تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    وزير الداخلية المكلف يستعرض خلال المنبر الإعلامي التأسيسي لوزارة الداخلية إنجازات وخطط وزارة الداخلية خلال الفترة الماضية وفترة ما بعد الحرب    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قالها بوقاحة المستعمر: عندما خلق الله السودان .. ضحك .. بقلم: حسن عبد الوهاب - برلين
نشر في سودانيل يوم 04 - 04 - 2010

هبت علينا رياح الإنتخابات الأولى قبل أكثر من نصف قرن ونحن في مراتع الصبا الغض لمّا ندرك بعد مطالع الشباب وكانت الإنتخابات آنذاك حدثاً مثيراً داويا ًملأ الدنيا و شغل الناس.
و لم يكن ذلك لعنصر الجدة الذي اكتنفها و لكن ، فوق ذلك ، لأنها ستدخل في سجلات التأريخ كمقياس راصد يؤكد مدى اجتياز أو اخفاق شعب من شعوب العالم الثالث لتلك الممارسة التي ظلت لقرون حكراً على الأوربيين و على حفنة منتقاة من مستعمراتهم كمصر و العراق و الهند .
و ظفر التمرين الانتخابي المرتقب على خطى برلمان ويست منيستر باهتمام فائق في بيريطانيا بحسبانها الوصية على بلد يرد تصنيفه في الترقيم الدولي بالعالم الثالث المتخلف... و بناءاً على تجارب مصر و العراق و الهند اختاروا لرئاسة لجنة الانتخابات المستقلة المستر سكومارسن الهندي الجنسية و عززوه بمعاونيين من خيرة الإداريين السودانيين و ذلك لضمان حيدة الممارسة و شفافيتها .. و أستطيع أن أؤكد أنها كانت أول تجربة شاملة في إفريقيا و العالم العربي متجاوزة في ذلك التجربتين المصرية و العراقية إذ أن الدولتين كانتا تعدان في التصنيف الدستوري من الدول ناقصة السيادة .
و فاجأ الشعب السوداني كل المراقبين بانتخابات نزيهة خالية من أدنى مظاهر العنف أو الرفض على الرغم من ارتفاع نسبة الأميّة و اتساع رقعة البلاد و صعوبة وسائل الاتصال و المواصلات وتعدد الولاءات الثنية و الجهوية .
( 2 )
بحكم إدراكنا القاصرفي تلك السن المبكرة سألنا عمّنا عباس صالح ، رحمه الله ، و كان نجماً لامعاً في محافل المدينة :
- يعني شنو الانتخابات يا عم عباس و تعمل للناس شنو ؟!
- يعني الاتقليز يمرقوا من السودان و بيوتهم السمحة في الحي البيريطاني يقسموها لينا و الما حصّل في النصيب يبنوا ليهو بيت بعدين .. ثم أشار لي ضاحكاً و إنتو يا ود الخليفة " ناس كريمة الزومي " تاني تسافروا في القطر لبلدكم درجة أولى صافي .. ما في درجة تالتة و لاّ رابعة !
و دهشنا ونحن نزن حديثه بين مصدّق و مكذّب .. و سبحنا بآمال عراض و نحن نتطلع لذلك اليوم .. و نقلت الحوار لوالدتي و كانت ، رحمها الله ، على الرغم من أميتها فائقة الذكاء .. فضحكت على نمطها الساخر و قالت : " إن بقى ده بيحصل جيد لينا يا يمة ! لاكين يا ولادي بيوت الإنقليز تحوق في منو ؟! إن شاء الله الإنقليز يطيروا و الجايين يرخّسوا لينا السكر و لقمة العيش.. كان سووا ده بس كتّر خيرهم ! من ذلك اليوم كان – و لا يزال – هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه كل الحكومات : فالمواطن في لهاثه اليومي يبدأ أولاً بقوت عياله ثم تتوالى قائمة أولياته في الصحة و التعليم و شئون المعاش الأخرى .
( 3 )
و من وجوه الإهتمام البيريطاني ، الذي كان المعيار الأساسي لما يشار إليه الآن بالمجتمع الدولي ، بعثت صحيفة ( الديلي تلغراف ) – المعروفة بقربها من حزب المحافظين - مراسلها أنتوني مان لنقل ما يدور في السودان . و كانت بيريطانيا في هيمنتها على عدد كبير من المستعمرات وقتها هي الراعية لدعاوى القرن الثامن عشر التي يرمز لها ب " عبء الرجل الأبيض " و رسالته المقدسة لتمدين الشعوب المتخلفة في النصف الأدنى من الكرة الأرضية .. و لم تكن تلك الدعاوى غير تبرير بمسوغ أخلاقي لما حدث من احتلال كولونيالي كان الباعث الحقيقي فيه هو تصريف ما فاض من منتجات الثورة الصناعية بالإضافة للحاجة المستمرة لمواد خام تضمن دوران المصانع دون توقف – و أضافوا إلى ذلك المبرر الديني الذي حمله المبشرون البيض في التزامهم بنشر المسيحية في الأرض و كان القصد منه إظهار الدافع الأخلاقي من ساسة هم أبعد الناس في سلوكهم من التعاليم المسيحية .
جاب أنتوني مان أغلب بقاع السودان حسب مقتضيات التنافس الانتخابي و التقى عدداً من الزعماء الوطنيين.. و جاء وصفه لبعضهم بالغ السخرية وصل حدود الصفاقة. و أذكر أن صحيفة ( الأيام ) آنذاك قدمت ترجمة لبعض أجزاء الكتاب الذي كان عنوانه " حيث ضحك الله " " Where God Laughed " و اخترع في مدخله مثلاً نسبه للعرب جاء فيه " عندما خلق الله السودان ضحك " و تعجب كثيراً للدور الرئيسي الذي لعبه الدين في مسار الحملة الانتخابية . ( إنني أسجل هذه الملاحظات من سرير المستشفى و مما علق بالذاكرة من الكتاب الذي قرأته قبل ثلاثين عاماً – فأرجو المعذرة إذا اختلطت فيه بعض المعاني . و ربما يعيد أستاذنا محجوب محمد صالح بعض ما نشر لنرى مدى التطور الذي حدث بين تلك الانتخابات و ما هو قائم أو حتى لنقارن على ضوئه مسار ما يرد في الصحافة الغربية و تقييمها للانتخابات القادمة ) .
( 4 )
كان السودان يتهيأ في ذلك الحين لاستكمال استقلاله من الحكم الثنائي الإنجليزي – المصري .. و بالطبع زجّ باسم مصر لتبرير الاحتلال البيريطاني الذي كانت له اليد الطولى في تصريف شئون البلدين – ذلك أن مصر نفسها كانت دولة محتلة و لم تثبت سيادتها حتى على أهم أجزائها: قناة السويس التي كانت تديرها هيئة دولية ولا شأن للحكومة المصرية بها بما في ذلك الملايين التي كانت تدرها من عبور السفن وقد ظل ذلك الوضع قائماً لحين تأميم القناة بقرار الرئيس جمال عبد الناصر مما أسهم في تغيير موازين القوى في العالم و انتهى بالعدوان الثلاثي على مصر.
أخفق ذلك العدوان – كما هو معروف – في تحقيق أهدافه بل أسهم في تثبيت حركات التحرر التي كانت تعمل جاهدة للانعتاق من قيد الاستعمار و برزعبد الناصر كزعيم لا يوازيه في الشعبية زعيم آخر في المنطقة خاصة بعد أن تسبب فشل العدوان في اسقاط حكومة المحافظين بقيادة أنتوني إيدن و إنزوائه تماماً من المسرح السياسي ( و أشير هنا إلى أن أمريكا بقيادة ايزنهاور لم تشارك في العدوان بناءاً على حسابات دقيقة كانت تأمل من ورائها أن تخلف بيريطانيا في السيطرة على شئون العالم . و بالفعل تهاوى النفوذ البيريطاني و حلت أمريكا مكانها معلنة سياسة أشير إليها ب " سياسة ملء الفراغ " للبروز في الواجهة لقيادة العالم الرأسمالي و من ثم مواجهة الإتحاد السوفيتي ) .
على أن السودان نفسه كان غارقاً في حكم ثنائي محلي فرضته طبيعة الإنتماءات العرقية و الطائفية و السياسية بل و حتى التقسيمات الجغرافية و ما نتج عنها من تباين في المناخ . و كان صراع التنافس الانتخابي مستقطباً في اتجاهين: الأشقاء في حزبهم الذي ينادي بالوحدة مع مصر و الذي تحول اسمه من بعد إلى الحزب الوطني الإتحادي و حزب الأمة الذي أقام قواعده على شعار " السودان للسودانيين " و مناهضة الوحدة – و كان على قمة الهرمين السيدان علي الميرغني و عبد الرحمن المهدي. أما قبيلة المتعلمين و حفنتها من المثقفين بأعدادهم الضئيلة فقد انشطرت في اتجاهين : أحدهما علماني يتزعمه الحزب الشيوعي بقيادة عبد الخالق محجوب و حسن الطاهر زروق وأحمد سليمان و كانت لافتته هي الجبهة المعادية للاستعمار ( يعزى ذلك لأسباب قانونية كانت تحظر أي نشاط شيوعي حتى في السر ) – و في المقابل برز تيار الإخوان المسلمين بقيادة شيوخنا صادق عبد الله عبد الماجد و يس عمر الإمام و علي طالب الله و الرشيد الطاهر .
و على الرغم من حداثة التيارين و صغر حجمهما فقد كان لهما تأثير بالغ في أوساط الطلاب و الشباب.. و كان الطلاب يسمعون عن أخ حاد الذكاء يدرس في بيريطانيا هو حسن الترابي . و من طرائف ما يروى عن الفارق الكبير في حجم الولاءات بين مؤيدي الأحزاب الكبرى و مؤيدي الإخوان و الشيوعيين ما يروى عن حسن الطاهر زروق الذي فاز في دوائر الخريجين الأولى بعدد لم يتجاوز المائة صوت و صدف أن كان يجلس في البرلمان بجوار أحد شيوخ القبائل الذي فاز بأكثر من مائتي ألف صوت في الدوائر الجغرافية .. و كان شيخ " العرب " لايصاً في ردهات البرلمان و قد علته الحيرة . و يروى أن حسن الطاهر – بحكم جيرة الكراسي – سأله :
- ما لك لايص يا شيخ العرب ؟
- و الله يا خوي بفتش في الكرسي حقي .. غلبني ألقاهو في الكراسي الكتيرة دي
- يا شيخ العرب إنت فزت بكم صوت ؟
- شن خبّرني يا خوي ..إن بقى ميتين أو تلتمية ألف لكين القبيلة كلها صوتت لي
و هنا ضحك المثقف زروق على حفنة أصواته بالمقارنة بهذا العدد الهائل و قال :
- يا شيخ العرب .. إنت حقو يدوك كنبة .. مش بس كرسي و احد !!!
( لا أعرف إن كان زروق هو المتحدث على وجه التحقيق .. و أرجو أن أصحح إن كنت مخطئاً.. لكن الحوار نفسه حدث بالفعل بصرف النظر عن الأشخاص ).
( 5 )
و لم تقف الثنائية عند هذا الحد فقد قسّم قانون المناطق المقفولة ( الجنوب وجبال النوبة و جنوب النيل الأزرق ) عام 1922 م قسّم السودان إلى شمال " عربي " .. وجنوب " افريقي " مع اسقاط صفة الإفريقية تماماً عن الشمال بالرغم من خصائصها التي يستحيل إنكارها فيه .. و في الطبيعة الإلهية هناك أيضاً تقسيم ثنائي بين غزارة الأمطار في مناخ الجنوب و انحسارها تماماً في صحارى الشمال .
و بالطبع ظلت الثنائية الكبرى ملازمة لنا كذلك في كرة القدم في أكثر حزبيها شعبية على امتداد الوطن حيث ينقسم أغلب مشجعي اللعبة بين الهلال و المريخ – وإن شئت المريخ و الهلال - و أظن أنني الوحيد الذي يشجعهما معاً .. و خاصة المغلوب فيهما لأنه مسكين ( على نهج صديقنا الفنان عبد القادر سالم الذي أرسى هذه القاعدة ) .
لكن أنتوني في سخريته المتعالية على الشعب السوداني أثبت له في كتابه البغيض جنوحه للسلم و بعده التام عن العنف على الرغم من اشتعال التنافس الانتخابي و هتافات بعض مؤيدي الأحزاب في مناصرة مرشحيهم على طريقة :
الويل الويل يا عطية الفانوس حرق القطيّة
الضو راجيك يا بلال صوت صوت للهلال
( 6 )
و في مطلع السبعينيات أصدر جيمس روبرتسون آخر سكرتير إداري للسودان ، الذي صار من بعد حاكم عام نيجيريا ، كتابه التأريخي " Transition in Africa " و سجل فيه ذكرياته في السودان. و مما لاحظه أن شارع النيل كان يضم مساكن و مكاتب أهم الإداريين الإنجليز بقمتهم الثلاثيّة ممثلة في الحاكم العام و السكرتير الإداري و السكرتير القضائي . و قال إن هذا الإمتداد الذي لا يزيد في المساحة على بضعة أميال كان هو المسئول عن إدارة شئون أكبر بلد في إفريقيا كما نوّه بالطبيعة المسالمة للشعب السوداني و تناهيه عن العنف .. و ربما كانت حوادث مارس 1954 م التي قادها حزب الأمة ضد زيارة اللواء محمد نجيب للسودان ، و ما أشيع يومها من أن القصد منها هو تثبيت الوحدة بين مصر و السودان ، هيالإستثناء لهذه القاعدة .
و أذكر هنا على سبيل الطرافة ما أورده أستاذنا الراحل عبد الرحمن مختار في كتابه " خريف الغضب " عن تلك الأحداث و التي صادفت أيضا زيارة وزير خارجية بيريطانيا سلوين لويد : " كان شارع النيل تجتاحه أعداد هائلة من الأنصار و كان بعضهم يمتشق السيوف و كانت هذه الأحداث بدويّها الهائل تحيط بالقصر الجمهوري الحالي و ربما استفز ذلك سلوين لويد فخرج من مرقده داخل القصر و راح يتجول في الحديقة ربما ليستجلي الأمر. " و يضيف الكاتب " و هنا لمحه اللواء أبو رفاس - و كان يومها حكمدار بوليس الخرطوم – فهرع إليه من باب المحافظة عليه و طلب منه أن يعود لداخل القصر .. و كان حديثه في غاية الأدب و الإحترام . و بغطرسة الإنجليزي الأرستقراطي رد سلوين لويد :
- ألاّ تعرفني يا حضرة الضابط .. أنا وزير خارجية بيريطانيا ؟!
و هنا انفعل أبو رفاس و رد عليه بكبرياء السوداني الذي أستفز ( وهذا من عندي )
- يا عم روح بلاش وزير خارجية و وزير داخلية ..إنت عاوز تلحق غردون ؟!
( 7 )
على أن الذي لم يشر إليه روبرتسون في ثلاثيته الإدارية أن ثلاثية سودانية أخري كانت تضم أهم سياسيي السودان: اسماعيل الأزهري وعبد الله خليل وعلي عبد الرحمن -الزعماء الوطنيين في الأحزاب الثلاثة الكبرى ( الوطني الإتحادي و الشعب الديموقراطي و حزب الأمة ) – كانت مساكنهم تتجاور أيضاً على مساحة لا تتجاوز ميلاً مربعاً واحداً داخل مدينة أم درمان .. بل إن مسكن آل الضرير عائلة الشيخ علي عبد الرحمن كان يواجه مباشرة منزل الزعيم الأزهري و يقع خلفهما ببضعة خطوات منزل السيد عبد الله خليل .. أما العلائق الاجتماعية بين هؤلاء الرجال فكانت لا تنهدم حتى في عنفوان التنافر السياسي . إنها الطبيعة السودانية التي تميز هذا الشعب بخصال نادرة ليس لها مثيل في أي مكان آخر في العالم وهي تسترعي نظر كثير من المراقبين الذين يعجبون لها خاصة الروابط الاجتماعية التي تطغى على أي إنتماء سياسي : ففي " بيوت الأعراس و البكيات " يلتقي السودانيون بعفوية الميلاد .. يجاور الشيوعي الجبهوي و ناس الأمة مع الإتحاديين و المستقلين مع الملتزمين و المستشرقين مع المستغربين .. كل ينزع جلبابه العقائدي و يستبدله على عتبة التجاور الاجتماعي بطلاء جميل عنوانه " يا جماعة نحن كلنا سودانيين " و من ثم تتحول هذه المجالس ، في أفراحها و أتراحها ، إلى مصفاة إنسانية تزيل ما تولده معارك السياسة من سخائم النفوس.
و بوسع المراقب للسلوك السوداني أن يستشهد في هذا السياق بعدة روايات أبرزها ما حدث في العراك العنيف مع الحكومات العسكرية حيث تكون المواجهة شديدة الحدة و الميل للإنتقام هو النافذ .. على أنني أورد هنا – على سبيل المثال لا الحصر – بعض الحكايات مما علق بالذاكرة كنموذج لما ذهبت إليه :
أ ) في مطالع الاستقلال تتالت وفود من مختلف جهات العالم لتهنئة الشعب السوداني بهذه المناسبة و كانت هذه الوفود محل ترحيب و إكرام واسع من الأحزاب السياسية .. ولاحظ السيد عبد الرحمن المهدي أن الوفد القادم من روسيا ممثلاً للحزب الشيوعي السوفيتي لم يظفر بهذا التكريم .. فاستدعى عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني و قال له :
- ليه يا عبد الخالق ما كرمتو الوفد الجايي من روسيا ؟! ورد عبد الخالق :
- يا مولانا نحن حزب صغير و ما عندنا إمكانية نعمل حفلات . و هنا قال الإمام المهدي اتفضلوا جيبوا كل الوفد في الجنينة دي و نحن حنتكفل بكل نفقات التكريم و بأحسن الصور العايزنها .. و قد كان .. و تم الاحتفال على أكمل وجه في ضيعة حزب الأمة بالرغم من أن الحزب الشيوعي كان من أشد المعارضين له .
ب ) سابقة أخرى بطلاها الرئيس الراحل نميري و السيد محمد إبراهيم نقد زعيم الحزب الشيوعي الحالي. كان ذلك عند احتفال مدرسة حنتوب الثانوية بعيد تأسيسها الفضي و كانت مناسبة دعي إليها كل الخريجين في تلك السنوات و كان نقد مختبئاً تحت الأرض منذ انقلاب هاشم العطا و ما تلاه من اعدامات لزعماء الحزب . افتقد الزملاء القدامى نقد و تحدثوا مع نميري عن غيابه في مناسبة جمعت الكل فأصدر أوامره لرجال الأمن بعدم التعرض له.. و بالفعل حضر نقد الاحتفال التأريخي و شارك في نشاطاته و فور انتهاء الاحتفال عاود اختفاءه الذي استمر حتى اسقاط نظام نميري في إبريل 1985 م.
ج ) في مؤتمر القمة الإفريقي الذي استضافته الخرطوم في 1978 م كنت مرافقاً للصحفي البيريطاني كولن ليجوم رئيس تحرير مجلة " Africa Confidential " ومؤلف كتاب " Pan Africanism " الذي حظي بمطالعة واسعة في السبعينيات .. و كان من المفترض أن أجري حواراً معه في ردهات قاعة الصداقة حيث يتواجد الزعماء الأفارقة .. و لمح الكتور حسن الترابي و السيد الصادق المهدي ضمن الحاضرين فسألني بإندهاش بالغ :
- أعرف أن الرجلين من أعتى معارضي النظام .. فقاطعته
- و لكن حدثت مصالحة وطنية و هما يشاركان داخل ما وفرته لهما المصالحة فعقب بذات الإندهاش :
- تصورت أن يوفر لهما الأمن الشخصي و يحجر عليهما الحراك في المنتديات العامة .. انظر ماذا حدث في زائير .. إنها تجربة مغايرة تماماً لما هو حادث هنا .. فقد اعلن موبوتو سيسي سيكو عن عفو عام لكل معارضيه في الخارج و دعاهم بأمان مغلّظ إلى العودة للبلاد و المشاركة في العمل السياسي .. و فور نزولهم من الطائرة انقض عليهم رجال أمنه و أبادوهم جميعا ً.
قلت له :
- هذا يستحيل أن يحدث في السودان .. ليس فقط لأن الرجلين لهما شعبية كبيرة أو للوزن الدولي الذي يتمتعان به .. ولكن لأن التقاليد السودانية لا تقر منكراً مثل هذا .
د ) كنا نشاهد ندوة في التلفزيون مع مجموعة من الإخوان العرب و كان يدير الحوار فيها وزير الإعلام وقتها الأخ عبد الباسط سبدرات و كان من بين المشاركين في الندوة الزميل الراحل فاروق كدودة ممثلاً للحزب الشيوعي .. و كان الود حاضراً في مسار الندوة إلى الحد الذي كان كدودة يعلق بذكاء ساخر و طرافة على ما يحدث و يجيب سبدرات بذات اللطف و أذكر أنه سأله عن المرادف العربي لإحدى الكلمات التي نطقها بالإنجليزية فترجمها سبدرات له . قاطعني أخ عربي قائلاً:
- شيوعي يسأل وزير إعلام حكومة إسلامية في تلفزيونها ! و الله شيء عجيب ..والله في بلادنا المعارض ما يتركوه يمشي في الشارع مش يصل التلفزيون!
فأكدت للمجتمعين أن ما يشاهدونه من تآلف لا علاقة له بالسياسة و لكنها الروابط الاجتماعية التي يتحلى بها السودانيون .
( 8 )
و لا تجلي العلاقات الاجتماعية فقط العكر السياسي و لكنها تزيل حد الحواجز الطبقية .. و أعجب لمن يرددون قولاً كان سائداً بأن " الطبقة الوسطى " قد انمحت من السودان ! يا جماعة : بالله عليكم هل في السودان طبقات قديماً كان أو حديثاً ؟! صحيح هناك أثرياء و فقراء .. و لكن الطبقية بالمفهوم الأوربي يستحيل أن " تصنّع " عندنا .. إن أذكى نماذجها المستديمة هو الزعيم إسماعيل الأزهري الذي كانت داره تعج بالواصلين و هو في أعلى قمة السلطة وقس على ذلك رجال الطرق الصوفية ب " قدحهم " المعلى الذي " يلفف " فيه المريدون بأعدادهم التي تحصى .
و على ذات النهج في الدار المفتوحة شيوخ القبائل و قادة الأحياء و غيرهم ممن ميزهم الله بنعمة البروز. و من هو ذلك السوداني البائس الذي يتحمل " النبيشة " حين يوصف بأن بابه مغلق عليه ؟ وبالمقابل هنالك الذي يستبشر به و ينداح ذكره العطر لأن " بيته فاتح للجميع " .
و استنهض ذاكرة خربة أقعدها الخرف و المرض و أعيد ما ذكره أخونا أحمد كمال الدين – الذي أفتقد قلمه الرصين كثيراً – أن ندوة أقيمت في لندن عقب سقوط نميري شارك فيها ممثلو الأحزاب كان الحوار فيها حامياً و المواقف متباعدة .. انتهت الندوة بعراكها الكلامي ووقف المشاركون عند المدخل كلٌٌ بنتظر من يعينه في الوصول إلى داره .. و جاء الزميل الراحل خالد الكد و كان أعلى المشاركين صوتاً في معارضة متحدثي الأحزاب السياسية .. وعرض على المتحدثين الركوب .. فانسابوا جميعاً داخل سيارته تاركين خلافاتهم الحادة جانباً .. و كانت بقية الرحلة " ونسة " سودانية خالصة فيها كثيراً من الود إلى أن أوصلهم إلى ديارهم . ( ربما تكرر الاستشهاد بزعماء شيوعيين لأنهم يمثلون الرصيد الأوفر في أقصى اليسار مقابل معارضيهم في التقسيم المنسوب لليمين .. و يؤكد ذلك أن تباعد المواقف السياسية لا يلغي تقارب الصلات الاجتماعية . )
( 9 )
و من الطرائف التي لا أنساها أن أخاً فاضلاً ، رحمه الله ، جاءني ثائراً عقب فتوى صدرت لأول مرة في السودان عام 1965 م بجواز حق المرأة في التصويت و دخول البرلمان – و كان أبرز المفتين بها د. حسن الترابي الذي أنتخب لتوه أميناً عاماً للجبهة القومية الإسلامية .. و صادف ذلك أن مدينة مدني كانت تتحدث عن سيدة تشاهد لأول مرة و هي تقود سيارة في طرق المدينة .. و انقسم الراي حولها ما بين مؤيد معجب و مستنكر رافض ( أين هذه السيدة الآن و لماذا لا تكرم بحسبانها قد أدخلت نقلة تأريخية بمقاييس ذلك العصر ؟! ) .
قال لي الأخ بتوتر حاد :
- بالله دي بلد يقعدوا فيها بعد كده ؟
سألته:
- الحاصل شنو يا أخينا ؟
- أخوكم ده – يقصد الترابي – جاب فقه النسوان ده من باريس ؟ الفقه العرفناه من شيوخنا طول عمرنا ما فيه كلام زي ده .. و على العلينا كمان في واحدة سايقة عربية !!
حاولت أن أهدئه – ليس من باب الفقه فأنا أعلم أن الجدال الفقي في هذه المواقف التي تتحكم فيها التقاليد لا يمكن أن يكون مجالاً للقبول – فقلت له يا أخي الترابي ليس وحده الذي أفتى فالفقهاء غيره ممن درسوا في الأزهر و المعاهد العلمية أفتوا بذلك .. و أضفت : هل عندك شك أن الترابي عالم و فقيه ؟! لم نصل لإتفاق
و انتهت جلستنا بثبات كل على رأيه .
و بعد زمن صارت مشاركة المرأة في الحياة السياسية أمراً واقعاً و شاهدنا سيدات الجبهة القومية الإسلامية ( السيدة سعاد الفاتح ) تتحدث في الليالي السياسية جنباً إلى جنب مع شيوخ الجبهة و لا يستنكر عليها أحد ذلك.. أما أخي الراحل فقد أوكل لزوجته مهمة الدفاع عن حقوق المرأة و كان هو من أقوى المدافعين عن مشاركة المرأة في كل المرافق.. و كنت كلما ذكّرته بذلك الموقف المتزمت ... ضحك وقال :
- زمن يا حسن.. زمن !
( و يقيني أن المعارضة تذوب إذا أقتنع من ينتهجها بصدق الرأي الآخر و تجرده )
( 10 )
و بعد :
هذه خواطر متلاحقة سجلتها كراصد لعهد مضى .. و أعلم أن هناك من ينبري من جماعة ( الزمن الجميل داك ) ليقول : يا أخي روح .. ده قاعد سنين بره البلد و ما عارف المصائب الحاصلة.. ما سمع بالجرائم .. و ما سمع بالفساد .. و ما سمع ب ..... يا أخي حليل سودان زمان !!
سودان زمان الذي يدحض الناس حاضره و يتحسرون على ماضيه هو نفسه الذي قال فيه الكاشف قبل سبعين سنة :
" ما ليك أمان يا ذا الزمان ..آه يا ليالي زمان.. يا ليالي زمان "
ذات الشكوى من رفض الحاضر و التغزل بالماضي !
و سأرد :
يا جماعة سيبقى السودان هو السودان .. و أهل السودان هم نحن بأعراقنا .. وجهوياتنا .. و انتماءاتنا السياسية و العقائدية... و سيرث أبناؤنا هذه الخصال الجميلة شئنا أم أبينا .. وأؤكد لكم أن الزمن الجميل يستحيل أن ينتهي .
برلين – مارس 2010 م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.