع قلبي زاد وجع....حماني القيد منع ( الشيخ المادح أبكساوي رحمه الله) منذ الطفولة ، من أحب أيام هنانا ومنانا الجميلة التى لا تنسى هي يوم العيد الصغير والعيد الكبير (كما يسميهما أهلنا فى السودان). هما أكبر مواسم الفرح الحقيقي المضمخة بعبق الصفاء الروحي والمحبة الحقيقية الصادقة الفطرية المطلقة. المحبة للأهل والصحاب، وفوق كل ذلك حب وتوقير الوالدين وحب المكان من الأوطان الصغيرة والكبيرة.... وحب ترابها الذى تتربت بها راحات كل أقدام الطفولة مراحل حبوها ، وجريها وكذلك حب تراب دفنت فيها سرة كل طفل كانت هي إكسير حياته ووصله بأمه لتلقي غذاء الجنين بلا حدود أو تقتير وهو يعيش فى ظلماته الثلاث. كانت الأعياد نعم المواسم وأحلاها أيام الزمن الجميل. أيام قطارات سكك حديد السودان كانت فيها معاير الجودة والإنضباط والإنتشار تعادل مستوى و مسار قطارات الدول الأروبية خاصة البريطانية التى أورثت السودان نظامها المنضبط. لذلك كان الناس يشدهم الشوق للأهل والصحبة ومنابع حنين صباهم وذكرياتهم فيحرصون على السفر بالقطار لأن فيه سياحة وصحبة رفقة ومتعة تآنس. وكل ذلك النشاط والإهتمام لحضور عطلة العيد مع الأهل فى مدن وقرى السودان المختلفة تعبير عن صدق عاطفة أهل السودان وقوة تكاتفهم وارتباطهم بجذورهم . الحركة تنشط هكذا فى محطات السكك الحديدية فى كل مدينة عليها خط يعبر، وتنشط حركة التكسيات والبصات، وتتوج مواسم الأعياد مواكب وسيرات أفراح عرسان جدد فى كل مكان بندراً كان أو بادية ، يبنون ويعمرون صروح إستمرارية الحياة ونموها، وآمالاً عريضة زرعتها من قبل الأمهات والأجنة بعدها لا تزال فى البطون تتخلق. فتتحق تلك الآمال التى كانت مجرد أغنيات تترنم بها فى السر والعلن الأمهات، تتحقق لاحقاً إحساساً ملموساً معاشاً لتزيد من بهجة الفرح بالأعياد افراحاً إضافية تترجمها اهازيج الدعاء فى قصائد "السيمار " بالعديل والزين ، وكفالة العديلة البيضاء من عند الله، والملائكة معاه تسير ومن وراه تودعه وتبراه. كل ذلك كان يتم فى أجواء نسيمها ربيع الدنيا يعم كل كوخ ودار وكل حي، وروده المتفتحة الجميلة عطرها الصندل والمحلب المعتق. مع فرحة الشعوب بالعيد الكبير من على البعد نشارك كل سنة أحبابنا من الأهل والمعارف المحظوظين الذين ناداهم المنادي فلبوا النداء ، يأتون على كل ضامر طائر "أو على باخرة تمخر عباب البحر أو ذوات دفع أربع " من كل فج عميق، أجسامهم فى الأرض تطوف وتسعى وبمنى ترتاح تبيت وعلى جبل عرفات وهي واقفة تدعوا ، لكن حينها أرواحهم تحلق وتسبح طليقة خلال رحلتها فى سموات الله الواسعة إلى سدرة ملتقى ومنتهى الدعاء، تطلب من خالقها الرحمة والغفران والعتق من النار. لكن هذا العام على غير العادة إن أمره لعجيب، ليس كما عهدناه طيلة العمر، لأن "القيد منع" أغلب المسلمين فحرمهم من متعة أداء مناسك الحج كعادتهم لأن العالم أجمعه يعاني الآن من جراء تداعيات هجمة وباء فيروس الكورونا الذي كم عزلنا وغيبنا كلنا عن الدنيا ومباهجها وكم فيه للأسف من أعزاء كثر قد ماتوا . أنا كغيري من المغتربين عن أوطانهم أشتاق للعيد فى وطني الذي يبعد عني زمناً ومكانًا كبيراً وراء البحار والجبال والأقطار الشاسعة ، فيه حبايبنا من الوالدين ( عليهما رحمة الله) والأشقاء والأهل والصحاب وجيران طيب معشرهم لا ينسى ولا يقدر بثمن، واشتاق ايضاً عند قدوم كل موسم حج إلى الأماكن المقدسة ، الكعبة وما حولها ومني وعرفات ، وقباء مروراً بثنيات الوداع لتكون محطتي المحبوبة عند كل زيارة روضة من رياض الجنة تظللها من فوق القبة الخضراء نورها ساطعاً للسماء " لا تراه إلا البصائر" التي أفاض وأفاء الله عليها. إضافة إلى ذلك متعة وبهجة مواجهة الحضرة النبوية و روح مسك يفوح طيبه من المرقد الطيب للحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه، يجاورانه أحبابه أبوبكر وعمر رضوان الله عليهما . إنها والله للحظة فريدة من متعة تاريخ وسيرة عطرة يعيشها كل زائر. اليوم لا يسعني إلا أن أشخص فى خيالي مع أشواقي زيارة ورؤية تلك الأماكن وسحرها من على البعد على سنة ودرب سلطان العاشقين إبن الفارض رحمه الله، الذي يقول "وأبيت سهراناً أمثل طيفه للطرف كي ألقى خيال خياله لا ذقت يوماً راحة من عاذل إن كنت ملت لقيله ولقاله ". يا حزني وأسفي على كل من غادرنا إلى الأبد جراء حروب داخلية ليس للمواطنين فيها ناقة ولا جمل ، او جراء مرض الكوفيد-19. وَيَا حليل الحج هذا العام، وَيَا حليل العيد فى السودان وابراهيم عوض رحمه الله وطلته الصباحية مبكراً عبر المذياع يطربنا بياعيد تعود علينا سعيد، وَيَا حليل لمة الأهل والصحبة "وكل ما هو جميل فى الحى" ! . وأنا على راحلة السفر المنقوصة رحلتها هذه المرة أحاول جهدي للترفيه على نفسي بترنيمة ما يجود به إحساسي بما يشبه الدوبيت فى كلمات أقول : حليل العيد وزمنه الجميل الفات حليل نسيم الحج ، الكعبة والطوفات حليل السعي، النزول والطلعات حليل منى، شراب قهوتا والونسات حليل الوقوف عليك يا جبل عرفات حليل الدعاء، حليل تدفق الدمعات حليل التدافع عند رمية الجمرات حليل شراب زمزم النبعه ما بنفات حليل الذكريات الجميلة والبهجات حليل صحبة العمرة و الحجات حليل أيام الحج ، أجمل اللحظات حليل زياراتنا يا مدينة الرسول حليل القبة ، جلوس الروضة والصلوات يا رب سترك من الكورونا والوعكات أرحمنا واشملنا بالبركات أقبل الدعوات اغفر لنا ما فات أغفر وارحم القريب والصديق المات أجمعنا تاني كما كنّا فى منى وعرفات ختامًا، عزيزيالقاريء، إني أدعوا لك، طيب الله خاطرك واسعدك فى دنياك. كل عام وانت وكل أهلك بخير وفى ستر وأمان وصحة وعافية، ولك مع قدوم كل عيد أجمل المنى وإن شاء الله كلكم من العايدين . كم للأسف من أحباب ورموز سودانية عزيزة من فنانين وأدباء ومثقفين وأطباء ومفكرين وإقتصاديين وغيرهم كثر أصدقاء ومعارف مهمين قد غادرونا هذه السنة. كم بيوتهم وأطفالهم على أمل ورجاء كانت تنتظر قطارات الشوق تشرفها بطلعتهم، تفرحهم صباح هذا العيد، لكنهم يسجلون اليوم غياباً أبدياً تاركين فراغا كبيراً محزناً لدرجة حتى أن الجدران التى كانت تحيطهم وتسترهم ستفتقدهم. وهنا يحضرني من شعر الأستاذ إسحق الحلنقي جملة "العيد الجاب الناس لينا ما جابك"!. لوحة تعبيرية جميلة من روعة فن شعره، وأقتطف من تلك القصيدة " شال النوار" عبر هذه الزاوية ما يناسب جو هذا المناخ : "بيقولوا الغائب عذره معاه وفي غيابك ياما نشيل اللوم مرت لحظات وكمان ساعات طالت ... وحياتك منتظرين لو وشوش صوت الريح في الباب يسبقنا الشوق قبل العينين ونعاين الشارع .. نلقاه عايم في دموع المغلوبين العيد الجاب الناس لينا ماجابك " فغياب الوالد الحبيب والأم الحبيبة وغيرهم من رموزنا الوطنية أو غياب أصحابنا لا مجال للوم فيه إن كان ذلك بسبب هادم اللذات الذي لا مفر منه، الذي اتسم به هذا العام المتفرد، وهو قد جاء كاسحاً كإعصار هائج يشيل من أغصان الشجر ليس فقط النوار وحده بل حتى البراعم البضة التى بعدها فى مهدها لم تتفتح حتى عند لحظة بزوغ شمس الصباح . أعزائي ربنا يرحمني ويرحمكم والسلامة وبركة فى عمر مديد تعمكم وكل أهلكم ومن تحبون. وعلى الذين فاتهم الحج من أهلي وصحابي وغيرهم نتيجة ظروف هذا الوباء، التفاؤل وإن زاد القلب وجعاً ، بأن القادم سيكون كله خير بإذن الله، وأناشدهم التبرع بما وفروه لحجة هذا العام والقادم كذلك من مال لدعم الفقراء والمتعففين من أرحامهم وجيرانهم وغيرهم، أو لإصلاح مدارس مناطقهم أولية كانت أم ثانوية، أو مستشفياتهم ، فكلها تحتاج إلى دعم وإصلاح وربنا يجزيهم أحسن الجزاء، هكذا بالتكاتف يبنى الوطن.فيا شباب السودان شمروا فالخريف يوعدكم خيراً ، هبوا إنتشروا إلى مواقع الزراعة لنشلة الوطن من هذا الوحل.