معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    محمد وداعة: الجنجويدي التشادى .. الأمين الدودو خاطري    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاسلاموية السودانية .. ازمة القيم وفشل المشروع .. بقلم: سمير محمد علي حمد
نشر في سودانيل يوم 11 - 08 - 2020

"... السودان وصفحته الطافحة بالتحديات ... لكن مسيرته الديمقراطية التي اثارت الغيرة والاعجاب مهددة بمغامرات الطامحين ... بل الاخطر ان لاحت مخاطر لم نكن نعهدها ... وهي مخاطر تستهدف قيام السودان بأصل وجوده سالم الاراضي موحد الكيان. ... ونريد نحن في الجبهة الاسلامية القومية ان نوافي هذا الوعد بمشروع احياء ديني لحسم خيارات التوجه المتنازعة ... واننا لماضون بإذن الله بعزيمة الصادقين وصبر المتوكلين المطمئنين بوعد الله واثقين ان سيتمكن الاسلام في السودان ..." .[1]
هذه العبارات من خطاب د. حسن عبد الله الترابي في المؤتمر العام الثاني للجبهة الاسلامية القومية والذي عقد في 14 يناير 1988م بالخرطوم. وبعد اقل من 18 شهراً من ذلك الخطاب وقعت الخيانة العظمي بتقويض النظام الدستوري القائم في السودان، والذي شغل فيه د. الترابي عدة مناصب منها نائباً ثانياً لرئيس الوزراء ووزيراً للعدل ووزيرا للخارجية. تلك الخيانة التي ادخلت السودان في نفقٍ حالك الظلام كانت تكلفة الخروج منه باهظة الثمن دفعها من مقدراته ووحدته، ودفعها شعب السودان من ماله وامنه وصحته وحريته وكرامته ودماءه، وقد يكون طريق التعافي من اثار ذلك النفق طويلاً واكثر تكلفةً، ولكن مهما بلغ من درجات التعافي فلن يعود ابداً كما كان قبل الثلاثين من يونيو 1989م كأكبر قطر افريقي.
هكذا وبتلك الخيانة دشنت الحركة الاسلاموية مشروعها التدميري في السودان، فقد كانت حركة عكس مسار الزمن، اعادت السودان الى عمق التاريخ المظلم، ايقظت كل جهالات الماضي من نعرات قبلية واثنية ودينية ففتت وحدته وهتكت نسيجه الاجتماعي، ثم انهمك منسوبيها في تبديد واستنزاف مقدّراته بالنهب والاهمال وسوء الادارة. فبينما كان العالم من حوله يتحرك نحو المستقبل بثبات كانت الاسلاموية تقود السودان نحو الماضي بكفاءة عالية. فمن اين جاءت الاسلاموية السودانية وماذا تريد؟
حول مفهومي الاسلاموية والحاكمية
الاسلاموية لا تعني الاسلام بل هي ايدولوجية تقوم على تفسير شمولي للدين الاسلامي يجعل السياسة وشئون السلطة تحت مظلته انطلاقا من مبدأ "الحاكمية الالهية" الذي اسس له حديثاً ابو الاعلى المودودي وتوسع فيه سيد قطب، علماً ان مفردة "الحاكمية" نفسها لم ترد لا في القران الكريم ولا في السنة النبوية. فمبدأ "الحاكمية" يرفض سيادة الشعب واي تشريع وضعي يصدر عنه، باعتبار ان ذلك ينازع سيادة الله تعالى على الجميع، يقول سيد قطب: " ليس لاحد ان يقول لشرع يشرعه: هذا شرع الله، الا ان تكون الحاكمية العليا لله معلنة، وان يكون مصدر السلطات هو الله سبحانه لا الشعب ولا الحزب ولا أي من البشر، وان يرجع الي كتاب الله وسنة رسوله لمعرفة ما يريده الله ولا يكون هذا لكل من يريد ان يدعي سلطانا باسم الله" [2, p. 95]. لعل مبدأ "الحاكمية" ظهر لأول مرة في التاريخ الاسلامي اثناء المواجهة بين الخليفة الرابع علي بن ابي طالب رضي الله عنه ومعاوية بن ابي سفيان عندما خرجت مجموعة من جيش علي رضي الله عنه (الخوارج) احتجاجاً على حادثة التحكيم المعروفة، قائلين: لا يجوز تحكيم الرجال في دين الله، مستندين على الآية القرآنية ( إن الحكم الاّ لله) فرد عليهم علي رضي الله عنه بعبارته المشهورة: "كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ! نَعَمْ إِنَّهُ لا حُكْمَ إِلاَّ للهِ، ولكِنَّ هؤُلاَءِ يَقُولُونَ: لاَ إِمْرَةَ، فَإِنَّهُ لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللهُ فِيهَا الْأَجَلَ، وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيءُ، وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ، وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِر"، ناكراً عليهم فهمهم لمفردة "الحكم" بمعني السلطة.
مفردة "الحكم" واشتقاقاتها الواردة في كثير من الآيات القرآنية والتي تم الاستناد عليها في استنباط مفهوم "الحاكمية"، كانت دائما تعني الفصل او القضاء في المنازعات والخصومات وفي احيان اخري الحِكمة أو المشيئة، ولم تكن تعني الحكم السياسي (السلطة)، وتم تناول ذلك بالتحليل الموضوعي من قبل كثير من الباحثين [5-3]. وقد ورد عن المفكر الاسلامي د. محمد عمارة مبدئاً وجهة نظره في الحاكمية عند المودودي : "إنّ مقولة الحاكميّة في فكر الخوارج القدماء، وفي كلّ كتابات أبو الأعلى المودودي هي (فكر سياسي) إسلامي، أي اجتهادات إسلاميّة، إنّ ألزمت أصحابها فهي غير ملزمة للآخرين، لأنّها ليست (دينًا ثابتًا) – فلا هي بالبلاغ القرآني ولا هي بالبيان النبوي للبلاغ القرآني- وإنّما في (فقه) سياسي يقبل منه ويرفض، يؤخذ منه ويرد. كما أنّ هذا الفكر عن الحاكميّة له معارضون كثيرون، فلا علاقة له بالإجماع – مع افتراض إمكانيّة الإجماع في الفقهيات والسياسيات أصلًا" [6].
فمفهوم "الحاكمية" ليس له أي قداسة دينية توجب العمل بمقتضاه، فهو ليس اكثر من تصور وضعي بشري غير مجمع عليه، شأنه في ذلك شأن مفهوم العلمانية، ولا يخرج عن الظرف التاريخي والاجتماعي والسياسي الذي عايشه واضعوه، ولعلهم ان عايشوا ظرفاً مغايراً لاختلف نهجهم وتصورهم واتوا بمفهومٍ مغاير ايضاً. يقول الباحث محمد عبده أبو العلا [7] : "مرّ مفهوم الحاكمية عند سيد قطب بمرحلتين ارتبطتا بعلاقته بثورة يوليو 1952م المصرية، هما: (1) الحاكمية التشريعية: حيث يرى ان الحاكمية للشريعة وليس لله. والحاكم في ظلّ هذه المرحلة من الحاكمية يستمدّ شرعيته من الشعب، وذلك عن طريق التطبيق العصري لمبدأ الشورى، أي الديمقراطية. (2) الحاكمية الالهية: وتظهر في هذه المرحلة رؤية سيد قطب الإيديولوجية المتشددة، تلك الرؤية التي هي ليست أكثر من مجرد شرح أو تفسير لمفهوم الحاكمية عند المودودي. في هذه المرحلة يكون الحكم لله الذي له وحده حق التشريع للعباد ووضع المناهج لحياتهم. فأيّ حكم مردّ الأمر فيه للبشر ومصدر السلطات فيه هم البشر هو تأليه للبشر، لذا يجب الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كلّ صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها. وقد بدأت هذه المرحلة في التشكل عند سيد قطب أثناء معاناته الحبس والتعذيب في غياهب السجون." هذا يوضح بجلاء تباين مفهوم "الحاكمية" لدي سيد قطب مع تغير الظرف الذي يحيط به، فعندما كانت علاقته ودية بضباط ثورة 1952م المصرية كان المفهوم اكثر اعتدالاً عن ذلك المفهوم المتشدد الذي جاء بعد ان تم سجنه والتنكيل به اثر سوء علاقته مع ضباط الثورة المصرية.
"الحاكمية" هي المفهوم المحوري الذي قامت عليه حركات الاسلام السني السياسي المتشدد منها والسلمي، ونتج عنه الظاهرة "الاسلاموية" في وقتنا الراهن. وقد كانت هذه الظاهرة موضع نقاش وتحليل عميق وواسع من قبل كثير من الباحثين والمثقفين في مجال علم الاجتماع والاسلام السياسي، ومن ابرز هؤلاء آصف بيات الذي يرى [8]:
1- ان الاسلاموية هي المفهوم الذي يشير الى الافكار والحركات التي تسعى من اجل اقامة نظام اسلامي يتمثل في دولة دينية، واقامة حكم الشريعة، وفرض القوانين الاسلامية في المجتمعات الاسلامية.
2- ان الاسلامويين يعتبرون الدولة هي الأقوى والأكفأ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذلك يحرصون على الاستيلاء على سلطة الدولة.
3- ان رؤى الاسلامويين الشرعية والقيمية تؤكد على ان واجبات الناس اكثر من حقوقهم، فهم مجرد رعايا ملزمون اكثر من كونهم مواطنين ذوي حقوق.
كما يُعرّف مهدي مظفري الاسلاموية بانها "أيديولوجية دينية، لها تفسير شمولي للإسلام، هدفها النهائي اخضاع العالم بكل الوسائل" [9]. الشمولية هنا تعني ان الاسلام دين ودنيا ودولة، اما الوسائل لتحقيق الاهداف فقد تكون عنيفة من خلال العمل المسلح وقد تكون سلمية من خلال نشر الدعوة سلمياً واستخدام الوسائل المدنية والديمقراطية، وقد تكون مزيجاً بين العنف والسلمية حسب متطلبات المرحلة.
هذا المشروع الاسلاموي والمستند على التفسير الشمولي للإسلام باعتباره دين ودنيا ودولة، مفهوم اقصائي مختل ولا يمكن ان يقود لأمن واستقرار الدولة. فالإسلام دين، وهو شأن بشري حصراً كما ورد في القران الكريم، يوجه حياة البشر وفق القيم الاخلاقية والمبادئ التي جاءت في القران والسنة النبوية. واختلال المفهوم يكمن في التفسير الشمولي للإسلام باعتباره دنيا ودولة بجانب انه دين، ما يجعل الدولة بكامل نظمها ومكوناتها بما فيها الاديان الاخرى وحتي مذاهب الاسلام الاخرى خاضعة لسيطرة المذهب الاسلامي الذي تؤمن به السلطة الحاكمة. فالأديان بما فيها الدين الاسلامي ومذاهبه المختلفة مكونات تحت مظلة الدولة وليس العكس، فمهمة الدولة ضمان حرية المعتقد لمواطنيها، وليس استغلال الدين كأداة سلطة لاخضاعهم. من جهة اخرى فان الدين الاسلامي لم يضع صيغة محددة لتداول السلطة في الدولة، ما يجعل كيفية تحقيق ذلك امر سياسي محض وخارج مظلة الدين. فالمشروع الاسلاموي لا يمكن ان يقود الى دولة مستقرة ينعم فيها جميع مواطنيها بحقوقهم وحرياتهم الاساسية، بل سينتهي الى دولة فساد واستبداد، ذلك لسببين اساسيين:
السبب الاول يتعلق بالفكرة: فالاسلاموية ايدولوجية اقصائية دوغمائية تزعم امتلاك الحقيقية المطلقة ولا تعترف بالأخر الذي لا يؤمن بأفكارها، وتنظر الى الدولة من تحت مظلة الدين وبالتالي يجب ادارة كل شئونها على اساس ديني وفق فهم السلطة الاسلاموية الحاكمة للدين. وهذا يتيح للسلطة الحاكمة استغلال قداسة الدين لفرض رؤاها، واخضاعه لمصالحها السياسية، والاقتصادية، والامنية ...الخ، ذلك باستدعاء الفتوي الدينية وتجييرها لخدمة هذه المصالح، أو لتبرير ممارساتها الفاسدة والقمعية متي ما ارادت. كما ان هذا التفسير الشمولي للإسلام ذو المنظور الإقصائي يؤدي الى هضم حقوق الاقليات الدينية. وهكذا بدلاً من ان تكون الدولة دولة جقوق تراعي التنوع وتحفظ الحريات، تصبح دولة وصاية تعمل السلطة فيها على اخضاع كل مكونات المجتمع باختلاف معتقداتهم وثقافاتهم الى فكرة احادية تتبناها باعتبارها الحق وما عداها باطل، فتبرز الصراعات مهددة أمن واستقرار ووحدة الدولة.
السبب الثاني يتعلق بمن يطبق الفكرة: من يطبقون النهج الاسلاموي في نهاية الامر بشر عاديون وليسوا انبياء او ملائكة، والبشر مهما بلغت درجة تدينهم ليسوا معصومين والنفس البشرية لا تخلو من الفجوات الاخلاقية تتسع او تضيق من فرد الى اخر، والوعي بحدود الممارسة الاخلاقية في شأن السلطة يختلف من فرد لأخر، فالدين جاء لسد هذه الفجوات لتسمو الاخلاق (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). لعل التاريخ قديماً وحديثاً قد برهن ان اجتماع قوة السلطة مع قدسية الدين في ايدي البشر كانت دائما هي التركيبة المثالية لإنتاج دولة الفساد والاستبداد. فتقلبات النفس البشرية وعللها الاخلاقية ستجعل من الدين في السلطة القائمة على اساس ديني اداة للوصاية على المجتمع وتحقيق المكاسب الخاصة، ومن ثم يصبح فساد واستبداد السلطة محميان بالدين. فالدين امر يتعلق بالحاكم والمحكوم على حدٍ سواء، يسترشد به كل منهما في ممارسة حياته اليومية سياسية كانت او اجتماعية او اقتصادية، كما قد يشكل مرجعية لفض المنازعات والخصومات واحد مصادر القوانين، ولكنه ليس اداة للحكم السياسي.
وتجدر الاشارة هنا الى التجربة الاسلاموية السودانية، والتي طرحت مشروع اسلاموي مبني على "الحاكمية" يجعل الحاكمية لله والشعب مستخلف، فقد نصت المادة الرابعة فيما عُرف بدستور "التوالي" والذي صدر عام 1998م، حينما كان السودان تحت السيطرة المطلقة للحكم الاسلاموي، على ان: "الحاكمية في الدولة لله خالق البشر، والسيادة فيها لشعب السودان المستخلف، ويمارسها عبادة لله وحملاً للأمانة وعمارة للوطن وبسطاً للعدل والشوري، وينظمها الدستور والقانون". في الواقع لم تتاح لشعب السودان أي سيادة او استخلاف انما انفردت الحركة الاسلاموية بكل الامر، فقد كانت هي "شعب السودان المستخلف" رغم ارادة بقية الشعب، ومارس السيادة في الدولة السودانية "عبادة لله" لينتهي به الامر الى تفتيت الدولة السودانية ونهب مقدّراتها وشن الحروب على مواطنيها وانتهاك حقوقهم باسم الدين. فكان ذلك مسوغاً للتدخل السافر في شئون الدولة من قبل المجتمع الدولي بأرسال الاف القوات الاجنبية الى السودان لحماية شعبه من حكومته التي تمارس قتله "عبادة لله". وهكذا فرغم ان الاسلاموية السودانية تمتعت بسلطة سياسية مطلقة على الاقل خلال 24 سنة من 30 سنة كانت فيها على سدة الحكم، الا ان مشروعها انتهى الى فشل وقاد الدولة السودانية الى حافة الانهيار الشامل، ذلك للسببين المذكورين اعلاه .
نشأة وتطور الاسلاموية السودانية
لعل الحركة المهدية التي حكمت السودان في الفترة 1885م الى 1898م كانت اول حركة سودانية ينطبق عليها المفهوم الاسلاموي. فهي حركة دينية سياسية لها رؤية اسلاموية اقصائية، وزعم قائدها محمد احمد المهدي ان رؤيته للاسلام هي الاسلام الصحيح وما عداها باطل، وقام بإلغاء كل المذاهب والطرق الصوفية في الدولة، واجبر الجميع للانصياع الى رؤيته وتكفير من لا يؤمن به، حيث يقول في احدى رسائله: " ... وقد اخبرني سيد الوجود صلي الله عليه وسلم من شك في مهديتك فقد كفر بالله ورسوله ..." [10, p. 66].
اما حديثاً فقد انتقلت الاسلاموية الى السودان من حركة الاخوان المسلمين في مصر عن طريق الطلاب السودانيين الذين كانوا يدرسون بمصر. ففي اربعينيات القرن الماضي بدأ الطلاب العائدين من مصر في تكوين الجماعات الاسلاموية بالسودان على نسق جماعة الاخوان المسلمين المصرية وقد انتهجت في بدايتها العمل الدعوي التربوي والاجتماعي على نفس نمط الجماعة المصرية. وفي النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي ظهرت قيادات جديدة للحركة ابرزها د. حسن الترابي الذي استطاع ان يغير في استراتيجياتها ومنهجيتها من العمل الدعوي والمجتمعي الى العمل السياسي المنفتح على كل قطاعات وفئات المجتمع من طلاب ونساء ونقابات، فتحولت من حركة دعويه صغيرة الى ثالث اكبر الاحزاب السياسية السودانية وفق اخر انتخابات ديمقراطية في العام 1986م.
يرى منظرو الحركة الاسلاموية السودانية انها حركة احياء وتجديد للإسلام ورسالتها تتخطى الحدود القطرية للسودان والمحيط الاقليمي الى كل العالم. فقد كانت غايتها تعريب واسلمة السودان واقامة الحياة الاسلامية الكاملة به وتقديم مشروعها كنموذج حضاري للعالم اجمع. حيث يقول د. الترابي زعيم الحركة في حوار معه خلال عام 1984/1985م: "أن الصراع في أفريقيا صراع حضاري بين العروبة والإسلام من جهة، وبين الشرق والغرب من جهة أخرى، وإذا أصبح السودان عربيّاً مسلماً خالصاً، سيقلب موازين القوى في المنطقة"، كما يري انه " لا بد للنهوض من استكمال شروط اليقظة الروحية، والصحوة الفكرية، والنهضة الحركية، وبذلك نكون قد استكملنا توبتنا من ماضي الانحطاط، واستقبلنا توجهنا نحو دورة حضارية تتقدم بالمسلمين نقدمها إلى العالم أجمع" [11]. و في حوار آخر معه خلال عام 1988م يقول د. الترابي عن استراتيجيات واهداف حركته ابان مشاركته في نظام مايو: "لا يمكن لعاقل ابدا ان يطالبنا برفض تحريم الخمور في البلاد او تطبيق الحدود بدعوى ان نميري غير صادق مثلاً، انما التصرف الحكيم حينئذ هو توظيف هذه الخطوات للتقدم في الدرب الاطول، اقامة الحياة الاسلامية بكل معالمها ومقوماتها"، ثم يقول "اما مرحلة الانتشار فكنا نريد بها النفاذ الى مواقع النفوذ والتوجيه، عندما انخرطنا في حركة المجتمع كانت لابد من خطوة جادة اخرى نحو اهدافنا وتطبيق برامجنا، وكانت استراتيجية الانتشار في خطتنا لذلك، وهو انتشار شامل وفي الساحات المؤثرة في مصير البلاد، وهو تمهيد لمراحل متقدمة من التمكن بمعني ولاية السلطان واستكمال كل ابعاد المثال الاسلامي للمجتمع" [1, p. 41,42].
في مسيرتها بين العام 1964م الى 1989م كانت الحركة الاسلاموية السودانية قد حققت نجاحات سياسية بيّنة، وخلال هذه الفترة لم تستبعد أي وسيلة في سبيل الوصول الي اهدافها. فقد تبنت العمل المسلح ضد نظام مايو ضمن ما عُرف بالجبهة الوطنية، ثم تحالفت مع نظام مايو الديكتاتوري الاشتراكي وشاركت معه في الحكم بعد فشل الجبهة الوطنية في تحقيق اهدافها. كما انها لم تستنكف الاستفادة من الاساليب والمنهجية التنظيمية التي كان يتبعها خصمها العلماني الحزب الشيوعي السوداني. وفي حركة اندفاعها وتطورها لم تحرص على ضرورة ان تحتكم وسائلها الى القيم والمبادئ الاخلاقية، لعلها كانت تري ان اهدافها اسمي من تقييدها بالقيم الاخلاقية للوسائل. فقد اوضحت مسيرتها انها لا ترى في خيانة الامانة ولا العنف ولا القتل ولا الكذب ولا التزوير غضاضة طالما ان ذلك سيمكٍّن للاسلاموية في النهاية.
النجاح الذي حققته الحركة الاسلاموية في الفترة من 1964م وحتي استيلاءها على السلطة عن طريق انقلاب عسكرى في 1989م يعود في احد جوانبه الى نهجها البراغماتي في التعامل مع معطيات الواقع السياسي، والتنظيم الجيد والقائم على العمل السري. ويمكن ايجاز اهم عوامل هذا النجاح في الاتي:
1- المشاركة في نظام نميري: بعد فشل انقلاب الجبهة الوطنية على نظام نميري في العام 1976م، اتجه التنظيم الاسلاموي الى المشاركة في نظام نميري عبر ما عرف بالمصالحة. وكانت المشاركة في نظام نميري احدي "تكتيكات" الحركة الاسلاموية البراغماتية والتي مكنتها من الانتشار في المجتمع بالاستفادة من وجودها داخل السلطة، يقول د. الترابي [1, p. 33]: "عندما دخلنا الى الاتحاد الاشتراكي كان مدخلنا كريها الى النفوس لذاته وما كنا لنقدم عليه لو لا انه كان جزء من خطتنا للوصول للمجتمع الواسع في الريف وفي الجنوب وفي التجمعات الشعبية والعمالية"، ثم يستطرد في ذات السياق [1, p. 34]: "الذي نلتمسه ونتوخاه هو الحرية للحركة لأنه شرط اساسي في تنفيذ سائر اركان الاستراتيجية ومراحلها، وركزنا على هذا المعني حتى لا ينشغل اعضاء الحركة ولا يلتهون بالتساؤل عما نحققه للنظام ذاته (نظام نميري) وترشيد سياساته لأننا ما كنا معولين على النظام او الاصلاحات المباشرة العاجلة فيه بل على مد جذور الحركة داخل المجتمع السوداني فعليها بطبيعة منهجها المعول في الاصلاح الحاسم ولو كان آجلاً".
2- التسلل الى داخل الجيش السوداني: كانت الاسلاموية السودانية ترى ان الجيش مؤسسة علمانية وستقف حائلا في تحقيق اهدافها، وبالتالي كانوا يرون ضرورة اسلمة هذه المؤسسة. لذلك اتجهت الحركة منذ نهاية السبعينات بعد اشتراكها في الحكم مع نظام مايو في اختراق الجيش وتكوين خلايا اسلاموية في بنيته الامر الذي مكنها من النجاح في الانقلاب الذي قادته في 1989م. ذلك ما يؤكده احد الباحثين حيث اورد: "لقد حقق الاخوان من خلال تعاونهم مع النميري فترة طويلة بعض الاهداف الحيوية من اهمها اختراق الامن والجيش"، ثم يضيف: "من مكاسب الجبهة التي نالتها بتعاملها مع نظام النميري لمدة ثمانية سنوات كاملة، انها تعرفت على بنية الجيش الداخلية، ووزعت بعض العناصر في مواقع مختلفة، واستمالت بعض القيادات باستخدام اساليب متنوعة" [12, p. 285].
3- السيطرة على الاقتصاد: نجح الاسلامويون من خلال تواجدهم في مفاصل نظام نميري في الاستفادة من البنوك والمؤسسات الاسلامية التي بدأت في الظهور منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي والسيطرة عليها، واصبح لهم تأثير في الحركة الاقتصادية خلال الثمانينات. وبعد استيلائهم على السلطة في 1989م اصبحت الحركة الاقتصادية في السودان خاضعة تماماً للسيطرة الاسلاموية.
4- السيطرة على الاعلام: استفادت الحركة الاسلاموية من مناخ الحريات في السودان عقب انتفاضة 1985م، فبدأت في بناءه آلة اعلامية ضخمة بعدد من الصحف الورقية ثم توسعت خلال الثلاثين سنة الماضية بدعمها من مال الشعب بعدد من القنوات الفضائية ومزيد من الصحف الورقية والالكترونية وجيش من الصحفيين المنتفعين والانتهازيين. وعملت هذه الآلة الاعلامية على التأثير في الراي العام من خلال تغبيش الحقائق وتدليسها او حتي صناعة وبث الاخبار الكاذبة والشائعات، بغرض التمهيد لانقلابها. و بعد نجاح الانقلاب عملت لخدمة توجهات السلطة الاسلاموية لتثبيت اركانها.
الاحزاب الاسلاموية مثلها مثل بقية الاحزاب السودانية مصابة بجملة من امراض وعاهات السياسية المزمنة. فالاحزاب السودانية تعاني ضعف الممارسة الديمقراطية، وقصور الرؤية والانكفاء الحزبي وتغليب مصالحها الحزبية على المصلحة الوطنية، وانانيتها المفرطة، والتصلب وعدم المقدرة على بلورة حد مشترك للتوافق مع الآخر ... الخ، ولكن الاحزاب الاسلاموية تنفرد بعاهتين اضافيتين هما: الانتماء العقائدي المتعصب، والعنف الدموي.
انتماء العضوية في التنظيم الاسلاموي يفوق أي انتماء اخر، فعلاقة الاسلاموي بأعضاء التنظيم الاخرين قد تفوق علاقته باهل بيته، وانتمائه للتنظيم يفوق انتمائه لوطنه، وهذا ما جلب للسودان جملة من المشاكل الكارثية ابان العشرية الاولي من الحكم الاسلاموي. فقد تربي الاسلامويون على ان "لا وطن للمسلم الا الذي تقام فيه شريعة الله ... ولا جنسية للمسلم الا عقيدته ... ولا قرابة للمسلم الا تلك التي تنبثق من العقيدة في الله ... ليست قرابة المسلم اباه، وامه واخاه، وزوجته وعشيرته، ما لم تنعقد الاصرة الاولي في الخالق فتتصل من ثم بالرحم" كما يقول سيد قطب [2, p. 138]. هذه التربية ربما تفسر سر عداوة الاسلامويين غير المفهومة ضد بني جلدتهم من السودانيين غير الاسلامويين في مقابل مشاعر الود تجاه حركات اسلاموية خارج السودان. فبينما كانت الاسلاموية السودانية تقدم كل الدعم المادي والسياسي لحركات اسلاموية مثلها في خارج البلاد، وتتضامن مع مسلمين في اقاصي الدنيا عندما يتعرضون للانتهاكات، ظلت تمارس القتل والابادة على المسلمين من بني جلدتهم من السودانيين وتشرد اخرين من وظائفهم. فهذا الانتماء العقائدي العابر للحدود هو ما جعل السودان المكان المفضل للجماعات الارهابية من كل حدب وصوب، حيث وجدت الملاذ الامن والرعاية الكاملة من السلطة الاسلاموية، ودخل السودان بسببه في عزلة دولية وفقر وانهيار اقتصادي لا زال يعاني منه ويدفع فاتورته حتي الان.
كما اتسم اسلامويو السودان بانتهاج العنف والدموية للوصول الى اهدافهم وفي مواجهة خصومهم وهي وسائل تتنافي مع الطابع السلمي للانسان السوداني. ومرد ذلك يعود الى تربيتهم الجهادية والقائمة على وهم انهم دوما في جانب الاسلام الحق والاخرين على باطل، وان عليهم واجب مقدس في حماية بيضة الاسلام، ما يحتم عليهم الجهاد واستخدام كل الوسائل لتحقيق ذلك، يقول د. الترابي: " المعول والواجب الاول انما هو على الجماهير ان تأخذ الدين بقوة وتحمل في سبيله ضغوط المدافعة السياسية للباطل القائم في حال الحرية والسلام او دفوع المجاهدة الثورية في حالة الكره والصدام للجبروت او العدوان"[13] . والحركة الاسلاموية لا تنفي انتهاجها العنف الدموي كوسيلة للوصول الى اهدافها بل تدعو منتسبيها الى ذلك صراحة من خلال شعارها الذي ينص بوضوح على ذلك، "في سبيل الله قُمنا .. نبتغي رفع اللواء، لا لدنيا قد عملنا .. نحن للدين فداء، فليعُد للدين مجده .. أو ترق منَّا دماء، أو ترق منهم دماء.. أو ترق كل الدماء".
فمنهج التربية الذي يخضع له الاسلاموي منذ الصغر من خلال الاهازيج والشعارات الاسلاموية والمحاضرات وربط العنف بالجهاد، جعل العنف جزء اساسي من المنهج الاسلاموي ومن تركيبة منتسبي التنظيم. فكان من البديهي ان يدير الطلاب الاسلامويين خلافاتهم السياسية والفكرية في الجامعات عن طريق "السيخ" والاسلحة البيضاء واحياناً النارية. وعندما يصل هؤلاء الى مواقع القيادة يصبح من الطبيعي ان يتبعوا نفس المنهجية التي تربوا عليها ويكون العنف بالنسبة لهم هو الطريق الافضل للوصول الى السلطة وفي ادارة الدولة وفي حل الخلافات. لذا نجد ان فترة الثلاثين السنة التي امتدت من 1989م الى 2019م كانت من اكثر الفترات دموية في تاريخ السودان الحديث، حيث قتل مئات الالاف وشرد الملايين، وقد ظهرت ممارسات واصطلاحات جديدة في القاموس الاجتماعي والسياسي السوداني لم تعرف في تاريخه الحديث. فلم يعرف السودان قبل الحكم الاسلاموي عمليات الاغتيال السياسي والتصفية الجسدية، ولم يألف السودانيون المقابر الجماعية، ولم يمارسوا أي نوع من الابادة الجماعية ضد أي مجموعة سكانية قبل ان تحكم الاسلاموية سيطرتها على السودان، وكانت كل المجموعات السكانية السودانية منذ القدم تتعايش سلمياً، بل استوعب السودانيون كثير من المجموعات السكانية الوافدة من مناطق وقارات اخري وتزاوجوا معهم.
الاسلاموية السودانية والفجوة الاخلاقية
الحركة الاسلاموية السودانية لم تبرهن على مستوي الممارسة العملية انها تتكي على قيم ومبادئ اخلاقية تحكم عملها لا على المستوي التنظيمي ولا على مستوى القيادة ولا على مستوى العضوية التي تولت زمام السلطة، هذا بالرغم من ان مرجعيتها هي مبادئ الاسلام. ورغم ازمتها الاخلاقية هذه وعَوَزها القِيَمي نجدها قد جعلت من نفسها وصية على المجتمع ومسئولة عن تربيته وتأديبه. فقد استغلت سلطتها المطلقة على الدولة السودانية لفرض مشروعها الحضاري المُدَعى، والزام المجتمع السوداني المتعدد الثقافات بالتقيد به في سائر نشاطه الاجتماعي والاقتصادي من خلال سن قوانين تزعم انها اسلامية، ولكنها في نفس الوقت تركت الحبل على الغارب لمنسوبيها يعيثون في الارض فساداً دون حسيب او رقيب. ولعل هذا الفجوة الاخلاقية التي يعاني منها التنظيم الاسلاموي والتي حولت السلطة في السودان الى مستنقع عميق للفساد تعود الى جملة من العوامل، اهمها:
1- التوسع العشوائي في العضوية: قد تكون هذه الفجوات الاخلاقية في بنية التنظيم الاسلاموي قد وجدت معه منذ النشأة، ولكن من المؤكد ان تبني سياسة التوسع الكمي في عضوية الحركة بغض النظر عن الكيف ابّان سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، قد ساهم في تضخم هذه الفجوة. يقول د. الترابي ان فينا من تربي في الحركة الاسلامية لمدة 30 سنة ولكنهم فسدوا حينما تولوا السلطة، وقد اقر ان احد اخطاءهم في السلطة هو استشراء الفساد في الدولة تحت سمعهم وبصرهم وهم عاجزون عن التصدي له [14].
2- نهج التربية: فقد تربي الاسلاموي على التدين الظاهري والالتزام بشعائر الدين ولكنه لم يتربى على جوهر الدين وقيمه الأخلاقية. فحِرص الاسلاموي على اداء الشعائر لم يمنعه من ان يفسد ويظلم ويكذب ويخون الامانة ويقتل. فاستنزاف هذا القدر الكبير من الطاقة الدينية في اداء الشعائر والاهتمام بها دون ان ينعكس ذلك على حسن الخلق وسمو القيم لأمرٍ مُحيِّر.
3- افتقاد التنظيم مبدأ الشفافية والمحاسبية: رغم نجاح الحركة الاسلاموية في بناء تنظيم استطاع ان يحقق انجاز كبير في الديمقراطية الثالثة وتمكن من قيادة انقلاب ناجح والاستيلاء على السلطة، الا انه لم يهتم قط بتطوير آليات رقابية تضبط ممارسة منسوبيه الاخلاقية، وغابت عنه تماماً مبادئ الشفافية والمحاسبية. فلما وجد هؤلاء انفسهم في مواقع السلطة كانت شهوة الثروة والسلطة اكبر من ان تكبحها قيمهم الاخلاقية الضامرة فسقطوا في مستنقع الفساد في غياب تام للمحاسبية. ولعل عبارة "خلوها مستورة" التي رد بها القيادي الاسلاموي د. علي الحاج محمد على من اتهمه بالفساد من بعض منتسبي التنظيم ابان توليه وزارة الحكم الاتحادي قبل المفاصلة تدلل على تفشي الفساد وغياب مبدأ المحاسبية بالتنظيم.
وكانت من نتائج هذه الازمة الاخلاقية:
1- المؤامرة التي ادت الى انقلاب 1989م كانت سقوط اخلاقي للتنظيم الاسلاموي قبل ان تكون خيانة للعهد والميثاق والذي تقتضيه الديمقراطية التي التزمت بها. وهذا النهج التأمري واللاأخلاقي هو ما شكل المنهج الذي سارت عليه عضوية التنظيم في ادارة دولاب الدولة فيما بعد الانقلاب، فماذا نتوقع من القاعدة اذا قام قادة التنظيم بسرقة دولة تحت جنح الظلام؟ فقد كان حزب التنظيم الاسلاموي ثالث اكبر حزب مشارك في تلك الديمقراطية الموءودة وله نصيب في السلطة التنفيذية اضافة الى منصب النائب الثاني لرئيس الوزراء. فلم يكن هنالك أي مبرر لهذه الخيانة سوي ان الحزب الاسلاموي تنظيم اقصائي بطبعه ويهدف الى الانفراد بالسلطة لفرض مشروعه بكل الوسائل بغض النظر عن مشروعية هذه الوسائل. فالمؤامرة التي دبرها مجلس شوري التنظيم الاسلاموي للإطاحة بسلطة دستورية شرعية كانت سقطة كبري وجريمة اخلاقية مركبة، تجعل كل فرد من اعضاء مجلس الشوري الاسلاموي كاذب، ومتجسس على اسرار الدولة، وخائن للأمانة لمن كان منهم مسئولاً حكومياً حينئذٍ، وهي صفات لا تليق بالمسلم العادي دعك لمن يزعم حماية الاسلام، ولم يكن هنالك أي ضرورة لكل ذلك، فالغاية مهما سمت لا تبرر الوسيلة.
2- قامت ثلة من قيادة التنظيم الاسلاموي بسرقة اكثر من مليون دولار من اموال التنظيم دون علم زعيم التنظيم، واستغلاله في تدبير اغتيال الرئيس المصري في العام 1995م، وعندما فشلت المحاولة وعلم زعيم الحزب بالأمر اضطر هو ايضاً لتوريط نفسه والاشتراك في هذا الجرم بتدبير سلسلة من الاجراءات شملت الكذب وربما التزوير لتهريب بعض المنفذين الذين كانوا قد عادوا الى السودان بعد فشل المحاولة، بدلاً عن تسليمهم الى اثيوبيا، ذلك لطمس معالم الجريمة وابعاد التهمة عن النظام الاسلاموي في السودان، وهذا موثق بلسان زعيم التنظيم في الوسائط الالكترونية [15]. فهل هنالك اكبر من الكذب ومن القتل خارج القانون. فأين كانت اخلاق الاسلام من هذه الممارسات؟
3- المحسوبية وسياسة شراء الذمم: قد درجت السلطة الاسلاموية ولتثبيت اركان سلطتها في مفاصل الدولة واضعاف خصومها من المعارضين وتقسيمهم وإسكاتهم وكسبهم الى جانبها، اتباع سياسة شراء الذمم من خلال التوزير وبذل المناصب القيادية في الدولة لضعاف النفوس من المعارضين السياسيين وحملة السلاح، وشراء ذمم الصحفيين بالمال والمناصب وتمكين كل من يستجيب للابتزاز من رجال الاعمال والرياضيين واهل الفن وكل انتهازي طامح يمكن الاستفادة منه بالامتيازات والتسهيلات. وامتد الفساد الى الخدمة المدنية، حيث اصبحت فضاءً لممارسة الانتهازية والمحسوبية والثراء غير المشروع، وباتت الوظيفة والترقي الوظيفي ثمناً لضمان الولاء ولخدمة الاجندة الاسلاموية. كل ذلك جعل من التنظيم الاسلاموي في السودان مكباً للنفايات البشرية من الانتهازين الطامحين والفاسدين وعديمي القيم. مكباً ظل يتوسع مع تطاول سني الحكم الاسلاموي، حتي اضحى مستنقعاً ضخماً وعميقاً للفساد.
4- سياسة التمكين: وهي السياسة التي تبنتها السلطة الاسلاموية دون أي مسوغ قانوني، حيث صنفت المجتمع السوداني الى فئة مرضي عنها، لها كل الحقوق واكثر، وفئة اخرى من "شذاذ الافاق"، لا تستحق حتى الوظيفة، فقامت بناءً على ذلك بتشريد الالاف من وظائفهم واحلال منتسبي التنظيم الاسلاموي في اماكنهم. كما جعلت مدخل كل من الخدمة المدنية والعسكرية بوابة لا يمكن ان يمر عبرها الا الاسلامويون ومن شايعهم. وكل ذلك من الظلم البيٍّن الذي لا تقره الاخلاق ولا القوانين ولا الاسلام الذي تدعي الاسلاموية انها جاءت لتطبيقه.
5- البطش بالمواطن دون مسوغ قانوني: الاسلاموية لا تعرف الحلول التوافقية التي تحفظ حدا من المكاسب للجميع ولا تعرف التعايش مع الاخر، فهي دائما تملك الحقيقة المطلقة كما تتوهم، وعلى الاخرين الانصياع لها والويل لمن يعارضها. فهي لا تتورع عن استخدام كل الاساليب غير الاخلاقية والعنيفة والقاتلة مع معارضيها، بدءاً من التضييق في الرزق، الفصل من الوظيفة او التهميش الوظيفي، وفي حالات متقدمة قد تلجأ لاغتيال الشخصية بالتآمر الذي برعت فيه، اما في الحالات التي تري فيها خطرا حقيقياً عليها تقوم بالاعتقال وممارسة ابشع انواع التعذيب، أو الإخفاء القسري والتصفية الجسدية. فعمليات القتل خارج اطار القانون الذي ظل يمارسه الاسلامويون ضد كل من يعارض سياساتهم، والانتهاكات من قتل واغتصاب وابادة للشعب السوداني في مناطق السودان المختلفة والتي مارستها الميليشيات التي صنعتها ورعتها الحركة الاسلاموية كانت من ابرز سمات الحكم الاسلاموي في السودان.
6- تفشي الفساد وتقنينه: استغلت السلطة الاسلاموية الدين في تقنين الفساد وتوفير حماية وغطاء قانوني للفاسدين. فمادة "التحلل" المستنبطة عما عُرف بفقه "السترة" والواردة في قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه، فتحت الباب واسعاً لفساد رجال السلطة، حيث يسرق المسئول ما شاء له من مال الشعب، وعندما يفتضح امره يُسترد اصل ما سرقه او بعضه ثم يتم العفو عنه، وهكذا تحولت مفاصل السلطة الى مستنقعات من الفساد اهدرت فيها مقدّرات الدولة.
فشل المشروع الاسلاموي
بعد ان نجحت مؤامرة الانقلاب وخدعة القصر والسجن الشهيرة، بدأت المرحلة الاسوأ في التاريخ السوداني الحديث وربما في كل تاريخه المعروف. فبدأت عداوة غير مفهومة ضد كل من لا تربطه علاقة بالاسلاموية، وصدرت المراسيم والقوانين لفرض المشروع الحضاري المزعوم، وتثبيت اركان السلطة المطلقة، ثم ظهر الفساد في البر والبحر والجو واعماق الارض، فانهارت تحت معاوله اعمدة الاقتصاد السوداني الواحد تلو الاخر، مشروع الجزيرة والسكة حديد والخطوط الجوية السودانية والنقل النهري ومؤسسات الحكومة الرقابية منها والخدمية والتجارية والصناعية (النقل الميكانيكى، الحبوب الزيتية، الاقطان، السكر، ... الخ)، وتفرقت عوائدها المالية بين القبائل الاسلاموية. وبعد تدمير هذه المؤسسات تضخمت آلة الفساد وتوسع مجال عملها ليشمل كل مرافق الدولة حتي كادت ان تتحول الدولة السودانية الى ملكية خاصة باسم حفنة من الاسلامويين. وكانت يد البطش بالمرصاد لكل من يقل لا، فالاسلاموية لا تعرف الا العنف كلغة للحوار، فهي تحول كل مشكلة الى مقتلة او هدر لكرامة الانسان في معتقلاتها، وكل احتجاج سلمي الى مجزرة، وكل احتجاج مسلح الى حرب ابادة جماعية، وهكذا تحت هذه السياسة تحولت البلاد الى بؤرة حروب اهلية راح ضحيتها في حروب دارفور وحدها 300 الف قتيل حسب الامم المتحدة، و10 الف قتيل حسب الرئيس المخلوع، وملايين النازحين واللاجئين.
فالاسلاموية السودانية لم تفشل فحسب بل شوهت صورة السودان الناصعة والخالية من أي سوابق سالبة تجاه المجتمع الدولي وقدمته في اقبح صورة، وحولته من دولة في حجم قارة تنعم بالسيادة الكاملة وباحترام المجتمع الاقليمي والدولي الى دولة مبتورة الاطراف ومنبوذة ومعزولة عن العالم ومنقوصة السيادة وعلى حافة الانهيار الاقتصادي. لعل الحقائق والمؤشرات التالية توضح الى اين قادت هذه التجربة المدمرة السودان:
1- التفريط في سيادة الدولة: منذ صدور القرار رقم (112) في 6 فبراير 1956م بقبول السودان عضوا بالأمم المتحدة، لم يتم قط تداول اسم السودان في اروقة مجلس الامن الدولي لا بالخير او الشر وظل السودان يحظى باحترام المجتمع الدولي حتى 1989م. بعد ان استولت الحركة الاسلاموية على السلطة في 1989م بات السودان "زبوناً" دائماً بأروقة مجلس الامن الدولي كأحد اشرار العالم الجدد ومهدد للامن والسلم الدوليين. فكانت اول القرارات الدولية ضد السودان في العهد الاسلاموي هو القرار رقم (1044) الصادر عن مجلس الأمن في 31 يناير 1996م، والذي امهل النظام الاسلاموي 60 يوماً لتسليم ثلاثة مطلوبين مصريين متّهمين بمحاولة اغتيال الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك في أديس أبابا، وقد صدر هذا القرار بناءً على شكوى مقدَّمة من قِبل أثيوبيا إلى مجلس الأمن، متَّهمة السودان بإيواء المطلوبين الثلاثة. وعندما لم يلتزم النظام بتنفيذ القرار المذكور، اعتبر مجلس الأمن أن عدم امتِثال السودان للقرار يُعدّ تهديداً للسِّلم والأمن الدولييْن، فأصدر المجلس قراره رقم (1054) في 26 أبريل 1996م، والذي فُرٍضت بموجبه عقوبات مخفّفة على السودان طالت الجانب الدبلوماسي. وفي عام 1996، ونظراً لأن حكومة السودان لم تقُم بتسليم المتّهمين الثلاثة إلى أثيوبيا، كما طلب منها ذلك مجلس الأمن ومنظمة الوِحدة الإفريقية، أصدر مجلس الأمن قراره رقم (1070) في 16 أغسطس 1996م، حيث تمّ تشديد العقوبات المفروضة على السودان، وذلك بفرض حظْر على الرّحلات الخارجية للطيران الوطني. وكان هذا بداية انهيار الناقل الوطني . ثم توالت قرارات مجلس الامن فيما يتعلق باتفاقية نيفاشا وانتهاكات الحرب في دارفور والمحكمة الجنائية الدولية حتي تعدي عدد قرارات مجلس الامن في الفترة 1989م الى 2019م على السودان 100 قراراً منها ما صدر تحت الفصل السابع [16]. كل ذلك جعل من السودان دولة مارقة عن الاجماع الدولي ومنقوصة السيادة ورئيسها ملاحق دولياً لا يستطيع ممارسة عمله خارج بلده.
2- رعاية الارهاب: في سياق توجه النظام الاسلاموي وسياساته غير الناضجة والعدائية لمحيطه الاقليمي وللغرب والشرق معاً والتي ظل يتبناها منذ استيلاءه على السلطة، جعل النظام من السودان ملاذا للاسلامويين المتشددين، ومن ابرزهم اسامة بن لادن في 1991م، والمجرمين المطلوبين دوليا من امثال ذلك المعروف باسم كارلوس. وفي بدايات عام 1992 قام النظام الاسلاموي السوداني بإلغاء تأشيرة الدخول عن المواطنين العرب، وإنشاء ما عُرف بالمؤتمر الشعبي العربي الإسلامي في أبريل 1992، ليصبح السودان ملجأ للتنظيمات الاسلاموية المتشددة من كل الدول العربية وما يزيد عن ثلاثين دولة إسلامية أخرى. وكان ذلك كافياً لتقوم الولايات المتحدة الامريكية بوضع السودان على قائمتها للدول الراعية للإرهاب في العام 1993م، ثم فرض عقوبات اقتصادية وتجارية عليه في 1997م استمرت لعشرين عاما، الامر الذي كبل الاقتصاد السوداني وعزله عن الاقتصاد العالمي حتى الان، وجعله على حافة الانهيار.
3- التفريط في وحدة البلاد: كان النزاع بين متمردي اقليم جنوب السودان والحكومة المركزية والتي بدأت شرارتها في العام 1955م بسبب مطالب سياسية وتظلمات متعلقة بالتنمية والثروة والسلطة والحريات، واقصي ما كان يطمح له المتمردون هو الحكم الفيدرالي او أي شكل من اشكال الحكم الذاتي لجنوب السودان. ولكن ما ان استولت الاسلاموية على السلطة في السودان حتى حولت هذا النزاع الى حرب جهادية دينية راح ضحيتها الملايين بين قتلي ولاجئين ونازحين، مما ادى في نهاية الامر لانفصال الاقليم والذي يبلغ ثلث مساحة السودان قبل الانفصال. كما فرط النظام الاسلاموي في مثلث حلايب وسمح للنظام المصري باحتلاله بعد المحاولة الفاشلة التي قام بها لاغتيال الرئيس المصري. ولعل اعظم جريمة ارتكبها النظام الاسلاموي في حق السودانيين شمالاً وجنوباً - و سترتبط به على مر التاريخ - هي تفريطه في وحدة السودان.
4- الانهيار الاقتصادي: لم يكن النظام الاسلاموي يملك رؤية محددة في ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية، فكل ما قام به بعد استيلاءه على السلطة هو ان خلط ما بين سياسة التحرير الاقتصادي وبين ما اسماه بالصيغ الاسلامية في المعاملات المصرفية وشركات التأمين. فسياسة التحرير الاقتصادي التي تبنتها السلطة الاسلاموية في السودان لم تأتي من منظور اقتصادي موضوعي وانما طبقت كنوع من التمويه واخفاء الوجه الاسلاموي للانقلاب، وذلك حتى يظن الخارج ان من قام بالانقلاب ما هم الا مجموعة من العسكريين المفتونين بنموذج الاقتصاد الغربي، حسب ما ادلى به د. الترابي في برنامج شاهد على العصر [17]. ان تكون السياسات الاقتصادية مجرد "تكتيك" لإخفاء هوية الانقلاب بدلا من يكون الغرض منها بناء اقتصاد قوي للدولة، ينم عن عقلية الاستخفاف والاستهانة لدي الاسلامويين في امر يتعلق بمسئولية ادارة دولة. ونتج عن هذا الاستخفاف فوضي وتخبط اقتصادي قاد البلاد في نهاية الامر الى حافة الانهيار الاقتصادي، وابرز مؤشرين لذلك: تصاعد الدين الخارجي وتدهور قيمة العملة. فعند استيلاء التنظيم الاسلاموي على السلطة في 1989م كانت جملة ديون السودان 13 مليار دولار امريكي وعند سقوطها في ابريل 2019م تضاعفت هذه الديون الى 58 مليار دولار امريكي، هذا بالرغم من وجود عائدات جيدة من البترول والذهب خلال هذه الفترة كان يمكن الاستفادة منها في تقليص هذا الدين بدلاً من تصاعده. اما بالنسبة للعملة فقد كان كل واحد دولار امريكي يعادل 12 جنيه سوداني (قديم) في 1989م، ونتيجة للتدهور الاقتصادي اصبح كل واحد دولار امريكي يعادل 90562.5 جنيه سوداني (قديم) في 10 ابريل 2019م، أي ان قيمة الجنيه السوداني تدهورت تحت ظل السلطة الاسلاموية بمقدار 7547 مرة، وهذا يعكس بجلاء ما وصل اليه حال الاقتصاد السوداني من تدهور خلال 30 سنة من الفساد وسوء الادارة.
5- انهيار الخدمة المدنية: في العهد الاسلاموي اصبحت الوظيفة في الخدمة المدنية خاضعة لمعيار الولاء السياسي من خلال ما عرف بالتمكين، وتفشت المحسوبية والثراء الحرام المحمي بقانون "التحلل"، كما باتت الوظيفة والترقي الوظيفي ثمناً لشراء ذمم الانتهازيين وضمان ولاءهم لخدمة المشروع الاسلاموي. ومن البدع التي ابتدعها التنظيم الاسلاموي هو جعل منصب وكيل الوزارة منصب سياسي يتم بالتعيين من رئيس الجمهورية مثله مثل المناصب الدستورية، وهو في الاصل منصب مهني يتم الوصول اليه بالترقي الوظيفي تدريجاً من القاعدة وليست له علاقة بالسياسة او الحزب الحاكم. كما انتشرت ظاهرة العقود الخاصة في مؤسسات الخدمة المدنية وهي نوع من الفساد المقنن يتيح للمتعاقَد معه جملة من الامتيازات الضخمة كانت مصدراً لثراء بعض منتسبي التنظيم الاسلاموي دون وجه حق. ومع كل هذا الفساد كان من الطبيعي ان تنهار الخدمة المدنية في السودان في العهد الاسلاموي وتفقد النزاهة والانضباط والمؤسسية التي عرفت بها. فقد كانت الخدمة المدنية السودانية نموذجاً للانضباط والتنظيم والنزاهة ومضرباً للمثل في المنطقة الافريقية والعربية في حسن التنظيم قبل ان تسقط في مستنقع الفوضى والفساد الاسلاموي.
6- اضعاف المؤسسة العسكرية: عندما استولت الحركة الاسلاموية على السلطة في 1989م كان هنالك جيش سوداني واحد منظم ومنضبط، ولكن بعد 30 سنه من سلطة الفوضي والفساد والاستبداد اصبح هنالك اكثر من جيش في وضع يهدد الأمن والاستقرار ويعكس فوضي الدولة السودانية. فاذا علمنا ان كل من هذه الجيوش له مؤسساته الاقتصادية الخاصة به والمستقلة عن وزارة المالية، ومع ضعف السلطة في فرض هيبة الدولة امنياً واقتصادياً وعدم المؤسسية فان الوضع السوداني اصبح في العهد الاسلاموي اقرب الى اللادولة منه الى الدولة. فانخراط الجيش خلال السلطة الاسلاموية في العمل الاقتصادي وتوجيه جزء مقدر من نشاطه نحو الاستثمار في الزراعة والصناعة والتعدين ادي الى اضعاف قدرات الجيش القتالية وتحويله الي مؤسسة اقتصادية. ولدعم قدرات الجيش القتالية انشأت السلطة ما يعرف بقوات الدفاع الشعبي ولاحقا وسعت مهام جهاز الامن بأنشاء قوة عسكرية مقاتلة تابعة له. كما قامت بمساعدة وتسليح بعض الميلشيات المسلحة غير المنضبطة والمكونة على اساس قبلي للاستعانة بها في حروبها الاهلية التي اشعلتها في اطراف السودان. ونتيجة لضعف السلطة والجيش تضخمت بعض هذه الميليشيات بفضل الامتيازات التي حصلت عليها من السلطة، واصبحت تملي شروطها على السلطة حتى تمكنت من الحصول على الاعتراف بها كقوة عسكرية مستقلة وموازية للجيش باسم قوات الدعم السريع، وهذا وحده يوضح فوضي التشريع والضعف واللامؤسسية التي آلت اليه الدولة. فعند سقوط النظام في ابريل 2019م كانت هنالك اربعة قوى مسلحة تابعة للحكومة كل منها مستقل عن الاخر، هي: القوات المسلحة السودانية، وقوات الدعم السريع، وقوات هيئة العمليات بجهاز الامن، وقوات الدفاع الشعبي، اضافة الى ميليشيا سرية تابعة مباشرة للتنظيم الاسلاموي تعرف "بكتائب الظل" كان قد اقر بوجودها احد قادة التنظيم الاسلاموي في حديث تلفزيوني قبيل سقوط النظام. كما ان استقلالية بعض هذه الجيوش عن سلطة الحكومة في تحديد مشاركاتها في نزاعات مسلحة اقليمية، دمغ الجيش السوداني بصفة الارتزاق، في اهانة للجيش السوداني وتشويه لصفحته الناصعة وتجريده من الاحترام الذي كان يحظى به منذ استقلال السودان.
7- تدني مستوى التعليم: تعرض التعليم في مستوييه العام والعالي خلال الفترة الاسلاموية الى تخريب واسع شمل سنوات الدراسة، والسلم التعليمي، والمناهج. فقد تعرض التعليم العام لتشويه في سلمه التعليمي مع فرض مناهج تهدف لخدمة الايدولوجية الاسلاموية ومشروعها الحضاري اكثر من انها تنمي مهارات الطفل وتخدم اهداف التنمية في البلاد. فتقليص السلم التعليمي للتعليم العام من ثلاث مراحل من 6-3-3 (وهو الاكثر شيوعاً عالمياً)، الى مرحلتين 8-3 (وهو سلم شاذ)، مع انقاص الفترة الكلية للدراسة من 12 سنه الى 11 سنة، قد اضر كثيرا بالعملية التعليمية ومخرجاتها، فمعلوم ان معظم دول العالم تشترط 12 سنة على الاقل من التعليم العام قبل الدخول للتعليم الجامعي. هذا فضلاً عن انخفاض الميزانيات المخصصة للتعليم مع فتح الباب دون ضوابط صارمة للاستثمار في التعليم بمستوييه العام والعالي، والتوسع غير المدروس في التعليم العالي، واتباع سياسة التعريب، واهمال الكادر البشري الذي يقوم بالعملية التعليمية. كل هذه العوامل مجتمعة جعلت من التعليم سلعة لا يحظى بها الا من يستطيع شراءها في مجتمع يعاني غالبيته الفقر، مع تدني في مخرج العملية التعليمية والذي ظهر في تواضع مهارات ومقدرات التلميذ والخريج الجامعي وتدني مستوى الشهادة الثانوية ومستوى الجامعات السودانية، فحسب مؤشّر جودة التّعليم العالمي الصّادر عن المنتدى الاقتصادي في دافوس للعام 2019م، كان السودان خارج نطاق التقييم، وذلك لافتقاره معايير الجودة في التعليم [18]. ليس ذلك فحسب، فقد ادى فساد النفوس وعُقدها ان يعبث الاسلامويون بالقوانين واللوائح التي تنظم القبول للجامعات ومنح الدرجات العلمية المختلفة، واعادة تفصيل هذه القوانين وفق ما يُرضي نفوسهم لتتيح لهم تحقيق انجازات علمية متوهمة تزيد اسهمهم في بورصة التنظيم، حيث تتيح لهم هذه القوانين المستحدثة الحصول على درجات علمية تقاصرت مقدراتهم الذاتية عن تحقيقها في زمان المنافسة الحرة العادلة. ووفق هذه اللوائح والقوانين المعيبة، أصبحت الدرجات العلمية فوق الجامعية (ماجستير، دكتوراه) تمنح حتي لمن لم يتحصل على شهادة ثانوية، وهذا لا يحدث الا في السودان الاسلاموي. كما ان التساهل في ضوابط منح الرتب العلمية (استاذ، استاذ مشارك، ... الخ) لأعضاء هيئة التدريس بالجامعات وعدم ربطها بالإنجازات البحثية الرصينة، اضر بعملية البحث العلمي في الجامعات ومراكز البحوث، وبالتالي اضر بعملية التنمية في البلاد، حيث نجد انتشار كثيف لرتبتي الاستاذ (البروفيسور) والاستاذ المشارك في السودان الاسلاموي والذي لا يتناسب مع البحوث الرصينة المنجزة بالجامعات السودانية. فعدد البحوث العلمية المنشورة المدرجة في قواعد بيانات شبكة العلوم (*ISI) من السودان في الفترة من 2008م الي 2018م كانت 4379 بحث فقط، بينما كان العدد المقابل لكل من مصر والسعودية في نفس الفترة على التوالي 106891 بحث و112565 بحث، مع ملاحظة ان اجمالي البحوث المنشورة من كل الدول العربية في نفس الفترة كانت 410549 بحث [19]. هذا يوضح بجلاء ضآلة المنتوج البحثي الرصين في السودان الاسلاموي، ما يجعل الانتشار الواسع للدرجات العلمية فوق الجامعية، والرتب الاكاديمية بهذه الكثافة موضع تساءل، ويعكس خللاً بيِّناً في ضوابط منح هذه الدرجات العلمية والرتب الاكاديمية.
8- تجريف الريف وترييف المدينة: قبل 1989م كان قطاع واسع من الريف السوداني ينتج ما يكفيه من غذاءه الاساسي مما انعكس ايجاباً على اقتصاد الدولة. وعندما ما استولت الحركة الاسلاموية على السلطة، وبدلا من تنمية الريف ودعم المزارعين وتشجيعهم على الانتاج قامت بفرض جبايات عليهم. ففي اول سنة لها على السلطة فرضت على المزارعين في الشمالية تسليم ثلث انتاجهم من القمح للحكومة ودون أي مقابل، فاحجم الكثيرون عن الزراعة وهاجر البعض الي المدن للعمل في مهن هامشية وانشطة طفيلية غير منتجة، والبعض الاخر الى خارج السودان. هذه السياسات مع ما عُرف بسياسة التحرير حولت قطاع كبير من السودانيين سواء في المدن او الريف من منتجين الى مستهلكين واصبح الريف السوداني ينتظر حصته من الدقيق المستورد بعد ان كان ينتج غذاءه بنفسه فزاد العبء على اقتصاد الدولة. اما المدن السودانية فبعد ان كانت تتمتع بنظام اداري منضبط تقوم به البلديات في تنظيم شئون الاسواق والاحياء وتخطيطها وخدمة انسان المدينة في وجود فاعل للسلطة، تحول كل ذلك الي فوضى في العهد الاسلاموي. فالإسلامويون لم يهتموا بالتخطيط الحضري للمدن الذي يؤمن متطلبات سلامة البيئة والصحة العامة وانسياب الحركة المرورية وجمال المدن، بقدر اهتمامهم بالسطو على اراضي الدولة وتملكيها لمؤسساتهم ومنسوبيهم. فقد شهد عهدهم حملات واسعة لتشويه التخطيط الحضري للمدن بالتعدي علي الميادين في الاحياء- والتي هي ضرورة في تخطيط الحي - وتحويلها الي مباني لأغراض مختلفة وتحويل الاراضي الزراعية الي سكنية، كما كثرت التعديات على الاراضي الحكومية تحت سمع وبصر المسئولين دون ان يحركوا ساكناً (امثلة: التعدي على اراضي المدينة الرياضية بالخرطوم، والتعدي على اراضي جامعة وادي النيل بعطبرة)، واصبحت الاراضي زراعية كانت ام سكنية، اهم ميدان لفساد الاسلامويين. كما تلاشى وجود سلطة الدولة فأصبحت اراضي الدولة تتعرض لتعديات المواطنين في الاحياء والاسواق دون رادع، وتكاثر ما يعرف بالسكن العشوائي. كل ذلك ومع تدهور خدمات المياه واصحاح البيئة والنظافة وتخطيط وصيانة الطرق، تحولت اجزاء واسعة من المدن الى مجمعات تفتقد لملامح العمران الحضري واقرب الي الريف منها الي المدينة.
الخلاصة
السودان هو البلد الوحيد في هذا العالم الذي تعرض لتجربة "اسلاموية سنية" تحت سلطة مطلقة لتطبيق مشروعها ولفترة ثلاثة عقود، وكانت النتيجة فشل المشروع وتمزيق الدولةً السودانية الي دولتين فاشلتين. وذلك امر حتمي، فالاسلاموية فكرة مختلة للأسباب التي تناولناها آنفاً، ومن طبّقها لم يكن مؤهل اخلاقيا للنجاح حتي ولو كانت الفكرة مبرأةً من كل عيبٍ. فانتهت التجربة الى نمط من الحكم يمزج بين الكليبتوقراطية والثيوقراطية، حيث يتحالف استبداد السلطة مع الفساد المسنودين بالفتوي الدينية في اخضاع الشعب وسرقة مقدّرات الدولة. فكان من الطبيعي تحت هذه الاستنزاف المتواصل لمدة 30 سنة ان تصبح الدولة على حافة الانهيار.
فالمشروع الاسلاموي في السودان عمل جاهداً على هدم مقدّرات ومكتسبات الدولة السودانوية من تاريخ وجغرافيا وهوية، والتي تشكلت عبر الاف السنين، لإحلال دولة عروباسلاموية مكانها قسرياً، وفشل.
11 أغسطس 2020م
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

* ISI هي قاعدة بيانات للأبحاث المنشورة في المجلات العالمية للعلوم والعلوم الإنسانية وتعرف حاليأً باسم Clarivate Science Citation Index، وهي تعتمد فقط المجلات البحثية ذات الابحاث الرصينة عالية الجودة والتي تخضع ابحاثها لمستوي تحكيم عالي الدقة.
المراجع:
[1] "الحركة الاسلامية في السودان"، د. حسن عبد الله الترابي.
[2] "معالم في الطريق"، سيد قطب، دار الشروق، الطبعة السادسة، 1979م.
[3] "هل الحكم لله أم للناس؟" بقلم: السيد غيث القضاة
http://www.alghad.com/articles/2066102-
[4] "مفهوم الحاكمية عند سيد قطب بين جدل الديني والسياسي" بقلم: غيضان السيد علي باحث مصري، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب، جامعة بني سويف.
[5] "مراجعة مفهوم الحاكمية لله"، بقلم: د. رحيل محمد غرايبة.
https://www.addustour.com/articles/1042089
[6] "مفهوم الحاكمية بين المودودي وسيد قطب"، يوسف عمر يوسف.
https://www.aljazeera.net/blogs/2018/7/1/
[7] "الأصولية الإسلامية بين الدعوة الدينية والإيديولوجيا السياسية"، محمد عبده أبو العلا، في الدولة والدين في الفكر العربي المعاصر، تقديم وتنسيق: د. الطيب بوعزة و د. يوسف بن عدي.
[8] "ما بعد الاسلاموية على نطاق واسع"، آصف بيات، ترجمة: محمد العربي.
https://hekmah.org/%d9%85%d8%a7%d8%a8%d8%b9%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85%d9%88%d9%8a%d8%a9/
[9] M. Mozaffari, "Totalitarian Movements and Political Religions", Vol. 8, No. 1, 17–33, March 2007
[10] " الصراع بين المهدي والعلماء"، د. عبد الله علي ابراهيم، دار نوبار للطباعة، 1994م.
[11] فقه الدعوة .. ملامح وآفاق "الجزء الثاني "فقه المرحلة والانتقال من المبادئ إلى البرامج في حوار مع: الدكتور حسن عبد الله الترابي. https://www.islamweb.net/newlibrary/display_umma.php?lang=&BabId=2&ChapterId=2&BookId=219&CatId=201&startno=0
[12] "الحركة الاسلامية في السودان"، د. محمد المختار الشنقيطي، مركز صناعة الفكر، بيروت، 2011م.
[13] "السياسة والحكم: السنن السلطانية بين الاصول والواقع"، د. حسن عبد الله الترابي.
[14] شاهد على العصر مع د. حسن الترابي، جزء 11.
https://www.youtube.com/watch?v=Y31JJ9sUH4w
[15] شاهد على العصر مع د. حسن الترابي، جزء 12.
https://www.youtube.com/watch?v=IOLZRANGEwc
[16] https://www.un.org/securitycouncil/ar/content/resolutions
[17] شاهد على العصر- د. حسن الترابي، جزء 9، الدقائق من ] 36.30 الي 37:35[
https://www.youtube.com/watch?v=jSoIkIpMQZQ
[18] https://mhtwyat.com/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B5%D9%86%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A-%D9%84%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%85/
[19] لمحات عن البحث العلمي في الدول العربية (2008م – 2018م)، منظمة المجتمع العلمي العربي.
https://www.arsco.org/Ebooks/_ShowDocument/?filename=310520094837.zip
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.